يواجه عرب القدس تحديات خطيرة تؤثر على وجودهم وكيانهم الثقافي والحضاري، وهناك العديد من التحديات، ولكنني سأقتصر في هذا التقرير على ذكر التحديات التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي للمدينة، منذ أن اكتمل احتلالها عام 1967، وهو ما يفرض على المسلمين والمسيحيين مواجهة هذه التحديات، للحفاظ على الحاضر والمستقبل.
الإيقاع بين المسلمين والمسيحيين
بدأت سياسة التفريق بين أهل المدينة مع بداية المشروع الصهيوني في فلسطين، إذ عملت بريطانيا والصهيونية بجدية لفتح ثغرات في جدار التآخي الإسلامي المسيحي، وذلك من خلال إثارة النعرات الدينية والاقتصادية.
يقول إميل الغوري في كتابه “فلسطين عبر ستين عامًا”: “عندما احتلت بريطانيا فلسطين، كانت تظن أن المسيحيين سيقفون إلى جانبها، نظرًا لكونها دولة مسيحية، وكانت تظن أن بين المسلمين والمسيحيين كراهية دينية، ولذلك اعتقدت أنها ومن خلال البعثات والمدارس التبشيرية والمؤسسات المختلفة، التي كانت تعمل بالدرجة الأولى في الأوساط المسيحية، يمكن أن تكسب ود المسيحيين وتربطهم بسياستها، ثم تأييدها، لكنها فوجئت بوقوف المسيحيين إلى جانب المسلمين في وجه سياستها، فبدأت بمحاولة بذر بذور الفتنة بين المسلمين والمسيحيين”.
لكن كما يقول خليل السكاكيني في مذكراته، فقد تنبه مثقفون مسيحيون لهذا الخطر، فحذر خليل السكاكيني عام 1948م، من سعي بريطانيا وأمريكا بمعاونة من البعض، لإعادة نغمة المسلم والمسيحي والمدني والفلاح وكذلك نغمة الأحزاب.
وحسب إميل الغوري، فقد بدأ ذلك المخطط، ففي الميدان الاقتصادي كان معلومًا أن المسيحيين متقدمين اقتصاديًا وتجاريًا على المسلمين، وتعاون المسلمون معهم وشجعوهم، فاستغلت بريطانيا واليهود ذلك الوضع الاقتصادي لإثارة المسلمين ضد المسيحيين، واستطاعوا تجنيد بعض المسلمين لإثارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، لكن تلك الخطة فشلت بجهود قيادات المسلمين، الذين بينوا خطر تلك الفتنة، كما كان لوعي الشباب المسلمين دور في حماية الجبهة الإسلامية المسيحية، فقد تطوع عدد منهم لحماية المتاجر والممتلكات المسيحية.
وحينما فشلت هذه المكيدة، تم إثارة قضية أخرى، وهي زيادة أعداد الموظفين المسيحيين على المسلمين في الوظائف الحكومية، فدفعوا بعض المسلمين للمناداة بحقوق المسلمين، وحدثت بعض المناوشات بين الطرفين، لكن الوحدة الإسلامية المسيحية انتصرت، بعد أن تصدى زعماء الديانتين للفتنة.
لكن يرى مسلمون ومسيحيون من أهل القدس، أن الوحدة الإسلامية المسيحية انتصرت، والسبب بسيط وعميق في الوقت عينه، وهو أن المسلمين والمسيحيين أدركوا منذ البداية أن الوحدة واللحمة الوطنية هي الركيزة التي يستند إليها الوجود الفلسطيني، فمنذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى اليوم، فشلت محاولات كثيرة ومتنوعة، حاولت إيجاد شرخ في التلاحم المسيحي الإسلامي.
تهويد القدس
منذ الاحتلال الإسرائيلي الكامل لمدينة القدس عام 1967، شرعت قوات الاحتلال بسلسلة من الإجراءات لتهويد المدينة.
والمقصود بتهويد القدس، مجموعة الإجراءات والأساليب والسياسات التي يتبعها الاحتلال الإسرائيلي للسيطرة على القدس، وتحويل طابعها العربي، وطمس هويتها الثقافية العربية، وتغيير معالمها، وتثبيت الصفات اليهودية وتعميقها، حسب كتاب القدس عبر العصور، للكاتب زياد كفافي.
وأبرز تلك الإجراءات تتمثل في هدم البيوت ومصادرة الأراضي، وتهويد معالم القدس الجغرافية، والقضاء على النشاط الاقتصادي العربي، والعزل والإغلاق، إضافة إلى جملة من القوانين، التي تهدف لتفريغ المدينة من أهلها العرب.
ويهدف الاحتلال من خلال هذه المخططات إلى تحقيق أهداف أمنية واقتصادية وسياسية وديموغرافية ودينية.
ولعل أخطر هذه الأهداف، كما يقول عدنان أبو عامر في كتابه “السياسة الصهيونية تجاه مدينة القدس”، هي الأهداف الديموغرافية التي يسعى من خلالها الاحتلال لزيادة عدد السكان اليهود، وعرقلة نمو السكان العرب، وإجبارهم على بناء منازلهم في أماكن أخرى، والأهداف الدينية التي تتمثل في طمس معالم الحضارة العربية والإسلامية في القدس، وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى المبارك.
وليس هذا الخطر مقتصرًا على المسلمين ودينهم ومقدساتهم فحسب، وإنما هو كذلك وبالقدر نفسه على المسيحيين ودينهم ومقدساتهم، إذ لم يسلم العلماء المسلمون ورجال الدين المسيحي من الإرهاب، ولم تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية من الحكومات الإسرائيلية والمنظمات اليهودية، على المقدسات والمؤسسات الإسلامية والمسيحية.
وهو ما أثبتته دراسة للمحامي عيسى نخلة ممثل الهيئة العربية العليا لفلسطين في نيويورك، بشأن محاولات اليهود لمحو المسيحية من القدس، وقد جاء فيها: “لقد خطط الصهاينة لإقامة دولة يهودية في فلسطين، بحيث يجب أن تكون يهودية مئة بالمئة، أما المسيحية والإسلام فيجب القضاء عليهما، وأما المسلمون والمسيحيون فيجب إقصاؤهم عن الدولة اليهودية، ويدعو المخطط الصهيوني إلى طرد كل من هو غير يهودي من فلسطين، وإلى تدمير الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية”.
وأرى أن هذه الحقيقة تفرض تحديًا على المسلمين والمسيحيين، وهي أن يوحدوا جهودهم للحفاظ على هويتهم وتراثهم الديني والثقافي، فإذا تخلى أحد الفريقين أو قصر في أداء واجبه النضالي، فإنه يدع شريكه الذي تعايش معه على مدار قرون، فريسة سهلة للمطامع الإسرائيلية، التي لن تستثني أحدًا من شرها، ثم إنه سيكون لذلك التقاعس من هذا الطرف أو ذاك أثر خطير على السلم المجتمعي بين أبناء الديانتين.
ويعتبر المسيحيون والمسلمون أن المساس بمقدساتهم اعتداءً على هوية القدس العربية، وعليه فإنهم يتصدون لمحاولات التهويد بكل الوسائل المتاحة لديهم، وهذه الوسائل المتاحة في فلسطين، هي تكثيف الوجود البشري في المقدسات الإسلامية والمسيحية، وخاصة في المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وشد الرحال من داخل فلسطين المحتلة عام 1948م إلى القدس، على الرغم من كثرة الحواجز والمعيقات، فهذا سيوفر أمنًا لمقدساتها، ويحيي اقتصادها.
غياب المرجعيات الدينية والسياسية
ترى مجموعة من النخبة الثقافية المقدسية، أن الراحل فيصل الحسيني كان آخر المرجعيات السياسية الرمزية في القدس، وكان بيت الشرق يمثل رمزية سياسية لدى العالم، واليوم يعاني المجتمع المقدسي من غياب المرجعيات الدينية والسياسية الإسلامية والمسيحية، نتيجة الإجراءات الإسرائيلية، إذ تم إبعاد الشيخ رائد صلاح عن القدس، وإبعاد نواب القدس عن المدينة، وملاحقة المطران عطالله حنا رئيس الطائفة الأرثوذكسية في بعض القضايا، نتيجة مواقفه الوطنية.
وقد أدت السياسة الإسرائيلية إلى فقدان مرجعية دينية مسيحية موحدة، فهناك مرجعيات دينية كل منها محسوب على بلد ما، وأدى هذا الشتات إلى ضياع المواقف والجهود، التي يمكن أن تقاوم مخططات الاحتلال الإسرائيلي.
ولذلك فإن غياب هذه المرجعية القيادية التي يجتمع حولها المسلمون والمسيحيون، سيضيع إنجازات كثيرة، كان يمكن أن تتحقق في ظل وجود قيادة حكيمة وواعية ومؤثرة، كما أن ذلك الغياب للقيادات الوطنية، سيغري الاحتلال الإسرائيلي أن يستفرد بالمسلمين والمسيحيين كل على حده.