يتصدر ملف إعادة إعمار سوريا مجددًا المشهد السوري المتشابك، وتتسابق المنظمات الدولية والأممية في تقدير كلفة إعادة الإعمار، وتتضارب الأرقام والتقديرات، وذلك بالتزامن مع تطورات سياسية حساسة يشهدها الملف السوري، تتمثل بالخطوات العربية الحثيثة تجاه نظام الأسد، واستضافته في مدينة جدة للمشاركة في القمة العربية بعد قرار الجامعة العربية منحه مقعد سوريا، ومحاولات بعض القوى الإقليمية والعربية التطبيع مع النظام، وطي صفحة خلافات تجاوزت عقدًا من الزمن، في تماهٍ مع رؤية النظام وحلفائه الروس للحل السياسي في سوريا، والقفز على القرارات الدولية، لأهداف سياسية خاصة تختلف باختلاف تداخل هذه القوى وانخراطها في المعادلة السورية.
أدى ذلك بشكل أو بآخر إلى زيادة تصلب نظام الأسد وتعنته تجاه تقديم تنازلات سياسية معينة، وإغرائه بمزيد من الطرق الالتفافية على العقوبات الاقتصادية الجاثمة عليه منذ أكثر من عقد.
ويستغل النظام ملف إعادة الإعمار لابتزاز بعض القوى الإقليمية الراغبة في تثبيت قدم لها ضمن خطة إعادة الإعمار، بقضايا تؤثر سلبًا عليها كمسألة عودة اللاجئين السوريين، وملف تجارة المخدرات، الذي يستعمله النظام كأداة ابتزاز ومصدر تمويل مالي ضخم بعد جفاف منابعه وتضاعف خسائره المالية، وأحد أهم مصادر تمويل عملياته العسكرية والمليشيات التابعة له، إضافة إلى استمرار رفضه الاعتراف بالطرف الآخر، ورفضه تقديم أي تنازل يفضي إلى حل سياسي يكون بداية لتعافي اجتماعي واقتصادي وسياسي في سوريا.
ورغم محاولات نظام الأسد وحلفائه الحثيثة الترويج لبدء مشاريع إعادة الإعمار على مدى السنوات الأخيرة، وإظهار جهوزيتهم وقدرتهم على تنفيذ متطلبات المرحلة، من خلال تحضير حكومة النظام بشكل متكرر مشاريع استثمارية لحلفائها، لكسر جمود المرحلة، وتقديم صورة مغلوطة توهم باستقرار سوريا وسيرها على طريق التعافي وتحقيق السلام الداخلي، فإن الواقع السوري يقول غير ذلك، مع بروز جملة من التحديات والعوائق التي تؤثر على جهود إعادة الإعمار، وانتفاء شروط لازمة وضرورية للبدء فيها.
شروط إعادة الإعمار
بالنظر إلى تجارب سابقة لدول عانت من ويلات حروب دمرت بنيتها الاقتصادية والاجتماعية، وخربت حضارتها وعمرانها، فإننا نصطدم بمجموعة من الشروط الرئيسية التي لا بد من توافرها أو توافر معظمها للبدء بعملية إعادة إعمار شامل ناجح، يعيد لتلك الدولة ما دمرته الحرب.
وعليه فإن عملية إعادة الإعمار ليست أمرًا حتميًا بعد انتهاء أي صراع كما يُخيل للبعض، بل يعتمد ذلك على عدة عوامل تحدد مسار العملية، وطريقة تأثرها سلبًا أو إيجابًا، فهل يمكن القول إن الشروط اللازمة للبدء بمرحلة إعادة الإعمار توافرت فعلًا في الحالة السورية؟
الفوضى الأمنية
يرى كثيرون أن الموضوع الأمني وحالة الاستقرار أحد الركائز الأساسية التي تستند إليها عملية إعادة الإعمار في أي منطقة، إذ يعد من المؤشرات المهمة التي تؤكد انتهاء أو قرب انتهاء الصراع، وشرطًا أساسيًا لاستقطاب الاستثمارات الداخلية والخارجية، وبداية عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية السابقة لعملية إعادة الإعمار.
وبالعودة إلى الملف السوري، ومع استعادة نظام الأسد زمام المبادرة العسكرية بعد تدخل روسي قلب ميزان المعادلة السياسية والميدانية، وتراجع حظوظ إسقاطه عسكريًا، ودخول الصراع في سوريا مرحلة “تجميد النزاع” سياسيًا وعسكريًا بين قوى مختلفة، دخل النظام سباقًا محمومًا لإعلان “الانتصار على الإرهاب” والترويج لمرحلة الأمن والاستقرار وإعادة الإعمار.
ورغم ذلك، بات من الواضح للعيان حالة الفوضى الأمنية وبيئة عدم الاستقرار التي تعيشها عموم الجغرافيا السورية، وكذلك المشهد الأمني الهش، نتيجة استمرار التوترات الأمنية والاجتماعية، من استمرارٍ لعمليات القصف والاحتكاكات العسكرية المستمرة بين القوى الفاعلة المسيطرة ميدانيًا والتفجيرات المتكررة وعمليات الاغتيال والاختراقات الأمنية والحالة الميليشياوية، حيث تتصاعد حالة فوضى السلاح في مناطق سيطرة النظام وعمليات الابتزاز والقمع الأمني والاشتباكات المتكررة بين الميليشيات المرتبطة بقوى موالية للنظام، مختلفة الولاءات.
كما يتورط نظام الأسد مباشرةً في تجارة المخدرات، التي تدر على شخصيات عسكرية وأمنية مقربة منه أرباحًا هائلةً تساهم في تغذية حالة الفوضى وتصب في صالح أمراء الحرب المرتبطين بالنظام والمنخرطين في مجال الأعمال، فضلًا عن تراجع حجم التأثير المحلي لصالح ازدياد حجم التدخل والنفوذ الخارجي للقوى الدولية والإقليمية، وانقسام مناطق النفوذ بين عدة قوى رئيسة، وبقاء المنطقة حبيسة احتمالات الانفجار والتصعيد المحلي والإقليمي، لارتباطها بملفات دولية وإقليمية أوسع.
ومما يعزز من حالة عدم الاستقرار أيضًا، استمرار نظام الأسد في أسلوبه القمعي الدموي الأمني، في محاولة لإخماد أي شرارة مستقبلية ضده، ما يُنذر بمزيد من التصعيد، وذلك عبر ارتكابه انتهاكات لحقوق الإنسان متمثلة في استمرار مسلسل الاعتقالات التعسفية، وقتل العشرات تحت التعذيب في سجونه.
حيث وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما لا يقل عن 1047 حالة اعتقال بينهم 43 طفلًا و37 سيدةً في النصف الأول من عام 2023، كما سجلت الشبكة ما لا يقل عن 197 حالة اعتقال من قوات النظام في يوليو/تموز الماضي، بينهم 11 طفلًا و3 سيدات.
هذا إلى جانب اتباع قوات النظام سياسة انتقامية من كل معارضيه، وهو ما يتجلى في عمليات الاعتقال والاغتيال والتصفية تحت التعذيب التي ترتكبها أجهزة النظام الأمنية والميليشيات الموالية لها، لمعارضين ومقاتلين سابقين في فصائل الجيش الحر التي انخرطت في اتفاقيات “التسوية” و”المصالحة”، لاسيما في محافظة درعا التي تشهد فلتانًا أمنيًا وحملات عسكرية وأمنية لقوات النظام، بدءًا من مدينة طفس، ثم مدينة جاسم وبلدة اليادودة، وأحياء درعا البلد وطريق السد ومخيم درعا.
فقد وثق “تجمع أحرار حوران” المتخصص بتوثيق أحداث الجنوب السوري وتغطيتها، مقتل 633 شخصًا في عموم محافظة درعا في عام 2022، بينهم 106 أشخاص من خارج المحافظة، كما أحصى 388 عملية ومحاولة اغتيال، أسفرت عن مقتل 313 شخصًا، بينهم 222 شخصًا مدنيًا، بينما وثق مقتل 57 شخصًا في المحافظة خلال شهر يوليو/تموز الماضي، بينهم طفلان وسيدتان.
في مقابل هذه الانتهاكات التي يتعرض لها السكان المحليون، من مدنيين ومقاتلين سابقين، حدثت عمليات انتقامية ضد قوات النظام بشكل متكرر، خاصة في مناطق الجنوب السوري الذي شهد مرات عديدة استهدافًا لحواجز النظام في محيط المدن والقرى واغتيال شخصيات محسوبة على النظام وكتابة شعارت ثورية على الجدران في مناطق مختلفة وخروج احتجاجات ومظاهرات دورية مناهضة للنظام في درعا، فيما تشهد السويداء منذ 20 آب أغسطس انتفاضة يتصاعد زخمها تطالب رحيل الأسد.
وهو ما يُعد واحدًا من النماذج الهشة لسيطرة النظام الحقيقية على تلك المناطق، وإمساك زمام الأمور في البلاد، ودليلًا واضحًا على بطلان سرديته القائمة على قدرته على الشروع بمرحلة إعادة الإعمار.
إحجام دولي عن المساهمة في إعادة الإعمار
يعد توافر الموارد والأصول المالية شرطًا أساسيًا للبدء بمرحلة إعادة الإعمار، وتشمل هذه الموارد التمويل المحلي أو الخارجي والمساعدات الدولية والمنظمات الإنسانية والاستثمارات، لإعادة بناء البنية التحتية وتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى بناء مؤسسات البلاد على أسس قانونية وسياسية تحترم حقوق الإنسان ومشاركته في صنع مصيره.
وفي سوريا، ضاعفت حرب نظام الأسد على الشعب السوري معاناة السوريين المعيشية والإنسانية، بعد أن سخر النظام كل إمكانات ومقدرات وموارد الدولة السورية خدمةً لآلته العسكرية والأمنية التي حصدت أرواح مئات آلاف السوريين وهجّرت نصف سكان سوريا، مستعينًا بحلفائه الروس والإيرانيين.
ما فاقم بدوره الوضع الإنساني والاقتصادي، المستنزف أساسًا، وكبّد القطاعات الاقتصادية السورية خسائر باهظة، مع ما رافق ذلك من دمار واسع ممنهج في البنى التحتية والسكنية للبلاد، وتعطيل حركة التجارة والصناعة والإنتاج، وتوقف عمليات الاستيراد والتصدير، وهروب الكفاءات واليد العاملة وأصحاب رؤوس الأموال من الصناعيين والتجار إلى خارج البلاد، وسط عقوبات اقتصادية دولية صارمة أنهكت ما بقي من الاقتصاد السوري، وتسببت في نتائج كارثية على المستويين الفردي والجمعي.
ورغم توقف العمليات العسكرية نسبيًا منذ العام 2020، ما زال الاقتصاد السوري في حالة تدهور خطير مع انهيار حاد لسعر الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي، ليتجاوز سعر الصرف حاجز 14 ألف ليرة، وتعطل الأنشطة الاقتصادية والإنتاجية، حيث تجاوزت الخسائر التراكمية للاقتصاد السوري 650 مليار دولار نهاية عام 2021، بحسب المركز السوري لبحوث السياسات، ما ترك آثارًا سلبيةً على المجتمع السوري.
إذ أعلن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أن ما يقارب من 12 مليون شخص في سوريا يعانون من انعدام الأمن الغذائي في 2022، بزيادة قدرها 51% مقارنة بعام 2019، بالإضافة إلى تعرض 1.8 مليون مواطن سوري آخر لخطر الوقوع في انعدام الأمن الغذائي، فضلًا عن اعتماد السوريين على الحوالات الخارجية والمساعدات الإنسانية وارتفاع معدلات الهجرة بشكل غير مسبوق.
وبالتالي، فقد أصبح ملف إعادة الإعمار جذابًا لمختلف القوى الدولية التي تتطلع للعب دور مهم وأخذ حصتها من كعكة إعادة إعمار دولة باتت مدمرة اجتماعيًا واقتصاديًا وعمرانيًا، بأعلى فاتورة إعادة إعمار في العصر الحديث تجاوزت 400 مليار دولار وفقًا لتوقعات منظمات دولية وأممية.
وفي ظل محدودية الموارد الاقتصادية والمالية، والخسائر الفادحة التي سببتها الحرب في البنى التحتية والسكنية، سيتعين الاعتماد بشكل كامل على التمويل الخارجي خلال مرحلة إعادة الإعمار، من خلال المساعدات الدولية والاستثمارات من المانحين الدوليين، الذين يأتي في مقدمتهم الغرب (أوروبا والولايات المتحدة) ودول الخليج.
ولا يبدو أن الغرب متحمس لضخ الأموال والبدء بعملية إعادة إعمار دون الوصول إلى حل سياسي شامل نهائي في سوريا، وفقًا لمخرجات قرار مجلس الأمن 2254، ومقاربته المبنية على تحقيق انتقال سياسي في سوريا، في ظل استمرار العقوبات الاقتصادية التي تمنع فعليًا الجهات الراغبة في القفز على القرارات الدولية، ومنح نظام الأسد الأموال والمساعدات بحجة إعادة الإعمار، رغم عدم التوصل إلى تسوية سياسية بسبب تعنت النظام والعرقلة الروسية والإيرانية المستمرة.
تصطدم هذه المحاولات بالتحذيرات الأمريكية بضرورة تجنب التعاون مع نظام الأسد اقتصاديًا، أو الوقوع تحت عقوبات قيصر، الذي يقف حاجزًا صلبًا أمام مساعي نظام الأسد وحلفائه لاستجلاب عقود إعادة الإعمار إلى سوريا، فضلًا عن تقديم مجموعة مشرعين أمريكيين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي مؤخرًا مشروع قرار يمنع الحكومات الأمريكية من الاعتراف ببشار الأسد رئيسًا لسوريا، ويعزز قدرة الولايات المتحدة على فرض عقوبات.
لطالما استثمر نظام الأسد في مآسي السوريين ونكباتهم وآلامهم لتمرير مشاريعه ومصالحه الخاصة، والحصول على مكاسب سياسية واقتصادية، وتجديد مساعيه لتثبيت حكمه وتعزيز قبضته على السلطة وعودته تدريجيًّا إلى الحظيرة الدولية، واستعادة شرعيته على المستوى الدولي والإقليمي، عبر استثمار عضويته كممثل “شرعي” وحيد لسوريا في الوكالات والمؤسسات الدولية لا سيما الأمم المتحدة، في ظل دعم حلفائه في مجلس الأمن، روسيا والصين، وتقاعس المجتمع الدولي.
والآن يعاود النظام الاستثمار في ملف إعادة الإعمار وابتزاز القوى الدولية عبر ربط الملف بأوراق عدة، أبرزها ورقة اللاجئين، وهو ما ذكره رأس النظام بشار الأسد صراحة في مقابلته الأخيرة مع قناة سكاي نيوز عربية، حين تساءل خلال المقابلة عن “كيفية عودة اللاجئ بلا ماء أو كهرباء أو مدارس لأبنائه أو خدمات صحية”.
لكن المؤكد أن جهود النظام في التسويق لعملية إعادة الإعمار لاستجلاب الأموال التي تساعده على البقاء، تصطدم حقيقة بتحديات وعوائق تفشل مخططاته، وتضعها في مهب الريح، التي من أبرزها الفوضى الأمنية وغياب الأمن والاستقرار، وعدم الوصول إلى حل سياسي شامل ينهي سطوة النظام ومؤسساته الأمنية والعسكرية، ويبني سلامًا داخليًا بين المكونات الشعبية، يكون رافعة متماسكة يغري المانحين الدوليين بالبدء بمشاريع إعادة الإعمار.