ترجمة وتحرير: نون بوست
شهدتُ سابقًا الاستيلاء على السلطة والفاشية والعنصرية وتدمير الديمقراطية. وعند المقارنة بين “إسرائيل” في سنة 2023 وجنوب أفريقيا في سنة 1948، يبدو واضحًا أن “إسرائيل” تتّجه إلى حيث كانت جنوب إفريقيا قبل 75 سنة، فيما يشبه مشاهدة إعادةٍ لفيلم رعب.
في سنة 1948، عندما كنت مراهقًا في كيب تاون، تابعت نتائج انتخابات 26 أيار/ مايو على لوحة عملاقة في مبنى إحدى الصحف. لقد أفرز نظام “الفائز يحصل على كل شيء” الانتخابي نتائج مشوهة: فقد فاز الحزب الأفريقي القومي – مع حليفه الأصغر – بـ 79 مقعدًا برلمانيًا مقابل 74 للحزب المتحد وحليفه الأصغر. لكن القوميين – كما أسمّيهم – فازوا في الواقع بنسبة 37.7 في المائة فقط من الأصوات مقابل 49.2 في المائة للمعارضة. ورغم حصول المعارضة على المزيد من الأصوات، زعم القوميون أن لديهم أغلبية ويمكنهم فعل ما يريدون.
أستحضر بعض هذه التجارب في “إسرائيل” 2023 حيث يمكن لنظامنا الانتخابي النسبي أن يشوّه النتائج أيضًا: ففي تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، فاز حزب الليكود مع حلفائه الأصغر بـ 64 مقعدًا مقابل 56 للمعارضة. وفي الواقع، فازت الكتلة اليمينية بنسبة 0.6 في المائة فقط من الأصوات. ولكن حكومة الـ 0.6 في المائة تقول إنها تُمثّل إرادة الأغلبية ويمكنها أن تفعل ما تشاء.
لقد تمتّعت جنوب إفريقيا بالديمقراطية – والمقصود بذلك البيض الذين يشكلون 20٪ من السكان، بينما لم يكن للسود حق التصويت وفقط بعض الملونين والآسيويين الجنوب أفريقيين كانوا يتمتعون بهذا الحق. وعانى أولئك الذين لم يكونوا من البيض من تمييز عنصري شديد في كل جزء من حياتهم.
في “إسرائيل”، يحق للعرب – الذين يشكلون حوالي 21 في المائة من السكان – التصويت لكنهم يعانون من التمييز: فالمسلمون والمسيحيون لا يمكن أن يخضعوا للتجنيد، ومن لا يؤدون الخدمة العسكرية يخسرون الفوائد. يمتلك الصندوق القومي اليهودي حوالي 13 في المائة من أراضي 48 ويمنع غير اليهود – أي العرب – من امتلاكها أو تأجيرها. يعِد هذا التحالف بتعميق التمييز، وقد هددت الحكومة بالفعل بسحب ملايين الشواقل المخصصة لتحسين ظروف المعيشة السيئة للعرب. في جنوب إفريقيا، كان الانتصار القومي يعني الفصل العنصري، الذي أدى إلى تكثيف وإضفاء الطابع المؤسسي على التمييز القائم ضد غير البيض.
في سنة 2001، انضممت إلى وفد الحكومة الإسرائيلية في المؤتمر العالمي المناهض للعنصرية في ديربان. لقد دعتني حكومة أرييل شارون نظرًا لخبرتي بعد ربع قرن من العمل كصحفي في جنوب إفريقيا ولقد كان تخصصي الإبلاغ عن حالات الفصل العنصري عن قرب. في المؤتمر شعرت بالانزعاج والغضب من كثرة الأكاذيب والمبالغات حول إسرائيل. وخلال السنوات التي تلت ذلك، جادلت بكل قوتي – في المحاضرات والمقالات الصحفية والتلفزيون وفي كتاب – ضد الاتهام القائل إن “إسرائيل” دولة فصل عنصري.
لكن هذا الاتهام قد أصبح حقيقة. أولاً، يجعل قانون الدولة القومية اليهود أعلى درجة من المواطنين العرب – المسلمين والدروز والبدو والمسيحيين. كل يوم يدلي وزراء الحكومة وحلفاؤهم بتصريحات عنصرية يُتبِعونها بأعمالهم التمييزية. وفي الجيش، لا رحمة حتى للدروز الملزمين بالخدمة العسكرية – مثل اليهود – منذ سنة 1956.
ثانيًا، لم يعد بإمكان “إسرائيل” أن تدعي أن الأمن هو سبب سلوكنا في الضفة الغربية والحصار المفروض على غزة. فبعد 56 سنة، لم يعد من الممكن تفسير احتلالنا على أنه مؤقّت في انتظار حلّ الصراع مع الفلسطينيين. نحن نتّجه نحو الضمّ مع دعوات لمضاعفة عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، الذي يبلغ حاليًا حوالي 500 ألف.
إن الجيش متواطئ بشكل كامل في الاستيلاء غير القانونيّ على الأراضي الفلسطينية وإقامة البؤر الاستيطانية. وتسيء الحكومة استخدام ملايين الشواقل لصالح المستوطنين. إنها تسيء استخدام قوانينها. المستوطنون يقتلون الفلسطينيين ويدمرون المنازل والسيارات، في حين أنه نادرًا ما تتدخل المحاكم، بينما يقف الجنود ويتفرجون.
إننا نحرم الفلسطينيين من أي أمل في الحرية أو الحياة الطبيعية. ونؤمن بجدوى دعايتنا الخاصة بأن بضعة ملايين من الناس سيقبلون بالخنوع والدونية والقمع الدائم. تدفع الحكومة إسرائيل بشكل أعمق نحو سلوك غير إنساني وقاسي لم يعد من الممكن تبريره أو الدفاع عنه. ولست مضطرًا لأن أكون متدينًا لأعرف أن هذه خيانة مخزية للأخلاق والتاريخ اليهودي.
في جنوب إفريقيا، استُخدِمت كلمات لطيفة لصياغة القوانين المدمرة؛ حيث فُرض الفصل العنصري على الجامعات لتقييد وصول السود لها من خلال تمديد قانون التعليم الجامعي لسنة 1959. وتم تشديد “حركة المرور” – الوثيقة التي كانت الوسيلة الأساسية للسيطرة على السود – من خلال إلغاء قانون تنسيق تصاريح المرور.
في “إسرائيل”، يُستخدم مصطلح “الإصلاح القضائي” لوصف تدمير الديمقراطية، بدءًا من نهاية المراجعة القضائية للسلطة التنفيذية والكنيست. وقال بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء، للتلفزيون الأجنبي، إن التغييرات صغيرة والمعارضة سخيفة لكن لم يوضح السبب الذي يجعله هو وحلفاؤه مصممين بلا رحمة على المضي قدمًا رغم المعارضة الهائلة.
في جنوب إفريقيا، أدى إلغاء تصويت المواطنين الملونين والآسيويين إلى احتجاجات حاشدة قادها قدامى المحاربين في الحرب العالمية الثانية. وألغت دائرة الاستئناف، أعلى محكمة، قانون التصويت باعتباره غير دستوري. واستخدم القوميون أغلبيتهم في البرلمان لإنشاء محكمة عليا في البرلمان، التي نقضت دائرة الاستئناف، وفقد المواطنون الملونون والآسيويون حق التصويت.
نمت معارضة الفصل العنصري. سن القوميّون – بأغلبيتهم البرلمانية – قانون قمع الشيوعية، ومُنِح وزير العدل سلطة إصدار قرارات تعسفية تقيّد بشدة الحريات الشخصية. وشملت العقوبات الإقامة الجبرية، وحظر التجمع، وحظر الخطابة أو الكتابة. ويمكن أن تصل عقوبة الجناة إلى السجن لمدة خمس سنوات. لقد كان الشيوعيون الهدف الأول يليهم الليبراليين – حتى المناهضون المتحمسون للشيوعية – وأي شخص عارض الفصل العنصري، بشكل سلمي أو عنيف. ثم نُفّذ الاعتقال لمدة 30 يومًا بدون محاكمة، الذي تم تمديده إلى ثلاثة أشهر، ثم ستة أشهر – وأخيرًا الاحتجاز إلى أجل غير مسمّى.
“أدين” عدة آلاف واحتجِزوا دون محاكمة وحكِم عليهم بالسجن لمدد طويلة. وداهم الجيش والشرطة مرارًا وتكرارًا بلدات السود المنفصلة وقتلوهم وعاملوهم بوحشية.
في إسرائيل، ورد أن حوالي 1200 فلسطيني من الضفة الغربية مسجونون بدون محاكمة. كما يوقّع وزير الدفاع الأوامر لأسباب أمنية للتعامل مع الإرهاب. ويداهم الجيش بشكل متواصل بلدات الضفة الغربية ويُحدث دمارًا فيها ويقوم باعتقال المزيد من المشتبه بهم… وتستمر المآسي.
تحت ستار محاربة الجريمة في المجتمع العربي، يريد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير سن قانون يمنح الشرطة سلطة سجن الإسرائيليين دون تهمة أو محاكمة – وهي سياسة تمارس بالفعل في الضفة الغربية. ويريد “حرسًا وطنيًا” رفيع المستوى تحت سيطرته.
في جنوب إفريقيا، قامت منظمة أفريكانية سرية، تدعى برودربوند (فرقة الإخوة)، بالتحكم في البلاد من وراء الكواليس. وكانت تتدخل في تعيينات كل وظيفة ذات أهمية: مدراء المدارس والشرطة وكبار ضباط السجون والجيش وأعضاء الخدمة المدنية. وكانت شريكتها الكنيسة الهولندية الإصلاحية التي توصف بـ “الحزب القومي في الصلاة”. لقد أعلن قساوسة كالفيني والمحافظون أن الكتاب المقدس صحيح حرفياً، وأنه يبرر الفصل العنصري وأن الأفريكانيين هم الشعب المختار، وكانت مهمتهم إنقاذ “الحضارة البيضاء”.
طبّق القوميون “التربية الوطنية المسيحية” في المدارس. كما تم التحكم بإحكام في الراديو والتلفزيون. وفُرضت الرقابة على الأفلام والمسرح. وحُظرت آلاف الكتب باعتبارها “غير مرغوب فيها أو مرفوضة أو فاحشة”. وحُظر الزواج المختلط. وتم تقسيم البلد بأكمله بحيث يعيش الناس من مختلف الأعراق في مناطقهم الخاصة؛ وأخذ البيض أكثر الأراضي وأفضلها، بينما اُجبِر الملايين من الأشخاص الملونين على ترك منازلهم.
في “إسرائيل”، انضم الأرثوذكس المتشددون إلى الليكود والقوميين الدينيين لتأمين أموال غير محدودة لمدارسهم المنفصلة، وإبقاء أبنائهم خارج الجيش وفرض إملاءاتهم الدينية على الدولة بأكملها. وهم يسيطرون على زواج اليهود وطلاقهم، ولا يسمحون إلا بالزواج الأرثوذكسي. وفي الأثناء، يزداد نفوذهم.
في جنوب إفريقيا، رُفضت المعارضة الدولية للفصل العنصري. وقد أصبحت البلاد “بوليكات العالم“. رُفضت إدانات الأمم المتحدة والمقاطعات وسحب الاستثمارات من قطاع الأعمال وغرق الاقتصاد. وأخيرًا، بعد تدميره، لم يعد بإمكانه دعم الفصل العنصري وكان هذا سببًا رئيسيًا لإجبار البيض على التخلي عن سلطتهم وامتيازاتهم في سنة 1994.
في “إسرائيل”، يتم الإبلاغ عن نتائج هجوم التحالف على القضاء، ووعوده بالمزيد في المستقبل. بدأت الآثار الكارثية على الاقتصاد في الظهور بالفعل. تمنح الولايات المتحدة “إسرائيل” 3.8 مليار دولار بالإضافة إلى المساعدات العسكرية كل سنة وتدافع عنا ضد الهجمات – سواء كانت مبررة أم لا – في المحافل الدولية. ونحن نعتمد على الولايات المتحدة من أجل البقاء، لكننا نفقد الدعم في الكونغرس. وهذه مسألة لا يمكن لقادة التحالف إهمالها.
استقال مدير عام وزارة التربية والتعليم احتجاجُا على الإصلاح القضائي. وقد تم تشويه القضاة. ويريد التحالف إقالة المدعي العام. كما تم تشويه رابطة المحامين. وفُرضت رقابة صارمة على وسائل الإعلام. وبات قداس يوم السبت يُقام بالإكراه. وتخضع الثقافة وحقوق المرأة للسيطرة المحكمة. طُرد البدو بشكل جماعي. ويُوصف المتظاهرون بالخونة. نحن تحت رحمة الفاشيين والعنصريين (كلمتان تم اختيارهما بعناية) الذين لا يستطيعون التوقف ولن يتوقفوا.
أكتب عن جنوب إفريقيا وإسرائيل لأنني أعرف كليهما، فقد عشت 53 سنة في الأولى وحوالي 26 سنة في الثانية. ولا تعتبر أي منهما فريدة نظرا لحدوث نفس النمط من القمع اليميني في عصرنا في المجر وبولندا وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وفي وقت سابق في أوروبا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.
لم أرغب في كتابة هذا المقال وإنما كنت مجبرًا على ذلك، وهو موجّه إلى الإسرائيليين لأن الحكومة اليمينية تقود الدولة نحو التمييز المؤسسي والعنصرية. وهذا هو الفصل العنصري. كانت جنوب إفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري واضحة ومباشرة: أبيض مقابل أسود. أما “إسرائيل” فهي معقدة؛ حيث تمتلك الأقلية العربية البالغة 21 في المائة حق التصويت. ويدفع الجميع نفس التأمين الوطني ويتمتعون بنفس المزايا – الرعاية الطبية والاجتماعية. في المستشفى، أنا يهودي أشترك في الغرفة مع العرب ويتم رعايتنا من قبل نفس الأطباء والممرضين اليهود والعرب. وكل شيء مفتوح: الشواطئ ومقاعد المتنزهات والأفلام والمسارح والمطاعم. إن تسمية الفصل العنصري صحيحة، لكن يجب توخي الحذر والتفكير بشأن المقارنات.
في “إسرائيل”، أشاهد الآن الفصل العنصري الذي نشأت معه. تقدّم “إسرائيل” هديّة لأعدائها في حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات وحلفائها، خاصة في جنوب إفريقيا؛ حيث إنكار وجود “إسرائيل” مكثف بين العديد من السود، وفي النقابات العمالية والدوائر الشيوعية والإسلامية.
سيستمر نشطاء حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات في تقديم مزاعمهم، من منطلق الجهل أو الحقد أو كليهما، لنشر الأكاذيب عن إسرائيل. لقد شوّهوا منذ فترة طويلة ما هو سيء بالفعل وجعلوه أبشع، لكنهم الآن يبحثون عن دليل. وإسرائيل تمنحهم الحقيقة التي يريدونها.
المصدر: الغارديان