كشفت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية الدولية في تقرير جديد لها صدر اليوم الإثنين 21 آب/أغسطس 2023، بعنوان “أطلقوا علينا النار مثل المطر” موجة جديدة من الانتهاكات السعودية، لكنها هذه المرة بحق المهاجرين الإثيوبيين على الحدود اليمنية السعودية، حيث استخدمت قوات حرس الحدود بالمملكة شتى أنواع الانتهاكات من اعتقال وتعذيب إلى القتل الجماعي.
المنظمة في تقريرها استندت إلى مقابلات أجرتها مع 38 مهاجرًا وطالب لجوء إثيوبي حاولوا عبور الحدود اليمنية السعودية خلال الفترة من مارس/آذار 2022 حتى يونيو/حزيران 2023، بجانب شهادات أربعة أقارب أو أصدقاء لمهاجرين وطالبي لجوء إثيوبيين حاولوا العبور خلال الفترة نفسها.
هذا بخلاف تحليل أكثر من 350 فيديو وصورة على مواقع التواصل الاجتماعي أو من مصادر أخرى تم تصويرهم بين 12 مايو/أيار 2021 و18 يوليو/تموز 2023، إضافة إلى عشرات الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية لعدة مئات من الكيلومترات المربعة في المنطقة الحدودية بين السعودية واليمن التي أظهرت قتلى ومخيمات ومرافق طبية ومدافن شاسعة كونت جميعها واحدة من اللوحات الإنسانية السوداء في تلك المنطقة.
الشريط الحدودي.. مسرح قتل جماعي
خلال السنوات التسعة الماضية، وقبيل دخول السعودية على خط الأزمة في اليمن مع الحوثيين في 2015، كشفت العديد من التقارير الحقوقية الصادرة عن هيومن رايتس ووتش وغيرها من المنظمات الحقوقية جرائم قتل بالجملة على الحدود السعودية اليمنية، وغيرها من صور الانتهاكات.
خلال تقريري عام 2014 و2019 وثقت المنظمة كيفية إطلاق حرس الحدود السعودي طلقات تحذيرية على المهاجرين، وفي بعض الأحيان أطلقوا النار عليهم مباشرة، ما أدى إلى إصابتهم أو قتلهم، وفي أبريل/نيسان 2020 وثقت طرد قوات الحوثيين آلاف المهاجرين الإثيوبيين من شمال اليمن قسرًا بذريعة تفشي فيروس كورونا، فقتلوا العشرات وأجبروا المتبقين على النزوح إلى الحدود السعودية.
وفي العام ذاته وثقت إطلاق حرس حدود المملكة النار على هؤلاء المهاجرين الفارين من رصاص الحوثيين، بجانب ارتكاب العديد من الانتهاكات بحق من سمح لهم بدخول الأراضي السعودية، حيث احتجازهم في أماكن إيواء غير آدمية وتفتقد للحد الأدنى من المعايير الإنسانية.
وخلال الفترة من 1 يناير/كانون الثاني حتى 30 أبريل/نيسان 2022، أفادت أنباء عن مقتل 430 مهاجرًا وإصابة 650 آخرين بينهم لاجئون وطالبو لجوء، بحسب ما تلقاه خبراء من الأمم المتحدة قالوا إن ذلك “يبدو أنه نمط منهجي لعمليات القتل العشوائي على نطاق واسع عبر الحدود”.
الأمر تكرر مرة أخرى في يونيو/حزيران 2023، حين كشف “مشروع المهاجرين المفقودين” التابع لـ”المنظمة الدولية للهجرة” أن ما لا يقل عن 795 شخصًا لقوا حتفهم على الحدود اليمنية السعودية، خاصة في محافظة صعدة على الحدود الشمالية لليمن، خلال عام 2022، ويعتقد أن الغالبية العظمى من الضحايا إثيوبيون.
صور الأقمار الصناعية الملتقطة التي استعانت بها المنظمة في تقريرها أظهرت ما لا يقل عن 8 مواقع دفن جماعي قرب مناطق حدودية بين البلدين، نصفها تقريبًا في الأراضي السعودية التي تحتضن أكبر مدفن جماعي على الضفة الأخرى من النهر مقابل الرقو، الصور أحصت قرابة 287 قبًرا، بتاريخ 23 يونيو/حزيران 2023، هذا الرقم ازداد فيما بعد منذ 9 فبراير/شباط 2022، وهو التاريخ الذي أحصت فيه هيومن رايتس ووتش 183 قبرًا.
انتهاكات بالجملة
التقرير كشف عن تطور واضح في منهجية الانتهاكات التي تمارسها قوات حرس الحدود السعودية بحق المهاجرين وطالبي اللجوء القادمين من الأراضي اليمنية، وهو التطور المحلوظ شكلًا ومضمونًا مقارنة بما كان عليه في 2014 والسنوات التي تلتها.
قتْل المهاجرين بالأسلحة المتفجرة
وفق شهود العيان الذين استعانت بهم المنظمة فإن القوات السعودية كانت تستهدفهم بقذائف الهاون وغيرها من الأسلحة المتفجرة، وهو ما يتطابق مع التحليل الطبي لأدلة فوتوغرافية ممن قابلتهم هيومن رايتس ووتش، التي تظهر إصابات تشبه بشكل كبير تلك الناجمة عن صدمة انفجار.
وقال الأشخاص الذين عبروا الحدود في مجموعات من أربعة إلى خمسة أشخاص وحتى عدة مئات إنهم تعرضوا لهجوم بأسلحة متفجرة من قوات الحرس السعودي فور دخولهم الأراضي السعودية، وبحسب “دهبو” وهي لاجئة إثيوبية حاولت العبور ناحية المملكة، فقد وصفت رحلة العبور قائلة: “فور وصولنا (الحدود)، أطلقوا (حرس الحدود السعودي) النار علينا.. كان كثير من الناس يموتون. في مجموعة من 200 مهاجر نجا فقط 50 شخصًا.. الأشخاص الذين أطلقوا النار علينا كانوا عسكريين حكوميين سعوديين – كان الزي متعدد الألوان، كان مثل الأخضر أو الأبيض أو ما شابه”، وتابعت “الأشخاص الذين كانوا يطلقون النار علينا، لم تكن رصاصة أطلقوها، بل ألقيت من مؤخرة سيارة، مثل قنبلة. تقتل كثيرًا من الناس، أطلقوا النار على كثير من الناس”.
الرواية ذاتها تؤكدها مواطنتها “هدية” (20 عامًا) بقولها: “كنت مع 170 شخصًا، كان معظمهم من النساء، وكان هناك أطفال أيضًا، كان (حرس الحدود) السعوديون يطلقون النار علينا من مؤخرة سيارة، رأيتهم يلقون بشيء من السيارة.. عندما أطلقوا (حرس الحدود السعودي) النار علينا فقد الناس أيديهم وأرجلهم ولم نتمكن من مساعدتهم لأننا اضطررنا إلى مساعدة أنفسنا، رأيت الناس يقتلون بأم عيني، رأيت 20 قتيلًا وأنا أمشي”.
إطلاق النار من مسافة قريبة
يقول شهود العيان وتؤكد صور الأقمار الصناعية الملتقطة أن الضرب أحيانًا يكون من مسافات قريبة، حيث قال الأشخاص إن قوات الحرس السعودية كانت تعترض بعض المجموعات العابرة من الحدود اليمنية وتسألها عن وجهتها ثم يطلقون النار عليهم من مسافات قريبة، بعضها مسافات “صفر”.
الأمر تجاوز ذلك إلى ما يشبه التنكيل، وفق ما ذكر البعض ممن قالوا إن حرس الحدود السعوديين أوقفوهم، وقبل ضربهم سألوهم عن أي مكان في الجسد يفضلون أن يطلقون النار عليه، ثم يطلقون بالفعل على هذا المكان، كما وصف أحد الذين تمت مقابلتهم كيف قتل الأمن السعودي مهاجرًا “فورًا” بعد أن رفض اغتصاب مهاجرة أخرى في المجموعة.
نور الدين (23 عامًا)، من غرب هرارغي في إثيوبيا، يقول في شهادته: “واجهَنا حرس الحدود السعودي، كانوا يصرخون علينا ويأمروننا بالتوقف.. استسلمنا وأظهرنا لهم أيدينا، عندما وصلوا (حرس الحدود السعودي) قربنا، أطلقوا النار علينا، كان الرجل الذي أطلق النار عليّ على بعد أربعة أمتار فقط منّي، كنت مع 45 شخصًا آخر، رجالًا ونساءً، كانت معظم المجموعة من الإناث، كان هناك 12 رجلًا فقط وكان هناك أطفال أيضًا، أطلقوا النار على أرجلنا.. كان الحراس يرتدون الزي العسكري السعودي، بألوان متعددة مع مزيج من الأخضر والبني، من الواضح أنه كان زيًا عسكريًا سعوديًا”.
وتابع: “أصِبتُ في رقبتي وكنت أنزف.. لم أستطع تذكر الكثير، كان هناك ثمانية (حرس حدود) عندما أطلقوا النار عليّ، أتذكر هذا، بعد إطلاق النار علينا، جمعونا، أطلِقت النار على العديد من الأشخاص في أجزاء مختلفة من أجسادهم، اخترقت الرصاصة فمي وخرجت من رقبتي، أطلِقت النار عليّ بوحشية”.
الاعتقال المؤقت.. ظروف غير آدمية
من نجا من القتل بالأسلحة المتفجرة وفر من الاستهداف من مناطق قريبة كان مصيره الاعتقال المؤقت، قبيل ترحيله مرة أخرى إلى الأراضي اليمنية، حيث جولة جديدة من الانتهاكات الممارسة داخل الغرف المغلقة، فقد قال 9 أشخاص تمت مقابلتهم ممن عبروا الحدود اليمنية إلى المملكة إن الأمن السعودي أخذهم إلى مراكز للاحتجاز المؤقت واعتقلوهم بين عدة ساعات إلى عدة أيام، حيث تعرضوا للضرب، فيما كانت إقامتهم غير إنسانية، بسبب سوء الصرف الصحي وعدم كفاية الأفرشة والطعام والماء والرعاية الطبية.
اللاجئ الإثيوبي نور الدين الذي أصيب في فمه ورقبته لكنه نجا من الموت يقول: “أخذونا (حرس الحدود السعودي) ونقلونا بالسيارة لمدة ساعة وربع إلى معسكر، يشبه المعسكر مركز قيادة لاسلكي، مكثنا هناك أربعة أيام، ثم بعد أربعة أيام أخذونا إلى الغار وأمرونا بالمغادرة من هناك”.
وتابع: “لم نحصل على أي دعم طبي (في المعسكر)، حاول الناس إعطائي الماء لكن الحراس منعوهم. حذروا الناس من مساعدتي.. طيلة الأيام الخمس كنت أنزف وأنام في الخارج، لم يكن يوجد مرحاض في المعسكر لذا استخدم الجميع الغرفة (التي ننام فيها) كمرحاض، لذلك، لا يمكنك استخدام الغرفة للنوم.. حصلنا على الطعام في يوم واحد فقط.. كان هناك نحو 140 شخصًا في المخيم، معظمهم من النساء، وكانت هناك فتيات دون السن القانونية، بقينا جميعًا في نفس المكان، ولم يكن هناك فصل بيننا”.
ووصف ظروف المركز الذي احتجز فيه 3 أيام كاملة قائلًا: “لم نتمكن من الجلوس والنوم. كان علينا أن نقف، كان المرحاض يفيض والأرض مبللة ببراز بشري، البلل على الأرض وصل إلى أعلى الكاحل، كنا نسير في ماء المرحاض، أصِبنا بالالتهابات بسبب ذلك، مرض الناس.. كانت كارثة”.
الانتهاكات لم تقف عند هذا الحد، بل مارس حرس الحدود السعودي هوايته المفضلة في التنكيل والتعذيب، وهنا يقول جوهور (17 عامًا) إنه أجبر مع ناجين آخرين على اغتصاب فتاتين ناجيتين بعد أن أعدم الحراس ناجيًا رفض فعل ذلك، وأضاف “عندما توقف إطلاق النار أخذونا (حرس الحدود السعودي)، كان في مجموعتي سبعة أشخاص، خمسة رجال وفتاتان. أجبرنا حرس الحدود على خلع ملابسنا وأمرونا باغتصاب الفتاتين، كانت الفتاتان تبلغان من العمر 15 عامًا، رفض أحد الرجال (المهاجرين)، قتله (حرس الحدود) فورًا.. شاركت في الاغتصاب، نعم. للبقاء على قيد الحياة فعلت ذلك. نجت الفتاتان لأنهما لم ترفضا، حدث هذا في نفس المكان الذي وقعت فيه أعمال القتل”.
الدرب الشرقي.. رحلة الموت
تتدفق موجات المهاجرين الإثيوبيين وغيرهم من مواطني دول القرن الإفريقي إلى السعودية مدفوعين بعوامل الفقر والجوع والانتهاكات الحقوقية التي يتعرضون لها في بلادهم، فيختارون الهجرة ملاذًا أخيرًا لهم هربًا بحياتهم حتى لو كان في ذلك مغامرة أقرب للمقامرة ربما تكلفهم أرواحهم.
وتنقسم رحلة الموت إلى قسمين: الأول من الأراضي الإثيوبية إلى جيبوتي ثم إلى اليمن عبر خليج عدن والثاني من عدن إلى صعده شمالًا ثم إلى الحدود السعودية عبر الطرق البرية، ويعرف هذا الطريق المحفوف بالمخاطر باسم “الدرب الشرقي” أو “الدرب اليمني”، حيث يواجه المهاجرون الموت عشرات المرات خلال تلك الرحلة الخطيرة.
ويُمنح كل مهاجر رمزًا خاصًا، بمثابة كلمة سر، يدلي بها حين يطلب منه سواء عند عبوره مياه خليج عدن أم حين يلتقي عصابات التهريب المسؤولة عن هذا الأمر داخل الأراضي اليمنية، ومن لا يملك كلمة السر يتم قتله مباشرة أو تعذيبه على أقل تقدير، وفي تلك الأثناء تقع مئات العائلات المهاجرة لابتزاز العصابات والضرب المبرح أحيانًا.
وتقول “حمدية” (14 عامًا) إحدى المهاجرات الإثيوبيات واصفة الابتزاز الذي تعرضت له في أثناء محاولتها عبور الحدود السعودية: “طلب المهربون منا 500 ريال سعودي (133 دولارًا) لكن ليس لدي معارف في بلدي في إثيوبيا أو في السعودية أو اليمن (لمساعدتي في الدفع)، ضربوني (المهربون) مرة أخرى، وقالوا لي إذا لم أدفع سأتعرض للاغتصاب، لكن هذا لم يحدث لي، بعد قضاء أسبوعين في الثابت، قال المهربون إن عليّ الذهاب (وعبور الحدود)…”.
ومن لا يملك المال الذي يمكن تقديمه لعصابات التهريب تلك، يتم الزج به ليكون في مقدمة المهاجرين، حتى يكونوا أهدافًا للمدافع وأسلحة قوات حرس الحدود إذا اعترضت مسار العبور، “وضعوا (المهربون) بعض المهاجرين في مجموعة للسير في المقدمة، كنت أحد هؤلاء المهاجرين، بعد دقيقتين (في أثناء العبور)، بقي (المهربون) في الخلف، وأرسلونا (المهربون) للسير في ذلك المكان، في ذلك المكان الخطير وهم يقولون “اذهبوا! ذهبوا!” ثم يشاهدونك. إذا نجحت وكان ذلك آمنًا، يتبعونك”، هكذا تقول “حمدية”.
ويسافر المهاجرون إلى مخيمين رئيسيين قرب الحدود اليمنية السعودية، في محافظة صعدة شمال اليمن تحديدًا، الأول: مخيم الثابت، الذي يقع على بعد نحو 70 كيلومترًا شمال غرب صعدة وما يقارب 4 كيلومترات شرق الحدود اليمنية السعودية على مجرى نهر (وادي) وهو مكان يفتقد للحدود الدنيا من مقومات الحياة، وعبارة عن أكواخ قديمة محاطة بأسلاك شائكة، كما أنه معرض للفيضانات التي تهدد حياة المقيمين فيه في أي وقت.
يتأرجح طول الطريق من المخيم إلى الحدود السعودية من 10 إلى 15 كيلومترًا، ويتضمّن منحدرات شديدة ووديان وممرات جبلية يصل ارتفاعها إلى 2.200 متر، فيما تستغرق الرحلة منه إلى الأراضي السعودية ما بين خمس وسبع ساعات إلى عدة أيام.
أما المخيم الثاني فهو مخيم الرّقو، الواقع على بعد 17 كيلومترًا جنوب مخيم الثابت، شرق الحدود اليمنية السعودية، وهو أقرب النقاط إلى السعودية، فلا يفصله عن جنوب المملكة سوى نهر فقط (تستغرق المسافة من المخيم إلى الحدود السعودية ما بين 20 إلى 30 دقيقة) وهو أشبه بالقرية الصغيرة، ويعيش به أكثر من 50 ألف شخص، يعتمدون في حياتهم على ما يحصلون عليه من المهاجرين والمهربين الذين يتخذون منه ملجأ ومأوى لهم قبيل عبور الأراضي السعودية.
يوثق هذا التقرير حلقة جديدة من سلسلة الانتهاكات السعودية الممارسة داخل اليمن، سواء بحق المدنيين اليمنيين أم المهاجرين من جنسيات أخرى، تلك الجرائم التي تم توثيقها بالصوت والصورة من المنظمات الدولية التي طالبت بفتح تحقيقات عاجلة واتخاذ إجراءات رادعة بحق الرياض، لكنها المطالب التي ظلت حبيسة الأدراج في إطار لغة المصالح التي تحكم المشهد بعيدًا عن الشعارات الحقوقية التي يرفعها المجتمع الدولي بين الحين والآخر، التي تحولت إلى أداة مهلهلة القيمة يتم توظيفها حسب بوصلة المكاسب والخسائر المحتملة.
وبعيدًا عن مساحيق التجميل التي تقوم بها السعودية لطمس تلك الجرائم من خلال صرف الانتباه عن هذا السجل الحقوقي المشين بفتح خزائنها لاستضافة الأحداث الرياضية والفنية الكبرى، واستقطاب نجوم العالم في شتى المجالات، التي تحاول من خلاله تقديم صورة مشرقة للدولة السعودية الجديدة، فإن الدماء المراقة وأنين الضحايا وصراخ الأطفال سيظل كابوسًا يؤرق مضاجع القائمين على أمور المملكة، وسبة في جبين المجتمع الدولي المتواطئ بالصمت والخذلان.