لم يكن أشد المتشائمين يتوقع أن تواجه حلب هذا المصير البائس، ولا أن يتم تهجير سكان شطرها الشرقي، فكل الدلائل والمؤشرات كانت تقول بأن فك الحصار وإنطلاق معركة تحرير الشطر الغربي من المدينة ستؤدي لنصر يغير مجرى الأحداث، لكننا وبدل ذلك فوجئنا بنكسة وهزيمة مدوية مذلة أعادت للأذهان نكسة العام 1948 في فلسطين.
توقفت معركة تحرير غرب حلب، وانكفأ المهاجمون على أنفسهم فأصبحوا مدافعين، لتتقدم ميليشيات الأسد وإيران فتبتلع المحرر من المدينة وتقضمها حيا بعد آخر، سقطت المدينة وهجر الناس ولا زال البعض يزيف الحقائق ويخدر العقول، سقطت حلب بيد المحتل الغاشم وسقط معها كل من تآمر أو تخاذل، وفقد الكثير الفصائل المسلحة شرعية منحت لها يوم أعلنت أنها إنما شُكّلت ووجدت لقتال الأسد، لكن بوصلتها إنحرفت وما عاد قتال المحتل أولوية.
كم هي مؤلمة تلك الأخبار التي باحت بتسليم آلاف المقاتلين أنفسهم لنظام قالوا إنهم خرجوا لقتاله، وكم هي بشعة تلك الصور التي أظهرت عصابات الأسد وهي تستولي على مخازن السلاح والعتاد والذخيرة، التي بقيت مخزنة لم تستخدم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أننا لا نعاني من نقص في السلاح أو العتاد والذخيرة ولا حتى من الرجال، لكننا نعاني من إنعدام الولاء للأمة وضعف الإيمان بالله وهو ما سمح للأخرين بمصادرة قرارنا وحرف إتجاه بندقيتنا.
مؤلم منظر الحلبيين وهم يغادرون مدينتهم التي إحتضنت فصائل لم تكن أهلا للدفاع عن العرض والشرف، ولا عما تحقق من إنتصارات بدماء من رحل من المجاهدين، إنتصار كان ثمنه دمار ودماء وحرمات وتهجير، لقد باعوا المدينة وأهلها في سوق النخاسة والعمالة، فسقطت حلب لأن الأولوية لم تكن قتال الأسد، وهي لم تسقط قتالا بل سلمت تسليماً، فقد كانت كل المؤشرات تفيد بأننا مقبلون على مرحلة تصفية للثورة، ولكن ليس بهذه الطريقة المذلة المهينة.
حتى مع سقوط المدينة وفي الوقت الذي توقعنا فيه نفيراً عاماً يستنهض الهمم ويوحد الكلمة ويلم شعث الفصائل المشرذمة، كان لايزال هناك أصوات فصائلية نتنة تدعوا بقوة وبلا خجل أو وجل لعدم الوحدة، معللة ذلك بأن بعض الفصائل كفتح الشام مصنفة إرهابية، هكذا بكل بساطة، فدمار حلب وتهجير أهلها أمر طبيعي مقبول، ولتذهب سورية كلها لحضن الأسد أو فلتدمر ويقتل ويهجر شعبها، لكن لا يجب أن تمس قدسية الفصائل.
منذ بداية الثورة ونحن نسمع عن دعوات وحدة ومشاريع إندماج بين التشكيلات المسلحة، لكن ما كان يحدث هو العكس، إنشقاقات وتوالد يضيف المزيد من الغثاء إلى الغثاء، ويزيد التشرذم تشرذماً، فلا الإسلاميون إتفقوا، ولا الليبراليين إجتمعوا، لم يتوحدوا إلا من أجل دعم أو راتب إلا ما رحم ربي.
سقطت حلب وبدأ التلاوم والعتب وذر الرماد في العيون وطفقت فتاوى ودعوات الإندماج تصدر عن هذه الجهة وتلك، وكل يريد الآخر تحت رايته، ثم حدث مالم يكن بالحسبان، هدنة يبدو أنها كانت حاضرة حتى قبل سقوط حلب بيد المغول والتتار، هدنة نجحت في لم شمل أكثر من 12 فصيلا خلال ساعات، لم توحدهم مأساة شعب وأمة ولا وطن يحتله الصفوي والصليبي، وحدتهم دعوة الداعم والراعي والسيد الآمر الناهي.
فتاوى تحرم الوحدة مع الإسلاميين وتجيزه مع غيرهم، وأخرى تدعوا لوحدة الإسلاميين من إخوة المنهج والعقيدة، وثالثة تدعوا لوحدة عامة لا تستثني أحداً، صراعات حامية الوطيس، حرب فتاوى، تخوين وطعن وذم في الأمانة، يتصارعون وكأنهم أمم عدوة يعيش كل منها على كوكب، أي خطاب تقدمونه لشعبكم المكلوم؟
تحت أي راية تندمجون أو تتحدون؟ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وعن أيمانكم والشمائل، ثم رموكم عن قوس واحدة فما ميزوا بين سلفي وإخواني ولا ليبرالي وعلماني، سقطت حلب، كما سقط غيرها من المدن والبلدات، وجاء الدور على وادي بردى، الجميع اتخذ وضعية الصامت فلا حس ولا نفس ولا حياة لمن تنادي، البعض يسير الأرتال إلى القلمون لقتال تنظيم الدولة وحماية خاصرة النظام، البعض الآخر هادن وصالح.
أي زمان هذا الذي أصبحت فيه الخيانة وجهة نظر، والخذلان عادة، وقتل بعضهم البعض عبادة، البعض الآخر مشغول بتلميع صفحة روسيا، وداعا لإيران ولطميات شيعتها ومرحبا بفودكا روسيا وصباياها الحسان، من أي طينة عجنتم؟
أي مشروع للأمة تقدمون وأنتم شراذم ممزقة الأوصال والمتون، وكل حزب منكم بما لديه فرحون، عن أي وطن تتحدثون، وأي نظام ستسقطون أو ترفعون؟ أتبنون وطناً أم أنكم تهدمون، مالكم كيف تحكمون؟
اتحدوا أو لا تتحدوا، فأنتم في قرارة أنفسكم تعلمون، أننا وبإذن الله منتصرون، فالهثوا خلف عرض من الدنيا كما تشاؤون، ولكن إعلموا أنه الإبتلاء لكم بما وُليتم عليه، وأن سنة الله فيكم الإستبدال، وأنكم عن هذه الدنيا غداً لراحلون، فتحت أي راية ستحشرون؟ ستسألون!