ترجمة وتحرير نون بوست
في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، وافق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على “العقيدة الجديدة للسياسة الخارجية الروسية”، والتي لم يتم تحديثها منذ ثلاث سنوات. والجدير بالذكر أن هذه الوثيقة هي عبارة عن نظام من الآراء والمبادئ السياسية التي ستحدد الإستراتيجية السياسة الخارجية الروسية.
ومن الملفت للنظر المكانة الجديدة التي احتلتها روسيا في قلب الساحة السياسية والدبلوماسية الدولية. وفي الأثناء تسعى روسيا لتفعيل دورها من خلال تحديث العقيدة الجديدة للسياسة الخارجية الروسية. وعلى عكس الوثائق الرسمية السابقة للسياسة الخارجية الروسية، تُبين العقيدة الجديدة حاجة روسيا لتعزيز مكانتها في العالم والبروز كمركز رئيسي للتأثير في العالم الحديث. لذلك، فإن الاستراتيجيين الروسيين يؤمنون بأنه لن يتم حل أي قضية سياسية بدون الأخذ بعين الاعتبار مصالح موسكو ومشاركتها المباشرة. في المقابل، يعتبر العديد من الخبراء الروس أن هذا الاستنتاج سابق لأوانه، وذلك لأن روسيا لا تزال في خضم دوامة الأزمات التي تحاول إيجاد حل لها.
وفي الواقع، يسعى الكرملين لتثبيت أسس إعلام روسي منفتح على الفضاء المعلوماتي العالمي، وذلك بهدف إيصال وجهة نظر روسيا حول المسائل الدولية لكل المجتمع الدولي. ومن المتوقع أن ترتفع حجم الإنفاقات والتمويل في مجال الإعلام الروسي في الخارج في هذه السنة الجديدة. ووفقا لمشروع خطة الميزانية الروسية لسنة 2017، والمعتمدة من قبل مجلس الدوما، ستتحصل شبكة تلفزيون “أر تي” الروسية على تمويل إضافي لإنشاء وتطوير وصيانة وتوزيع قناتها باللغة الفرنسية.
ومن وجهة نظر أعضاء في البرلمان الروسي، فإن قرار الترفيع في ميزانية قناة “أر تي” هو بمثابة رد على انتشار الدعاية الأوروبية ضد روسيا. لذلك، تعتزم موسكو إيصال صوتها من منبرها الخاص في مختلف المجالات السياسية الدولية، لا سيما فيما يتعلق بالأزم الأوكرانية والسورية.
ركزت الوثيقة الجديدة على خطر الإرهاب الدولي. وللمرة الأولى، تمت الإشارة إلى أن انتشار الفكر المتطرف ونشاط المنظمات الإرهابية كان نتيجة لمشاكل التنمية الشاملة
وبشكل عام، فإن أهم التغيرات التي تندرج في إطار الأحكام العامة للوثيقة الجديدة ستتمحور بالأساس حول بسط نفوذ روسيا في العالم وتعزيز نفوذ وسائل الإعلام الموالية لها.
وقد خصص الكرملين فصلا كاملا من الوثيقة لتحليل مكانة ودور السياسة الخارجية الروسية في العالم الحديث. وشأنها شأن الوثائق السابقة، أشارت الوثيقة الجديدة إلى تراجع في وسائل الهيمنة الاقتصادية والسياسية بالنسبة للدول الغربية مما يستدعي استغلال روسيا لهذه الفرصة وقلب موازين القوى لصالحها. وفي الوقت نفسه، سلطت الوثيقة الضوء على الدور الاستراتيجي والحضاري الذي تلعبه روسيا في الشرق. بالإضافة إلى ذلك، وللمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، تطرقت الوثيقة إلى التفاوت في التنمية غير المتوازنة في العالم، وإلى اتساع الفجوة بين مستويات الرفاه في الدول واشتداد المنافسة على الموارد.
وفي هذا الصدد، أكدت الوثيقة على أن المنافسة العالمية الحالية لها طابع حضاري تحاول من خلاله بعض الدول فرض قيمها على الآخرين. ويؤمن واضعي هذه العقيدة أن تدخل الدول الغربية في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة المستقلة يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى فوضى على مستوى العلاقات الدولية. وفي الواقع، وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، أبدى الخبراء والسياسيين الروسيين اهتمامهم بالتوجهات الخاصة للحضارة الروسية، التي تقوم على القيم الأرثوذكسية المحافظة. وفي هذا الصدد، أبدت روسيا عزمها على الاهتمام بقضية اليهود المشتتين في العالم، من خلال تعزيز تمويلها “للعالم الروسي”.
وبالحديث عن التناقضات المتزايدة على الساحة الدولية، تناولت الوثيقة التركيز المفرط في عامل السلطة. وفي هذا الإطار، تعترف الوثيقة بوجود فتور في علاقة روسيا والولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب الباردة. بالإضافة إلى ذلك، لطالما نوهت روسيا بحقيقة وجود تهديد فعلي ينذر باندلاع حرب نووية، مما دفع الكرملين لدراسة مشروع إنشاء ونشر أنواع جديدة من الأسلحة، الأمر الذي يعد تهديدا لروسيا، وللأمن الدولي بشكل عام.
وتجدر الإشارة إلى أن روسيا لا تتهاون مع أي تهديد يتحد سلطتها. ولعل أبرز مثال على ذلك، رد فعل الكرملين العدائي عندما تم نشر أنظمة الدفاع الصاروخي في رومانيا، حيث قامت بوضع نظام الصواريخ الباليستية في كالينينغراد، مما أثار قلق الدول الأعضاء في منظمة حلف شمال الأطلسي. وتدل هذه الواقعة على استعداد روسيا لمقاومة أي محاولات من قبل الناتو للتوسع شرقا والتصدي لتحركاته نحو تعزيز بنيته التحتية العسكرية.
على مدى السنوات الأربع الماضية، اتخذت روسيا عددا من الإجراءات للحد من أنشطة عدة منظمات سياسية على أراضيها
علاوة على كل ذلك، ركزت الوثيقة الجديدة على خطر الإرهاب الدولي. وللمرة الأولى، تمت الإشارة إلى أن انتشار الفكر المتطرف ونشاط المنظمات الإرهابية كان نتيجة لمشاكل التنمية الشاملة. وفي هذا السياق، أكد إستراتيجيون روسيين على أن القيم الأيديولوجية المفروضة من الخارج هي التي خلقت ردود فعل المجتمعات التقليدية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ووفقا لموسكو، فقد اكتسب خطر الإرهاب ملامح جديدة مع ظهور تنظيم الدولة الذي ادعى إنشاءه لدولة جديدة. وتعتبر روسيا أن الحل الوحيد للتصدي لهذا التهديد يكمن في إنشاء تحالف دولي لمكافحة الإرهاب يعمل على أساس المساواة والاحترام المتبادل.
وفي الواقع، ورد في الوثيقة قسم مستقل يتمحور بالأساس حول تنظيم الدولة وذلك بهدف إبراز مدى خطورة التنظيم على الأمن القومي في روسيا، حيث تعتبر موسكو انتشار الأفكار الإسلامية الراديكالية في آسيا الوسطى وجمهوريات القوقاز ومناطق أخرى تهديدا مباشرا لاستقرارها.
فعلى سبيل المثال، لم تتوان روسيا عن قمع تمرد أنصار حزب النهضة الإسلامية في طاجيكستان في سنة 2015، وكان الحزب برئاسة نائب وزير الدفاع في ذلك الوقت. بالإضافة إلى ذلك، تم خلال هذا الشهر القضاء على زعيم الخلية الروسية لتنظيم الدولة، والذي كان مسؤولا على سلسلة من الهجمات الإرهابية. وخلال سنة 2016، ووفقا لأجهزة الامن الروسية، تم التصدي لأكثر من عشر هجمات إرهابية على الأراضي الروسية.
وفي الفصل المتعلق بالتعاون الاقتصادي الدولي الروسي، تم إيلاء اهتمام خاص إلى ضرورة الاستجابة إلى الإجراءات الاقتصادية التي تتخذها الدول الأجنبية، والتي تنتهك حقوق الشركات الروسية. ومن الواضح أن روسيا تنوي التطرق لقضية العقوبات وإيجاد حل لها حتى تحد من تأثيرها السلبي على الاقتصاد الروسي. وذكرت موسكو مرارا وتكرارا أن مثل هذا الضغط الاقتصادي من جانب واحد لن يجبرها على التخلي عن مواقفها فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الرئيسية. وفي الوقت نفسه، يؤمن العديد من كبار المسؤولين الروس أن العلاقات الاقتصادية والتجارية لا ينبغي أن تُستخدم كأداة لتصعيد التوتر السياسي.
ونظرا لتداعيات الأزمة الأوكرانية، تحتوي الوثيقة الجديدة على فصل خاص يبين استعداد موسكو لمعارضة أي محاولة لاستخدام حقوق الإنسان كأداة للضغط السياسي وللتدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة من أجل الإطاحة بالحكومات الشرعية.
كما أنه على مدى السنوات الأربع الماضية، اتخذت روسيا عددا من الإجراءات للحد من أنشطة عدة منظمات سياسية على أراضيها. فعلى سبيل المثال، تم تمرير قانون “عملاء أجانب”، والذي ينص على أن المنظمات التي تشارك في النشاط السياسي، والتي تعمل على الأراضي الروسية، وتتلقى تمويلا من الخارج سوف تكون مسجلة في قائمة منفصلة. ويُلزم هذا القانون المنظمات بتقديم تقرير عن أنشطتها وعن مجلس إدارتها مرتين في السنة. وبالتوازي مع ذلك، فقد تم أيضا فرض حظر تام على نشاط الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في روسيا.
في شهر ديسمبر الماضي، وافق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على “العقيدة الجديدة للسياسة الخارجية الروسية”، والتي لم يتم تحديثها منذ ثلاث سنوات. والجدير بالذكر أن هذه الوثيقة هي عبارة عن نظام من الآراء والمبادئ السياسية التي ستحدد الإستراتيجية السياسة الخارجية الروسية
ومن أهم فصول الوثيقة هو الجزء المتعلق بالأولويات الإقليمية للسياسة الخارجية الروسية. فكما جرت العادة، يبقى التركيز الأساسي موجها لرابطة الدول المستقلة. وفي الأثناء، منحت هذه الوثيقة أولوية مطلقة للتعاون الاستراتيجي مع روسيا البيضاء على حساب تعميق وتوسيع الاتحاد الاقتصادي الأورو آسيوي.
في المقابل، ذُكرت روسيا البيضاء في وقت سابق فقط في سياق التكامل الشامل في الفضاء الأوراسي وليس كعنصر مستقل ومنفصل. وتبرز هذه الوثيقة أيضا أهمية تحسين عقد منظمة معاهدة الأمن الجماعي.
وفي هذا الصدد، أكملت روسيا عملية تشكيل نظام الدفاع الجوي المشترك مع روسيا البيضاء وأرمينيا خلال هذه السنة.
وفقا للوثيقة، يتمتع شركاء روسيا في رابطة الدول المستقلة بالحرية في بناء علاقات مع الجهات الفاعلة الدولية الأخرى، مع مراعاة المصالح السياسية والاقتصادية الشاملة. وقد تم تخصيص بند مستقل يشير إلى أهمية تعميق العلاقات مع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، والتي تعترف روسيا بجزء منها. و يعتبر هذا البند على قائمة أولويات الكرملين وذو أهمية كبيرة تتجاوز قضية تسوية النزاعات داخل الاتحاد السوفياتي السابق مثل الخلافات الموجودة في مرتفعات قرة باغ وفي ترانسنيستريا وغيرها.
وتم أيضا تخصيص ستة أقسام كبيرة للعلاقات الروسية الأوروبية. وتطرقت الوثيقة لأول مرة للحديث عن السياسات الروسية في المنطقة الأوروبية الأطلسية باعتبارها سياسات طويلة المدى. ومن المثير للاهتمام أن الوثيقة قد تضمنت على أسماء أبرز الشركاء الرئيسيين لروسيا على غرار ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وفي المقابل استبعدت الدول المدرجة في الوثائق السابقة، بما في ذلك هولندا والمملكة المتحدة، في حين تم إضافة إسبانيا.
ومن هذا المنطلق، تعد هذه البلدان من أكثر الأطراف تضررا من نظام العقوبات المتبادل. وتعتبر هذه العقوبات السبب في رغبة مختلف القوى السياسية (الأحزاب اليمينية) والنخبة من رجال الأعمال في استعادة العلاقات التجارية والاقتصادية مع روسيا. وليس سرا أن العديد من السياسيين الأوروبيين قد صرحوا بضرورة إرساء حوار سياسي أكثر استقلالا مع الكرملين. وفي الوقت نفسه، تشير إحدى النقاط ضمن الوثيقة إلى أن روسيا مستعدة لبناء علاقات متساوية مع الناتو والمؤسسات الأوروبية الأطلسية الأخرى. ومع ذلك، لا تشمل الوثيقة الجديدة أي نقطة حول الأهداف المشتركة في حفظ السلام والاستقرار مع دول المنطقة الأوروبية الأطلسية، بما في ذلك أعضاء منظمة حلف شمال الأطلسي.
ونظرا للدور المتزايد لدول منطقة القطب الشمالي في المشهد السياسي العالمي، أبدت روسيا استعدادها للتصدي لأي محاولات لإقحام دول منطقة القطب الشمالي في أي مواجهات سياسية أو عسكرية. أما بالنسبة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، فلا زالت الصين محل اهتمام روسيا، وقد جاء في الوثيقة أن روسيا تعتزم إرساء حوار بين الحكومتين كحل لمعالجة القضايا الرئيسية للسياسة العالمية.
يسعى الكرملين لتثبيت أسس إعلام روسي منفتح على الفضاء المعلوماتي العالمي، وذلك بهدف إيصال وجهة نظر روسيا حول المسائل الدولية لكل المجتمع الدولي. ومن المتوقع أن ترتفع حجم الإنفاقات والتمويل في مجال الإعلام الروسي في الخارج في هذه السنة الجديدة
وتجدر الإشارة إلى أنه في قائمة الأولويات الإقليمية، خصت الوثيقة العلاقات بين روسيا ومنغوليا واليابان باهتمام خاص. بالإضافة إلى ذلك، تطرقت الوثيقة إلى التعاون مع كل من الفيتنام واندونيسيا وتايلاند وسنغافورة وماليزيا، في إطار الحديث عن رابطة دول جنوب شرق آسيا.
وعموما، نوهت الوثيقة ببعض التغييرات في السياسة الخارجية لروسيا في الشرق الأوسط. ولعل أبرزها الحاجة الملحة لإيجاد حل للصراع في سوريا، بالاستناد إلى الاتفاقيات التي تم التوصل لها في اجتماع جنيف، فضلا عن قرارات مجلس الأمن الدولي.
ومن الملفت للنظر أن الوثيقة وضحت التغييرات الجذرية التي تتعلق بتسوية النزاع العربي الإسرائيلي: فللمرة الأولى، يتم حذف نقطة حول إقامة دولة فلسطينية مستقلة. ومن المتوقع أن يكون هذا الموقف نتيجة للحوار الروسي الإسرائيلي المكثف. وعلى إثر ذلك، قررت موسكو ترك مسألة الدولة الفلسطينية خارج نطاقها.
وعموما، فإن هذه الوثيقة تعد نظامية أكثر، على عكس التي سبقتها، حيث تمت الإشارة إلى التهديدات في العالم وأولويات روسيا بشكل واضح. كما تمت الإشارة بدقة إلى تعقيدات وعشوائية العلاقات الدولية الحديثة. والجدير بالذكر أن الميزة الخاصة بهذه الوثيقة تتمثل في أنها لا تملي تغييرات واضحة في السياسة الخارجية، بل هي نتيجة للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية القائمة بالفعل.
وفي الوقت نفسه، تعترف موسكو بأن حروب الأجيال الجديدة ستنشب في فضاء المعلومات. إضافة إلى ذلك، أوردت الوثيقة حجج فلسفية حول خصوصيات مختلف الشعوب والثقافات والحضارات، والتي لها الحق في اتباع طريقها الخاص فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والسياسية دون أي تأثير سلبي من الخارج.
المصدر: ناشيونال إنترست