في الوقت الذي تمكنت فيه بعض الدول العربية من استئصال الاستبداد والانتقال بالبلاد إلى مرحلة أخرى يطمح فيها الشعب أن يزدهر الاقتصاد وترتفع مستوى معيشته ويتم القضاء على الفقر والبطالة بشتى الوسائل.
أصبح السؤال الأبرز لدى الجميع هو كيف نحقق الازدهار والنمو الاقتصادي؟ هل يكون من خلال المساعدات الخارجية واستضافة المؤتمرات الاقتصادية أو الاقتراض من صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية؟! هل سبب نجاح الأمم هو الثروة الطبيعية ولا أمل لغيرها أن تنجح بدونها يا ترى!. تسليط الضوء على دول أجنبية عانت مما عانته الدول العربية ولو كان ذلك نسبيًا سيكون مفيد وفيه عبرة كبيرة يمكن اقتباس تجاربها والتعلم من دروسها.
كيف ينمو المجتمع ويزدهر؟
تمكنت دول عديدة حول العالم من تحقيق معجزة اقتصادية بالرغم أنها لا تمتلك ثروات طبيعية بل وتعاني من كوارث طبيعية ومع ذلك تمكنت من تحقيق تنمية عالية رفعت من مستوى معيشة المواطن وقضت على الفقر والبطالة بشكل كبير. دول مثل هولندا وألمانيا الغربية واسكوتلندا وسنغافورة وهونغ كونغ وأخرى غيرها تمثل تجربتها الاقتصادية درسًا يمكن الاستفادة منه.
الإزدهار الاقتصادي لا يرتبط بالأفكار الجديدة بل بتسويق تلك الأفكار، وتسويقها يعتمد على فرض ضرائب منخفضة ومظلة قانونية والوصول للأسواق المالية
القاسم المشترك بين كل تلك الدول هو الإنفتاح واستثمار رأس المال البشري حيث استوعبت كافة المهاجرين إليها من كل الأديان والأعراق وشرعت لهم حقوق التملك، أدى اتباع هذه السياسة لموجة هجرة لتجار ومتعلمين وعمال مهرة ومصرفيين إلى تلك الدول ساعدوا في تحويل هولندا مثلا إلى مركز مالي وتجاري عالمي في القرن السابع عشر، تم تأسيس أول بورصة مالية في العالم في هولندا، تاجر فيها العديد من البلدان حول العالم، ويعد جل رأس المال المستثمر في هولندا ملكًا لأجانب توطنوا في هولندا أو لهولنديين ولدوا في الخارج وهذا يعبر عن العولمة المتواجدة في ذلك الوقت أي القرن السابع عشر.
هولندا
أحد العوامل المهمة التي ساعدت تلك الدول؛ المظلة القانونية المتساهلة التي وفرتها الحكومة للشركات بالإضافة إلى الضرائب المنخفضة نسبيًا، استطاعت بذلك جذب المهاجرين من أصحاب المشاريع الفردية من مختلف أنحاء العالم للاستثمار فيها.
المعجزة الاقتصادية
المعجزة الاقتصادية لا تأتي أحيانًا من ذكاء الشعب أو من المساعدات الأجنبية كما حصل في خطة “مارشال” لبناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، إذ يرى روفين برينير في كتابه “أسباب النمو الاقتصادي” أن الفترة ما بين 1945 و 1961 استقبلت ألمانيا الغربية 12 مليون مهاجر معظمهم مدرب بصورة جيدة هربوا من ألمانيا الشرقية وبولندا وتشيكوسولفاكيا، فضلًا عن ذلك فقد وفرت الحكومة معدلات ضريبية منخفضة، وامتلكت إدارة الإنتاج وفتحت الطريق أمام الشركات الناشئة لتعمل وتنتج.
ولا يعود الفضل في نهضة ألمانيا إلى خطة مارشال كما يشاع برأي برينير، ولا داعي للتذكير ماذا حل بألمانيا جراء الحرب العالمية الثانية وأن الناظر إليها كان يعتقد أنه لن تقوم لها قائمة.
في اسكتلدا ذات الأراضي القاحلة والجبال الشاهقة والأنهار الغير صالحة للملاحة والشعب البسيط الغير متعلم حدث لديهم في القرن الثامن عشر معجزة أيضًا فبعد الاتحاد الذي حصل مع إنجلترا عام 1707 وأصبحت جزء منها تم إلغاء البرلمان الاسكتلندي والسماح بالدخول للأسواق الإنكليزية. وهذا شكل عاملًا في منع النظام المصرفي والأسواق المالية أن تصبح أداة لتمويل حكومي فأصبحت سوقًا ماليًا يتجاوب مع متطلبات الاقتصاد الخاص. حيث تأسس 40 بنك خاص في العام 1810 وبدون تشدد في السياسات إلا في حال القروض المكفولة بضمان سلع في الترانزيت أو قيد التصنيع.
القاسم المشترك بين الدول المزدهرة هو الإنفتاح واستثمار رأس المال البشري
ويذكر برينير أن البنوك ازدهر عملها بمدخرات السكان الضئيلة الذين وظفوها لخدمة بلدهم وتنمية الإنتاج، كما لم يكن هناك مضايقات وتمييزات وقيود تعيق العمل المصرفي. ومن جانب آخر تميزت اسكتلندا بنظام التعليم الذي خرّج علماء ومن بينهم آدم سميث الذي يعتبر أول من خط في الاقتصاد السياسي في كتابه “ثروة الأمم”.
لم تتلقى اسكتلندا أي مساعدات خارجية ولم يكن لديهم شيء يستحق الذكر ولكن حينما نمت الأسواق المالية من دون معوقات استخدم الشعب مدخراته في أفضل ما يكون حيث انتقلت تلك المدخرات الى الشركات الخاصة، في حين انتقلت تلك الأمول مثلا في انجلترا إلى الحكومة وضمت للميزانية العامة التي تخضع لبنود الإنفاق الحكومي المتنوع. لذا لم يكن في اسكتلندا ما يمنع من المشاريع الفردية وتشجيع العلم.
هونج كونج
أصبحت سنغافورة تعد أفضل دولة لممارسة الأعمال الاقتصادية ضمن 189 دولة احتفظت بالمرتبة الأولى لأعوام كثيرة متتالية، علمًا أنها ذاك البلد الصغير ذو الموارد المحدودة جدًا استطاع في ظرف سنوات قليلة وخطط للقضاء على الفساد والرشوة التي كانت تعاني منه البلاد بعد استقلالها من ماليزيا في العام 1965 ومن ثم عملت كما غيرها من الدول السابقة على تهيئة أرضية مناسبة للاستثمارات الأجنبية للقدوم والاستثمار من خلال المظلة القانونية والضريبة المنخفضة، والتأسيس لسوق مالية.
دروس للازدهار الاقتصادي
الدروس التي ممكن استخلاصها من المذكورة أعلاه لتحقيق الإزدهار الاقتصادي لا يرتبط بالأفكار الجديدة كما يرى برينير بل بتسويق تلك الأفكار، وتسويقها يعتمد على فرض ضرائب منخفضة ومظلة قانونية، والوصول للأسواق المالية.
لذا فإن زيادة معدل النمو يرتبط بتقديم حزمة من الضرائب تجذب المستثمر الأجنبي للقدوم والاستثمار وتهيئة أرضية قانونية مناسبة للعمل إلى جانب تشجيع المشاريع الفردية المحلية.
ويذكر برينير من بين الدروس أن تكون الأسواق المالية ذا عمق مناسب بمعنى أن تكون قادرة على عكس التوقعات المتعلقة بسياسات الحكومة والبنك المركزي الذي تؤثر قوانينه وسياساته وأنظمته على إدارة الشركات. ومن دون العمق المناسب سيقل اهتمام رأس المال بها.
كل ما سبق كان عجالة صغيرة لبعض الدول الأجنبية في القرون الماضية التي عملت على تطبيق جملة من السياسات مكنتها من النمو والازدهار بالشكل التي لا تزال إلى الآن تحتل مراتب متقدمة في جميع المؤشرات الاقتصادية.
عسى أن تستفيد الدول العربية التي خرجت من رحم الاستبداد وتحاول بشتى الوسائل النهوض والازدهار باقتصاداتها وشعوبها وتحقيق ما تصبو إليه بالخروج من عباءة الحلول التي تطرحها المؤسسات الدولية المقرضة وعدم الاعتماد بشكل كبير على المؤتمرات الاستثمارية، بل العمل على خلق البيئة والمناخ الجاذب للاستثمار أكثر من أي شيء آخر والتركيز على الإنتاجية وعدم الارتهان على الريع من إيرادات الموارد الطبيعية وغيرها.