جاءت تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشأن المجتمع المدني ودعمه الكامل للمؤسسات الأهلية، خلال لقائه مع ممثلي بعض المنظمات غير الحكومية، اليومين الماضيين، لتضع العديد من علامات الاستفهام بشأن مدى ملامسة هذه التصريحات للواقع الفعلي للمنظومة المدنية في مصر، والتي دخلت غرفة الإنعاش منذ إقرار قانون الجمعيات الأهلية الجديد الشهر الماضي، بحسب بعض المصادر الحقوقية.
تصريحات السيسي أثارت جدلاً واسع النطاق لا سيما بين الحقوقيين والمهتمين بالشأن العام، ممن عايشوا الهجمة الشرسة التي يتعرض لها العمل المدني في الآونة الأخيرة، مما دفع البعض إلى السخرية من فحوى تلك التصريحات، والتلميح إلى استهدافها تحسين صورة النظام أمام المنظمات الحقوقية الدولية، فضلاً عما تسعى إليه من طمأنة الداخل وفق رؤية خاصة عن مفهوم العمل الأهلي والمدني بما يتلاءم مع رؤية النظام.
السيسي يشيد بدور الجمعيات الأهلية والأمن يُطاردها
في تجاهل تام لواقع المجتمع المدني في مصر، أشاد السيسي بالدور المهم الذي تقوم به الجمعيات الأهلية، ومساهمتها الفعّالة في جهود التخفيف عن محدودي الدخل والفئات الأكثر احتياجًا والوصول والنفاذ إليهم، وذلك في ضوء ما تتمتع به الجمعيات الأهلية من قدرة ومرونة في التحرك والعمل في جميع القطاعات التنموية، مثل التعليم ومحو الأمية والصحة وتحسين مستوى المعيشة والارتقاء بأوضاع المرأة وغيرها، حسبما جاء على لسان السفير علاء يوسف المُتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، خلال لقاء السيسي بممثلي المجتمع المدني.
يوسف أكد أيضًا على ثقة الدولة في الجمعيات الأهلية باعتبارها مكون أساسي من مكونات المجتمع، وحرصها على توفير مناخ داعم لها، مشيرًا إلى ما تمثله الجمعيات الأهلية من آلية أساسية لتفعيل المشاركة الشعبية في التنمية، وحشد الموارد المالية اللازمة لذلك، وهو ما دفع للتساؤل: ماذا عن واقع العمل الأهلي في مصر؟
المجتمع المدني.. واقع أليم
من الملفت للنظر أن تصريحات السيسي عن المجتمع المدني وإيمانه بدور المؤسسات الأهلية في النهوض بالوطن، تأتي بعد شهر واحد فقط مما سمي بـ”المذبحة” التي أجهضت أحلام العمل الأهلي في مصر، والمتمثلة في “قانون الجمعيات الأهلية” الذي قوبل بحملة شرسة من الرفض والاستنكار – داخليًا وخارجيًا – ومع ذلك تم تمريره تشريعيًا، بحسب وصف عدد من الأحزاب والقوى المدنية لهذا القانون في بيانها الصادر مؤخرًا رفضًا لهذا القانون.
6 أحزاب سياسية و22 منظمة من المجتمع المدني، من خلال بيان لها، عبرت عن رفضها التام لهذا المشروع مطالبين بإعادة النظر فيه مرة أخرى قبل فوات الأوان، ومع ذلك لم يلتفت أحد لاستغاثات تلك الكيانات.
قانون الجمعيات الأهلية الجديد والذي تضمن شروطًا فضفاضة لاعتماد الجمعيات والمؤسسات الراغبة في العمل الأهلي، منها عدم ممارسة نشاط يتعارض مع ما يسميه القانون “الأمن القومي” والنظام العام، بل ويفترض أن تبت الجهة المختصة (التي لم تحدد بعد) ما إذا كان نشاط الجمعية يتوافق واحتياجات المجتمع وخطط الدولة في التنمية من عدمه، وهو الشرط الذي يمثل عودة صريحة لقانون الجمعيات الأسبق رقم 32 لسنة 1964 والمعروف بـ”قانون تأميم العمل الأهلي”.
وقد وقع على البيان حينها كل من الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، التحالف الشعبي الاشتراكي، الدستور، مصر الحرية، العيش والحرية (تحت التأسيس)، حزب التيار الشعبي (تحت التأسيس)، إضافة إلى عدد من الجمعيات الأهلية أبرزها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
إلى جانب قمع حرية التعبير وتقييد المؤسسات المختلفة فإن مصر ستعاني تعتيمًا أكثر على انتهاكات حقوق الإنسان نظرًا لأن عددًا كبيرًا من المنظمات المهددة بالإغلاق هي التي تعمل على فضح وكشف هذه الانتهاكات للرأي العام المصري والدولي
حقوق الإنسان في مصر.. واقع مرير
ودوليًا قال ماينا كياي المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في حرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، معلقًا على قانون الجمعيات الأهلية: “القانون سيدمر المجتمع المدني في البلاد لأجيال وسيحوله إلى ألعوبة في يد الحكومة”، مضيفًا أنه يشبه مشروعًا مماثلاً اقترحته الحكومة في 2014 ونحّته جانبًا بعد انتقادات واسعة، من بينها انتقادات من هيومن رايتس ووتش.
كياي حذر من أن هذا القانون مقارنة بالسابق، سيذهب لمستويات أبعد مثل زيادة العقوبة القصوى لانتهاكه لـ5 سنوات سجنًا، وفرض توافق عمل الجمعية مع خطة الدولة واحتياجاتها التنموية، كما أنه سيجرم مجموعة من الأنشطة المذكورة بشكل فضفاض، مثل إجراء استطلاعات رأي أو بحوث ميدانية دون موافقة الحكومة، أو أي عمل ذي طابع سياسي أو ضمن نطاق الأحزاب السياسية أو النقابات العمالية، خاصة أن القانون لا يحدد هذه المصطلحات بدقة، مما يجعلها مفتوحة لتفسير السلطات.
كما تطرق المسؤول الحقوقي الأممي إلى المخاطر الناجمة عن هذا القانون، ملفتًا إلى أنه سيؤثر على 47 ألف جمعية محلية و100 أخرى أجنبية تعمل في مصر، وفقًا لتقديرات حكومية.
ما يعاني منه المجتمع المدني في مصر، دفع عدد من خبراء الأمم المتحدة للتعبير عن قلقهم من استخدام استحداث مثل هذه القوانين التي تعرقل عمل المجتمع المدني وخاصة المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان حيث يشترط على هذه المنظمات الحصول على إذن من وزارة التضامن الاجتماعي قبل ممارسة أي نشاط وهو ما يعطي الحكومة الحق في مراقبة والتحكم بعمل المؤسسات ومصادر تمويلها سواء محليًا أو دوليًا.
وتشير مؤسسة “هيومن رايتس مونيتور” أنه إلى جانب قمع حرية التعبير وتقييد المؤسسات المختلفة فإن مصر ستعاني تعتيمًا أكثر على انتهاكات حقوق الإنسان نظرًا لأن عددًا كبيرًا من المنظمات المهددة بالإغلاق هي التي تعمل على فضح وكشف هذه الانتهاكات للرأي العام المصري والدولي.
تضييق الخناق على حرية الصحافة أبرز صور الانتهاكات
نظام يعادي منظمات حقوق الإنسان
“نحن أمام نظام يحكم بالحديد والنار” هكذا علق مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان جمال عيد، على واقع حقوق الإنسان في مصر، مشيرًا أن السيسي يهدف لتحويل منظمات المجتمع المدني إلى مكاتب تضامن اجتماعي تعمل بموافقة أمن الدولة.
عيد أشار في حوار صحفي له إلى أن حقوق الإنسان في مصر في أسوأ عصر لها، وهذا ليس رأي، بل معلومات، على حد قوله، ملفتًا أن الحقوقيين الآن أمام نظام يحكم قبضته الدموية على الجميع، بدءًا من تزايد عدد الصحفيين في السجون لمجرد قيامهم بعملهم، مرورًا بالتنكيل بالمعارضين باستخدام الحبس الاحتياطي المطوّل، الذي تجاوز الفترة القانونية، مثل أية حجازي، وصولًا إلى هجمته الشرسة على عمل المنظمات المجتمعية المستقلة التي ترصد وتنتقد انتهاكاته.
السجون ربما هي الإنجاز الوحيد الذي حققه هذا النظام، ففي حين يتوسع في بناء السجون، نجدنا في المقابل أمام غلق مراكز ومؤسسات ثقافية ومسارح
مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، لفت أيضا إلى أن السجون ربما هي الإنجاز الوحيد الذي حققه هذا النظام، ففي حين يتوسع في بناء السجون، نجدنا في المقابل أمام غلق مراكز ومؤسسات ثقافية ومسارح مثل “تاون هاوس”، حسب تعبيره.
جمال عيد مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان
تجميل الصورة ورسالة طمأنة
“إن لقاء الرئيس بعدد من ممثلي المجتمع المدني وتصريحاته عن أهمية التعاون بين الحكومة والمنظمات محاولة لتجميل الصورة التي لطخها المسؤولون خلال السنوات الماضية بعدما حملت الاتهامات بالعمالة والخيانة للعاملين بالمجتمع المدني” بهذه الكلمات استهل صفوت جرجس، مدير المركز المصري لحقوق الإنسان، تعليقه على اجتماع السيسي بممثلي المجتمع المدني.
مدير المركز المصري لحقوق الإنسان، في تصريحات له، أوضح إلى أن هناك رسالة طمأنة يود السيسي أن يبعث بها للخارج، فضلاً عن المنظمات الدولية، مفادها أن هناك تعاون واضح بين الحكومة والمجتمع المدني، وأن ما أثير بشأن انتهاكات حقوق المصريين وفق ما أوردته التقارير الدولية بعيدًا عن الواقع تمامًا، خاصة بعد موافقة مجلس النواب على قانون الجمعيات الأهلية الجديد، الذي يقضي على العمل الأهلي في مصر، بحسب تعبيره.
إن لقاء السيسي بعدد من ممثلي المجتمع المدني وتصريحاته عن أهمية التعاون بين الحكومة والمنظمات محاولة لتجميل الصورة التي لطخها المسئولون خلال السنوات الماضية بعدما حملت الاتهامات بالعمالة والخيانة للعاملين بالمجتمع المدني
كما أن السيسي ربما يسعى خلال الفترة المقبلة إلى تعزيز حضوره الدولي والإقليمي بعد التراجع الملحوظ بسبب الانشغال بالأزمات الداخلية، مما أفقده تأثيره الشرق أوسطي، من جانب، فضلاً عن مساعي كسب التأييد والدعم الخارجي سواء اقتصاديًا من خلال الدعم والتمويل خاصة في ظل الأزمة الطاحنة التي تواجهها البلاد، أو سياسيًا من خلال التأكيد على استقرار الوضع الداخلي لا سيما المدني مما يؤهله لكسب ثقة المجتمع الدولي حال عزمه الترشح لولاية رئاسية جديدة، من جانب آخر، كل هذا يدفع النظام الحالي إلى محاولة تحسين الصورة الخارجية وطمأنة الداخل والخارج بشأن الملف الأكثر جدلاً ألا وهو المجتمع المدني وحقوق الإنسان.
وبصرف النظر عن تصريحات السيسي والتي لا تخرج عن كونها شعارات للاستهلاك المحلي والدولي، إلا أنها – وكما يتضح للقاصي والداني – بعيدة تمامًا عن واقع المجتمع المدني الفعلي المعاش، والذي تجسده التقارير الحقوقية المحلية والإقليمية والدولية، والتي وضعت مصر في مرتبة متأخرة جدًا، حيث جاء ترتيبها الـ136 من إجمالي 152 دولة في مختلف أنحاء العالم، وذلك بحسب مؤشر حقوق الإنسان لعام 2015، الذي شارك في إصداره معاهد “كاتو” و”فريزر”، ومعهد “الليبراليين” التابع لمؤسسة “فريديريش نومان للحرية” الألمانية.