ترجمة وتحرير فريق نون بوست
لطالما كانت مصر وإثيوبيا على خلافٍ خلال معظم فترات تاريخهما الحديث، خاصة بسبب محاولاتهما تأمين المياه في حوض نهر النيل. وقد تفاقم هذا الصراع في المفاوضات التي جرت مؤخرا حول سدّ النهضة الإثيوبي العظيم، الذي يقع على نهر النيل الأزرق. ومن المرجح أن تاريخ المنافسة حول الممر المائي الحساس قد يمهد لسياق من الديناميكيات الإقليمية التي قد تدوم لفترة طويلة في المستقبل.
المياه المضطربة
في الواقع، تُعتبر المعاهدات بين كل من مصر وإثيوبيا محور الجدل القائم حول نهر النيل. ففي المقام الأول، لم تشمل معظم تلك الاتفاقيات أثيوبيا، حيث كانت المعاهدات مجرد أدوات استخدمها الاستعمار البريطاني في القرنين التاسع عشر والعشرين، لإدارة العلاقة بين مستعمرتي مصر والسودان التابعتين له. وفي المقابل، لم تكن أثيوبيا مستعمرة آنذاك من قِبل بريطانيا، إلا أنها لجأت في بعض الأوقات إلى التفاوض مع المستعمر البريطاني حول استخدام نهر النيل، ولم تتوصل معه إلى أي اتفاق.
ومؤخرا، رفضت أديس أبابا الإطار القانوني القائم في هذه الفترة لإدارة النهر في عدة مناسبات. ولعل من أبرز مخاوف إثيوبيا هو عدم توفر الحماية الكافية لها باعتبارها دولة منبع، بنفس الطريقة التي تتم بها حماية دول المصب، مثل مصر.
ومن وجهة نظر إثيوبيا، كان من الواجب دعوتها للاتفاقات الأولية التي تم فيها تحديد شروط استخدام المياه. ونظرا لتهميشها في عملية إدارة النهر، تابعت إثيوبيا العمل على مشاريع التنمية الذاتية مثل سد النهضة.
ومن وجهة نظر أخرى، يمثل هذا النوع من المشاريع مشكلة كبيرة لمصر، حيث يُعد النيل المصدر الأول للمياه العذبة في البلاد وللري الزراعي في المناطق الصحراوية. ولهذا السبب سيطرت مصر، وستستمر في السيطرة على مياه نهر النيل، خاصة وأنه يمثل مصدر الحياة في مصر.
وسائل خفية
تمّ التوصل إلى أحدث وأهم المعاهدات حول إدارة نهر النيل في سنة 1959، التي كانت بداية تاريخ حديث بين الدول فيما يخص نهر النيل. وقد تم توقيع المعاهدة بعد وقت قصير من إعلان استقلال السودان في سنة 1956، تزامنا مع تولي جمال عبد الناصر، رئاسة مصر. وقد تضمنت هذه الاتفاقية تحديد كمية المياه المستحقة لكل بلد وتأسيس المشاريع المشتركة للحد من فقدان الماء بسبب ظاهرة التبخر في أجزاء معينة من النيل. ولكن الاتفاق لم يشمل مرة أخرى، الجانب الأثيوبي.
وفي ذلك الوقت، لم يكن عبد الناصر غافلا عن مخاوف إثيوبيا أو أهميتها للأمن المائي المصري. وفي السنوات التي سبقت تولي عبد الناصر للسلطة، حاولت مصر السيطرة على النيل الأزرق، وهو أحد الروافد الرئيسية لنهر النيل.
وخلال القرن التاسع عشر، حاولت مصر غزو إثيوبيا للسيطرة على هذا الجزء من الحوض. لكنّ القوّات الإثيوبية تصدت للغزو المصري في سواحل ما يعرف اليوم بشمال إريتريا.
وعلى الرغم من فشل الغزو، أبقت مصر على بعض قواتها في مدينة “مصوع” (أصبحت حاليا جزء من إريتريا) بهدف الحفاظ على الخيارات العسكرية ضد إثيوبيا. وبحلول سنة 1956، وتولي عبد الناصر الحكم في مصر، لم يعد للجيش المصري تواجد في أثيوبيا. وفي الأثناء، انسحب الاحتلال البريطاني من المنطقة. وفي سنة 1952، دخلت إريتريا في اتحاد مع أثيوبيا.
علاوة على كل ذلك، حاول عبد الناصر التعامل مع إثيوبيا من خلال الدبلوماسية بدل محاولة إخضاعها عسكريا، حيث عمل على توطيد علاقات مباشرة مع حكام إثيوبيا بصفة مستمرة. وعلى الرغم من ذلك، فشل عبد الناصر في إقناع إمبراطور إثيوبيا بزيارة مصر.
وفي الإطار نفسه، أبدت إثيوبيا اهتمامها بالتعاون مع مصر فيما يخص القضايا المائية، إلا أن أفكار القومية العربية التي نشرها عبد الناصر في بلاده وفي المنطقة، مثلت عائقا أمام تعاون البلدين، حيث كانت إثيوبيا تعتقد أن هذا الفكر بمثابة تقويض لنظام الملكية، بما فيها نظامها الذاتي.
انحسار الصراع
تأثر البلدان بسياسات الحرب الباردة. وبينما كان الاتحاد السوفييتي يدعم عبد الناصر، كانت الولايات المتّحدة تدعم إثيوبيا. ونظرا إلى أن الشيوعية تشكّل تهديدا للأنظمة الملكية، رفض حكام إثيوبيا الشيوعية وجميع حلفائها.
وفي نهاية المطاف، أطاحت الشيوعية بالنظام الملكي الإثيوبي، من خلال السيطرة على لجنة التنسيق للقوات المسلحة والشرطة والجيش الإقليمي (مجلس عسكري ماركسي لينيني) في البلاد في سنة 1974. والجدير بالذكر، أن النظام الملكي الإثيوبي قد منع التعامل مع نظام عبد الناصر قبل فترة من الإطاحة به، مما دفع عبد الناصر للبحث عن وسائل أخرى لمحاولة السيطرة على النيل الأزرق.
نتيجة لذلك، بدأت حكومة عبد الناصر في محاولة تقويض الحكومة الإثيوبية. وارتكز المخطط الأساسي للنظام المصري على مساعدة إريتريا والصومال، بهدف إضعاف أديس أبابا. كما لجأت مصر إلى تحريض المسلمين في إثيوبيا على مقاومة الإمبراطور المسيحي، وتم استخدام الخطابات الحماسية في إذاعة القاهرة لتأليب الشعب ضده. إضافة إلى ذلك، وفرت مصر التسهيلات للثوار في إريتريا لنشر الدعاية الخاصة بهم. ولم تكتفي بذلك، بل عملت على توفير تدريب عسكري للإريتريين، الذين أصبح العديد منهم جزءا من السلطة بعد استقلال إريتريا سنة 1991. واستغل عبد الناصرالصراع العرقي الصومالي الذي اندلع في جنوب شرق أثيوبيا من أجل توحيد الصومال.
وفي النهاية، نجح عبد الناصر في مخططاته، حيث أدى تدخله في المنطقة إلى اندلاع حرب بين إثيوبيا والصومال من اجل السيطرة على إقليم أوغادين. وبحلول ذلك الوقت، كانت الشيوعية قد وصلت إلى السلطة في إثيوبيا، ولم يعد عبد الناصر رئيسا لمصر.
وفي نفس السياق، استطاعت إثيوبيا إلحاق الهزيمة بالصومال في النهاية بمساعدة الاتحاد السوفييتي. وبالتالي، أقرت إثيوبيا باحتضانها لمبادئ الشيوعية. وخلال هذه الفترة، أصبح أنور السادات رئيسا لمصر، وتغيرت أولويات البلاد. وفي الأثناء، لم تكن إثيوبيا في وضع يسمح لها بالاستمرار في منافسة مصر، فقد كانت منشغلة بالصراع الداخلي وحرب الاستقلال في إريتريا. ونتيجة لذلك، خفّت حدّة محاولات البلدين تقويض الطرف الآخر لبعض الوقت.
المياه الثمينة
في سنة 2011، عادت التوترات للظهور على السطح وتعكير العلاقات بين البلدين عندما بدأت إثيوبيا ببناء سد النهضة بالقرب من الحدود الإثيوبية السودانية. ودفع مشروع السد مصر للدخول في جولة جديدة من المفاوضات للتأكّد من عدم إضرار السد بمصالح مصر المائية. ومنذ ذلك الحين، تقدم بناء السدّ، وكذلك العملية الدبلوماسية الخاصة به، بخطى بطيئة وثابتة.
وفي ذات الوقت، لجأت مصر إلى التعاون مع إثيوبيا نظرا إلى أنها لا تملك حلولا بديلة لإيقاف بناء السدّ. ومن ناحية أخرى، تواصلت المخاوف التاريخية بين القاهرة وأديس أبابا.
وفي الوقت الراهن، تواجه إثيوبيا اضطرابات داخلية يقودها الخلاف العرقي، وانتشرت مرة أخرى إشاعات تتهم مصر بدعم مقاتلي المعارضة. وخلافا لذلك، دخلت بلدان أخرى في المنافسة القائمة بين إثيوبيا ومصر، أبرزها المملكة العربية السعودية التي تأمل أن تستفيد من سد النهضة بهدف التأثير على مصر.
ومؤخرا، سعت مصر إلى تحقيق قدر أكبر من الاستقلال في سياستها الخارجية في الشرق الأوسط، ومقاومة كل المحاولات التي تهدف لوضعها تحت تأثير خارجي.
المصدر: ستراتفور