تمضي السلطات السودانية الخاضعة لسيطرة الجيش قدمًا في تضييق الخناق على الأنشطة المدنية الداعية إلى إنهاء الحرب، ما يؤدي في خاتمة المطاف إلى عسكرة الفضاء العام في ظل تنامي الشائعات والدعاية الحربية من طرفَي النزاع.
ومنعت هيئة استخبارات الجيش مساء السبت 19 أغسطس/ آب الحالي، قيام فعالية ثقافية نظّمها الحزب الشيوعي بمدينة الدمازين بولاية النيل الأزرق جنوب السودان، لتعتقل 30 فردًا من الحاضرين قبل أن تطلق سراحهم لاحقًا بالتعهُّد الشخصي، وفقًا لبيان صادر عن “محامو الطوارئ”.
ويقول البيان إن هذا المسلك تكرر كثيرًا من استخبارات الجيش تجاه المدنيين، الرافضين للحرب التي تسعى للعودة إلى العهود المظلمة والتعدي على الحريات العامة وعسكرة الحياة المدنية، وملاحقة كل من يعمل أو يقف ضد النزاع الذي اندلع بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع في 15 أبريل/ نيسان من هذا العام.
وأبدت الحركة الاحتجاجية السلمية في المدينة رفضها محاولات تكميم الأفواه، في وقت تُقام فعاليات أنصار الرئيس المعزول عمر البشير تحت حماية أجهزة الولاية الأمنية، بما في ذلك فعالية تدشين أعمال اللجنة العليا لدعم الجيش التي نُظمت في 17 أغسطس/ آب الجاري.
مزيد من قهر السلطة
لم يكن منع فعالية الحزب الشيوعي في الدمازين الأول من نوعه، فقد منع جهاز المخابرات العامة في 12 أغسطس/ آب الحالي ندوة “مبادرة لا لقهر النساء”، قبل دقائق من انطلاقتها في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة وسط السودان، وكانت بعنوان: “أرضًا سلاح.. نقولها نحن النساء”.
ولاحقًا، برّر والي ولاية الجزيرة خطوة منع قيام الندوة بدعوتها لإنهاء الحرب، منتقدًا عدم إدانة “لا لقهر النساء”، وهي مؤسسة نسوية تناصر قضايا المرأة، لانتهاكات قوات الدعم السريع، لا سيما العنف الجنسي المتصل بالنزاع، ما دعا المؤسسة إلى الردّ بقوة.
تتسيّد في السودان الدعاية الحربية والتعبئة العامة والاستقطاب الأهلي وتفشي الكراهية، بينما تُقمع كل الأصوات الرافضة للنزاع.
وفي ولاية سنار، التي تقع جغرافيًّا بين النيل الأزرق والجزيرة، اعتقل جهاز المخابرات العامة الصحفي علي العرش، بعد نشره لتقرير في صحيفة “الجريدة” المحلية استعرض فيه تردي أوضاع الفارّين من القتال المندلع في العاصمة الخرطوم، وعدم اهتمام السلطات بمراكز الإيواء، وقرار جهاز المخابرات ومفوضية العون الإنساني بإغلاق بعض هذه المراكز بالقوة.
ولم يفرج الجهاز عن العرش الذي اُعتقل منتصف هذا الشهر حتى الآن، حيث يُعيد هذا الاحتجاز المطوّل السمعة السيئة التي تمتّع بها الجهاز في حقبة الرئيس المعزول عمر البشير، وذلك قبل أن تنزع منه حكومة الانتقال صلاحيات اعتقال الأشخاص، واقتصر دوره على جمع المعلومات وتحليلها.
وبات السودان في وضع تتسيّده الدعاية الحربية والتعبئة العامة والاستقطاب الأهلي وتفشي الكراهية، بينما تُقمع كل الأصوات الرافضة للنزاع ونتائج استمراره على الشؤون الإنسانية والاقتصادية والأمنية، إذ أصبح يقوّض قدرة الدولة على البقاء، في ظل تمدد الحرب وتعدد أطرافها.
مفارقة واضحة في إقليم هشّ
تتحدث تقارير صحفية عن نشاط واسع لأنصار البشير في ولاية كسلا شرق السودان، لاستنفار الشباب من أجل المشاركة الفعلية في القتال إلى جانب الجيش، رغم أن بعضهم مطلوب للعدالة في دعاوى كانت تنظر فيها المحاكم.
ومقابل ذلك، استدعت استخبارات الجيش 6 من قادة الجبهة المدنية شاركوا في اجتماع عُقد في مدينة كسلا في 12 أغسطس/ آب الحالي، حيث أبلغتهم أن هناك تعليمات باعتقال كل من شارك في الاجتماع، كما أخطرتهم بحظر النشاط المدني إلى حين انتهاء الحرب، بحسب القيادي في الجبهة صالح عمار.
ويقول عمار إن القوى المدنية انخرطت منذ اندلاع الحرب في نشاط جاد للحفاظ على السلم الأهلي وتوفير المساعدات الإنسانية لإقليم شرق السودان والنازحين في مناطق النزاع، حيث أسهم هذا النشاط في الحفاظ على كرامة الكثيرين ونجحَ في إغلاق الباب أمام طيف واسع من مهددات السلم الأهلي.
ويعيش إقليم شرق السودان منذ عام 2019 في استقطاب أهلي حاد، حول الموقف من مسار الشرق المضمّن في اتفاق السلام الموقّع بين حكومة الانتقال وتنظيمات مسلحة وسياسية في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، جعل الإقليم على حافة الانفجار.
السماح بتفشي خطاب الكراهية وتجريم الآخرين لمجرد مطالبتهم بإنهاء النزاع، يمكن أن يقود إلى إشعال أعمال عنف حتى في المناطق الآمنة
وتسبّب هذا الاستقطاب في اندلاع أعمال عنف أهلي في أوقات سابقة، كانت حكومة الانتقال تسارع إلى احتوائه عبر اتفاقيات تصالح، لكن إذا انفجر هذا النزاع مجددًا لن يجد الإقليم ترف توقيع مثل هذه الاتفاقيات التي لا تصمد كثيرًا، وهذا يعني أن إشعال عود ثقاب يمكن أن يشعل نارًا قد لا تخمد.
ويوضّح صالح عمار أن جهاز الدولة فشل في الإيفاء بالتزاماته تجاه المدنيين، بما في ذلك توفير مياه الشرب والغذاء والصحة، ومع ذلك تصرّ الأجهزة الأمنية على تضييق الخناق على المنظمات الإغاثية والمتطوعين والنشطاء الساعين إلى إحلال السلام.
وحذّر من أن تسخير نظام البشير لإمكانية الدولة في خدمة هدفهم المتمثل في توزيع السلاح على المواطنين، وصولًا إلى إعلان المقاومة الشعبية وحلّ الجيش، يهدد شرق السودان وأراضي السودان قاطبة بالانجرار إلى حرب أهلية تقضي على الأخضر واليابس.
وطالب عمار الجيش بإعادة النظر في علاقته بالقوى المدنية واحترام حق التعبير والتنظيم، ولا يتوقع من واقع تاريخ القوات المسلحة أنها ستضع هذا النصح في عين الاعتبار.
إعدام الحياة المدنية
إن السماح بتفشي خطاب الكراهية وتجريم الآخرين لمجرد مطالبتهم بإنهاء النزاع الذي تسبّب في فرار أكثر من 4 ملايين شخص من منازلهم، يمكن أن يقود إلى إشعال أعمال عنف حتى في المناطق الآمنة، وربما يدفع إلى تشكيل ميليشيات خاصة في ظل انتشار السلاح.
لا يتطلب وضع السودان الحالي إنهاء النزاع بأسرع وقت ممكن فقط، إنما يحتاج إلى تبنّي برنامج واضح يحقق العدالة لضحايا الحروب السابقة والحرب الدائرة الآن، من أجل إزالة الاحتقان الاجتماعي الذي إن تفاقم أكثر من ذلك فلن يكون هناك صوت يعلو صوت المعركة في البلاد.
وعادة، لا يحل السلاح الخلافات التي تدفع إلى حمله بل يعقّدها مع مزيد من الضحايا، ما يعني أن السودان بحاجة إلى السماح بحرية التعبير والتنظيم بدلًا عن كبتها بواسطة استخبارات الجيش العسكرية.
تخطت السلطات الخاضعة للجيش مرحلة التضييق على الأنشطة المدنية إلى مرحلة الإعدام، حيث انتقلت من مرحلة اعتقال الداعين لإنهاء الحرب إلى وضع حد لها.
وبينما يقمع الجيش الأصوات المنادية بالحرب، تعمل قوات الدعم السريع على استقطاب الميليشيات لتقاتل لصالحه، مثل ميليشيا درع السودان الناشطة في تجنيد الأفراد في وسط البلاد، والتي يتزعّمها أبو عاقلة كيكل وحركة الجبهة الثالثة – تمازج الموقعة على اتفاق السلام.
وظلت قبائل السودان توالي كل نظام يحكم البلاد، لكنها الآن تسارع في إعلان دعمها لطرفَي النزاع، ما يهدد السلم الأهلي، لا سيما أن القبيلة في مواقف عديدة تملك سلطة مطلقة على أفرادها، الذين يطيعون توجيهات قادتهم خوفًا من النبذ الاجتماعي.
وحاليًّا، تخطت السلطات الخاضعة للجيش مرحلة التضييق على الأنشطة المدنية إلى مرحلة الإعدام، حيث انتقلت من مرحلة اعتقال الداعين لإنهاء الحرب إلى وضع حد لها، ولا شك أن هذا الإعدام سيؤدي إلى عسكرة المجتمع وترك الساحة للقوى التقليدية مثل القبائل والوجهاء ورجال الدين.