نظّم ناشطون وعاملون في القطاع الصحي والدفاع المدني السوري في شمال سوريا وحول العالم العديد من الوقفات والفعاليات، بمناسبة حلول عقد على ذكرى أكبر هجوم كيميائي شنّه نظام بشار الأسد على الشعب السوري خلال السنوات العشر الماضية، حين قصف غوطتَي دمشق الشرقية والغربية بغاز السارين السام، ما أدى إلى مقتل نحو 1450 مدنيًّا، بينهم أكثر من 200 طفل وامرأة، وإصابة 6 آلاف آخرين، حسب بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
واستجابة لدعوة وجهها الدفاع المدني السوري ورابطة ضحايا الأسلحة الكيماوية وأهالي الغوطتَين الشرقية والغربية المهجّرين في السوري، للمشاركة في وقفة تضامنية لإحياء ذكرى المجزرة، تجمع مساء الأحد في حديقة المشتل داخل مدينة إدلب شمال غربي سوريا، مئات المحتجين للتذكير بضرورة العدالة وإنصاف الضحايا وللتذكير بالمأساة، وجاء ذلك بالتزامن مع فعالية أخرى على مدرج جامعة حلب الحرة بمدينة أعزاز شمال حلب.
ورغم مرور عقد من الزمن، فإن الضحايا وذويهم لا يزالون يطالبون بمحاسبة المسؤولين عن هذه المجزرة المروعة، التي تعدّ الأكثر مأساوية في الثورة السورية التي بدأت عام 2011.
منير مصطفى، نائب مدير الدفاع المدني السوري، قال في حديث لنون بوست: “نقف اليوم بالذكرى العاشرة لسقوط ضحايا مجزرة الكيماوي في الغوطتَين، التي سقط إثرها أكثر من 1400 شهيد، لكن للأسف لم يتم اتخاذ أي إجراءات حقيقية من أجل تحقيق العدالة للضحايا ومحاسبة النظام السوري الذي ارتكب الجريمة، ما شجّعه على ارتكاب جرائم أخرى في أماكن متفرقة داخل الأراضي السورية”.
المحاسبة حق لا يسقط بالتقادم
المصطفى أوضح أن الهدف من هذه الوقفة توجيه رسالتَين، الرسالة الأولى هي رسالة عزاء لذوي الضحايا، و”أننا كخوذ بيضاء دائمًا بجانبهم وسنبقى بجانبهم حتى يحصلوا على العدالة لقضيتهم”، أما الرسالة الثانية موجهة للمجتمع الدولي، خاصة مجلس الأمن، بأنه يجب عليه اتخاذ خطوات حقيقية وحثيثة لتحقيق العدالة ومحاسبة النظام المجرم.
وأشار المصطفى إلى أن المحاسبة والعدالة هما الطريق لتحقيق السلام، فعقب المجزرة في الغوطتَين لم يكن هناك محاسبة، ما أعطى النظام السوري ضوءًا أخضر لارتكاب مجازر جديدة وبأسلحة مختلفة بعضها محرم دوليًّا.
أحمد أبو علي أحد مهجّري الغوطة الشرقية في مدينة إدلب، فقد عددًا من أقاربه وأصدقائه في مجزرة الكيماوي قبل 10 سنوات، قال: “هدفنا الأساسي من الوقفة هو المطالبة بتحقيق العدالة لأحبابنا الذين فقدناهم قبل سنوات في مجزرة الكيماوي، ولن نتوقف حتى تحقيق العدالة ومحاسبة بشار الأسد وباقي عصابته”.
وأضاف محمد والأسى جليّ في عينَيه: “إن تأخرت العدالة فلن نفقد الأمل، لأن ذلك سيترك الباب مفتوحًا أمام نظام الأسد لتغيير سردية ما حصل وما اقترف، وللاستمرار في اضطهاد السوريين وارتكاب المجازر لعقود طويلة”.
سلاح الجريمة
بدأت أولى المحاولات السورية لامتلاك السلاح الكيماوي في سبعينيات القرن الماضي، على يد عالم الفيزياء النووية عبد الله واثق شهيد، الذي ترأّس مركز البحوث والدراسات العلمية (SSRC)، واستطاع المركز خلال فترة رئاسة شهيد له تحقيق تقدم في مجال تصنيع غاز السارين، لكن النجاح الأكبر كان في تطوير غاز الأعصاب “VX”، أحد أكثر المواد الكيميائية سمّية.
وبعد احتلال العراق عام 2003، بدأ يتصاعد الحديث الأمريكي-الإسرائيلي عن سلاح كيماوي في سوريا يشكّل خطرًا على أمن المنطقة، وخلال ديسمبر/ كانون الأول 2012 استخدم النظام السلاح الكيماوي للمرة الأولى في حيَّي البياضة ودير بعلبة المحاصرَين في مدينة حمص من قبل قوات النظام وقتها، بحسب منشقين عن إدارة الحرب الكيمائية لدى النظام السوري.
وكانت مجزرة الكيماوي الأكبر في سوريا في غوطتَي دمشق في 21 أغسطس/ آب 2013، وأودت بحياة أكثر من 1450 شخصًا في الغوطتَين الشرقية والغربية، وإصابة 10 آلاف و626 أكثر من ثلثَيهم من الأطفال والنساء.
وبعد عدة أسابيع على مجزرة الكيماوي الأكبر، أبرمت الولايات المتحدة وروسيا في 15 سبتمبر/ أيلول 2013 صفقة في جنيف، كان نتيجتها انضمام سوريا لمعاهدة حظر الأسلحة الكيميائية، والتعهُّد بالتخلص من ترسانتها الكيميائية، مقابل ذلك أوقفت الحكومة الأمريكية الضغوط التي كانت تقودها لشنّ حملة عسكرية ضد دمشق، كما تمَّ التغاضي عن خطوط أوباما الحمراء.
تُرجمت هذه الصفقة في مجلس الأمن بالقرار 2118، الذي أشار في مادته الخامسة عشر إلى ضرورة “محاسبة الأفراد المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيميائية في الجمهورية العربية السورية”، وفي حال “عدم الامتثال لهذا القرار” تفرض تدابير “بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة”، كما جاء في المادة 21 من القرار.
ومنذ عام 2012 وحتى مجزرة كيماوي دوما في أبريل/ نيسان 2018، استخدم النظام السوري السلاح الكيماوي ما يزيد عن 200 مرة، وكانت ضربة كيماوي الغوطة في أغسطس/ آب 2013 هي الضربة رقم 32.
سنذكر أطفالنا كي لا تتكرر المأساة
بجانب الوقفات والفعاليات، قام عدد من الفنانين السوريين برسم لوحات جدارية في مناطق شمال سوريا للتذكير بالمجزرة، وقال عزيز، أحد الرسامين الذين شاركوا في رسم الجداريات، لـ”نون بوست”: “هي ليست مجرد رسومات، هي صرخات الضحايا وصوت ذويهم المطالب بالعدالة، وعدم الإفلات من العقاب”.
وبحسب عزيز، “الهدف من الرسومات كي يراها أطفالنا كل يوم، لأن نسيانهم للمجزرة يعني تكرارها، لذلك قمنا بالشراكة مع الدفاع المدني برسم تلك الجداريات”.
رابطة للضحايا من أجل تكثيف الجهود
“رغم طول الفترة التي مضت على المجزرة نسبيًّا، وحالة الإفلات من العقاب والتواطؤ الدولي الذي منع محاسبة النظام، أصرّ الناجون وعائلات الضحايا على المطالبة بمحاسبة الجناة وتعويض الضحايا، والتأكيد على حق السوريين في معرفة الحقيقة للتعامل مع آثار مجزرة الكيماوي المستمرة، إذ بدأ العمل على تجاوز عوائق استمرار وجود المنتهكين في السلطة وعجز المجتمع الدولي عن إيقاف الجرائم وفاعليها، من خلال إشراك الناجين وذوي الضحايا في الاجتماعات السياسية أو التنسيق في شأن العدالة، وفي حملات المناصرة ودعم مبادرات الناجين وعائلات وروابط الضحايا التي تثمر اليوم مثلًا بإطلاق رابطة ضحايا الأسلحة الكيماوية”، بحسب القائمين على الرابطة.
هيثم البدوي، أحد أعضاء الرابطة، كان يعمل في النقطة الطبية في حي جوبر خلال فترة المجزرة، ما أدى إلى تعرضه لإصابة نتيجة استنشاق الغازات السامة، أخبر “نون بوست” أنه مقتنع بأن النظام وشخوصه لن يحاسَبوا طالما أن المساءلة القانونية التي يخضعون لها لا تندرج تحت صفة المحاكم الدولية، أو النظام الذي نتج بعد الحرب العالمية الثانية.
وأضاف بدوي: “اليوم نجد أن المحاكم المسؤولة عن المحاكمات لا تمتلك الولاية القانونية على الرؤساء والأنظمة بسبب أحكام السيادة ومفهوم الدولة، ورغم تغيير القوانين الأوروبية بهدف قبول هذه المحاكمات والقضايا على أراضيها، إلا أنها قاصرة عن التنفيذ الإجرائي بسبب الأحكام عينها، إلا إذا تواجد المجرم على أراضيها، ومع ذلك نجد أن هذه المحاكم تقوم من الناحية النظرية بتجريم الشخص وإصدار الأحكام في حقه، رغم عدم قدرتها على تنفيذ الحكم”.
وأكد بدوي: “لا يوجد اليوم عدالة في الأرض قادرة على إنصاف الضحايا وأهاليهم، لكن لو تبنّت محاكم لاهاي ومحكمة الجنايات الدولية الملف، فحينها من الممكن ظهور مفهوم للعدالة بشكلها الذي يجبر ضرر الضحايا وأهاليهم ويعاقب المجرم، لكن كوننا نرى أن الملف السوري كان وما زال في ميدان المقايضات السياسية، فلن نحصل على أي عدالة لكن سوف نمضي بطريق الحصول على العدالة”.
وسبق أن حددت الولايات المتحدة الأمريكية أسماء 3 ضباط في قوات النظام السوري متورطين بقصف الغوطة الشرقية في ريف دمشق بالأسلحة الكيماوية عام 2013، وبجسب بيان سابق لوزارة الخارجية الأمريكية، حظرت الولايات المتحدة دخول 3 مسؤولين عسكريين تابعين للنظام السوري متورطين في قصف الغوطة الشرقية بغاز الأعصاب (السارين)، وهم العميد عدنان عبود حلوة واللواء غسان أحمد غنام واللواء جودت صليبي مواس، وكذلك أفراد عائلاتهم المباشرين.