قد يكون أقسى ما في مجزرة كيماوي الغوطة الشرقية بعد 10 سنوات على ارتكاب قوات النظام السوري هذه الجريمة الإنسانية، أنه لم تجري إدانته حتى الآن أو تحميله المسؤولية عنها رسميًا.
رغم إحالة ملف المجزرة بشكل عاجل إلى مجلس الأمن وقتها، ورغم صدور قرار ملزم بمحاسبة مرتكبيها، إلا أنه حتى الآن ما زال التحقيق غير مكتمل، والجاني لم يحدَّد رسميًا، في واحدة من أكبر مهازل العصر الحديث كما يرى الكثير من السوريين.
ماذا حدث في ليلة 20 أغسطس/ آب 2013؟ بعد اشتباكات روتينية بين عناصر من الجيش الحر وقوات النظام على أطراف الغوطة الشرقية المحاصرة بريف دمشق، خلد السكان إلى النوم، بينما بدأ ضباط وعناصر في جيش النظام من اللواء 155 صواريخ التحضير لتنفيذ واحدة من أشنع الجرائم في الحرب السورية.
في عام 2022 حددت الولايات المتحدة أسماء عدد من الضباط، قالت إنها متأكدة من مسؤوليتهم عن الهجوم الذي أودى بأرواح ما بين 1100 و 1400 مدني، بينهم عدد كبير من الأطفال.
التقرير كشف مسؤولية هؤلاء الضباط المختصين بالصواريخ عن تنفيذ الهجوم انطلاقًا من مقر اللواء 155 في القطيفة بريف دمشق، عبر إطلاق 16 صاروخًا من طراز “أرض-أرض” في الساعة الثانية والنصف صباح يوم 21 أغسطس/ آب 2013.
مثل هذا العدد الكبير من صواريخ “سكود” كان كفيلًا بمسح زملكا وعين ترما المستهدفتَين الرئيسيتَين بالهجوم في تلك الليلة، وهو أمر تثبته شواهد من مناطق أخرى اُستهدفت بهذا النوع من الصواريخ، خاصة في حلب الشرقية التي كانت خاضعة لسيطرة المعارضة وقتها، إلا أن الهدف هذه المرة كان تجريب القتل بطريقة مختلفة.
سقطت الصواريخ على أطرف البلدتَين المتجاورتَين والقريبتَين من دمشق العاصمة، وبينما ظنَّ السكان الذين استيقظوا على صوت القصف المروع أنهم نجوا من الهجوم، حتى بدأ الموت يتسلل إلى أنفاسهم ببطء وثقل شديد.
تتفق شهادات جميع الناجين من المجزرة على وصف لحظات ما بعد القصف وتفاصيل انتشار الغاز الذي حملت به رؤوس الصواريخ في المحيط، ما أدى إلى شعورهم بضيق في التنفُّس وحرقة شديدة في العين تطورا إلى غثيان وصولًا إلى الاختناق.
كل ذلك حصل خلال وقت قصير، لم يكن ممكنًا معه القيام بأي عمليات إسعاف، حتى مع افتراض توفر أدوات وأدوية يمكن استخدامها ولم تكن متوفرة على أي حال.
حمل الناجون الذين امتلكوا أجسادًا أقوى تمكنت من مقاومة الهجوم، الضحايا الذين انهاروا أمامهم متجهين نحو النقاط الطبية، ليتفاجأ الجميع بتكدُّس المئات من الجثث التي لم تحظَ إلا بصور اُلتقطت لها، على أمل أن تكون فداء لمن بقي حيًّا، فيتحرك العالم لإنقاذهم.
لم يعد بين سكان زملكا وما يحيط بها من بلدات ومزارع من لم يثكَل بفقد ابن أو ابنة أو أب أو أمّ أو أخت أو قريب، لذلك عاشت هذه البقعة من العالم الأيام التالية مذهولة من دون حسابات للزمن القادم، بينما كان وقع المجزرة لا يقل قسوة أو رهبة على المحاصرين في المدن والبلدات القريبة منها، سواء في الغوطة الشرقية أو الغربية أو جنوب دمشق.
لم يمنح هؤلاء الفرصة للحديث عن تلك اللحظات بالتأكيد، وهذا طبيعي، حيث الأضواء كان يجب أن تسلط على الضحية ومن نجا من ذويها، لكن هذا لا يعفي من ضرورة العودة بالزمن مع بعض الناجين من أبناء المناطق المجاورة، من أجل استعادة لحظات معايشتهم لتلك المجزرة.
يقول وائل علوان، الباحث في مركز جسور للدراسات حاليًّا، والذي كان يعمل مسعفًا عام 2013، في شهادته لـ”نون بوست” في الذكرى العاشرة للمجزرة: “كنت مقيمًا في دوما وقتها، وفي تلك الليلة لم يكن هناك إنترنت أو وسائل اتصال بسبب انقطاع الكهرباء، لكننا استيقظنا في الساعة السادسة والنصف صباحًا على ضجيج غير مألوف”.
“كنت أعمل مسعفًا، ولذلك حضر أحد الزملاء إلى منزلي وأخبرني والصدمة على وجهه أن هناك مجزرة ضخمة اُرتكبت في الغوطة وذهب ضحيتها المئات، وبالطبع كان يجب التوجه إلى النقطة الطبية”.
ويضيف: “في الطريق كنت ترى الصدمة والذهول على وجه الجميع، ومع عودة الإنترنت بدأت الأخبار والتفاصيل تتوارد من زملكا وعربين وعين ترما عمّا حصل، لتنفجر مدينة دوما ببكاء جماعي تقريبًا كان يمكنك أن تحس بصوته في كل ما يحيط بك، من وجوه وشوارع وأبنية ومنازل”.
“امتدت الصدمة وساد الذهول في دوما بشكل شغل الجميع عن التفكير بالمستقبل، لكن الرعب فرض نفسه بقوة عندما بدأ الناس يطّلعون على مشاهد المجزرة الرهيبة، ليبدأ الجميع بالتساؤل عن سبل مواجهة هذا النوع من الهجمات في حال اُستهدفت المدينة بها”.
ويختم علوان: “كانت النصائح تقليدية والتعليمات تتناسب مع الإمكانات البدائية المتوفرة في منطقة محاصرة تنعدم فيها الأدوات والتجهيزات الطبية تقريبًا، ثم بدأت حالة من الفوضى تسود مع انتشار أسماء بعض الأدوية المفيدة في مواجهة الكيماوي، مثل الأتروبين وغيره من المركبات الدوائية التي لم تكن متوفرة في النقاط الطبية بالغوطة الشرقية على أي حال، الأمر الذي زاد من حالة التخبُّط واليأس بين السكان”.
اختلاط المشاعر
“لا يمكن وصف تلك اللحظات بالنسبة لنا نحن سكان المناطق المجاورة لمسرح المجزرة الكبرى، لكن باختصار نستطيع أن نسمّيها خيبة أمل من حياة الموت المتوقع بأي لحظة، ومن موت جديد عرّفتنا إليه هذه المجزرة التي خيّمت على الجميع لوقت طويل، ربما لأنها حصدت كل هذا العدد من الضحايا في لحظة واحدة”.
هكذا بدأ الناشط الإعلامي عمر القصير شهادته لـ”نون بوست” عن استقبال السكان في المناطق المجاورة لزملكا وعين ترما وعربين خبر ومشاهد مجزرة الكيماوي، ويضيف: “أكثر ما أتذكره اليوم عن تلك اللحظات هو اختلاط المشاعر لدينا في منطقة جنوب دمشق المحاصرة، بين الألم على من قضى في الهجوم، وبين الامتنان للنجاة، وبين الخوف من أن نكون الهدف التالي لهذا النوع من المجازر، وبين عدم المبالاة بالموت الحاضر بيننا بأي لحظة وبكل الطرق والأدوات”.
ويتابع: “في اللحظات الأولى لانتشار الخبر اعتقدنا أنها مجزرة مثل التي كانت تحدث في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، لكن عندما بدأت الصور والتسجيلات المصورة والأرقام المرعبة تنتشر، أدركنا أننا حيال موقف مختلف جدًّا هذه المرة، نجونا منه بسبب الظروف الجوية وقتها، حيث اختار النظام توقيتًا كانت الرياح فيه ساكنة من أجل تركيز الغاز وزيادة فاعليته في المنطقة المستهدفة، لكن لن ننجو منه لو تكرر عندنا، في ببيلا مثلًا أو يلد أو مخيم اليرموك أو الحجر الاسود أو القدم أو غيرها من حواضر جنوب دمشق”.
ما الذي علينا فعله؟
“هذا هو السؤال الذي طرحناه على أنفسنا وقتها”، يضيف القيصر، “وبالطبع كانت الاقتراحات كثيرة في البداية، لكن بسبب عدم توفر الإمكانات والمواد، تم إقرار مقترح إنتاج أجهزة تنفس صناعي بدائية يمكننا توفير موادها التي كانت عبارة عن قطن وفحم بالدرجة الأولى، وتم تصنيع عدد لا بأس به منها ووُزّعت على البيوت والنقاط الطبية، وبقيت تتصدر قائمة اهتماماتنا باعتبارها سبيل النجاة الوحيد الممكن في حال تعرضنا لأي هجوم كيماوي، قبل أن تفقد الاهتمام مع انهماك الناس بيوميات الحصار والجوع والقصف بالصواريخ والمدفعية والدبابات والبراميل، حيث يفرض الموت نفسه بالشكل الذي يحضر فيه أكثر ممّا يفرض نفسه بالشكل المتوقع”.
أدلة حاسمة.. ولكن
في تقريرها الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية يوم 24 أغسطس/ آب 2022، أكدت واشنطن بشكل قاطع مسؤولية النظام عن هذه المجزرة.
حدد التقرير أسماء 3 ضباط من بين آخرين شاركوا في تنفيذها، وهم العميد جودت صليبي مواس، آمر لواء الصواريخ 155 من مواليد ريف حمص عام 1954؛ العميد عدنان عبود الحلوة، نائب مدير إدارة المدفعية والصواريخ بوزارة الدفاع من مواليد ريف جبلة عام 1957؛ اللواء غسان أحمد غنام، قائد اللواء 155 حرس جمهوري.
هؤلاء الثلاثة قال عنهم التقرير الذي اعتمد على أدلة وشهادات، إنهم نفّذوا الهجوم الكيماوي المرعب عام 2013، ما أدى إلى مجزرة ترقى إلى مستوى جريمة حرب، مؤكدًا أن الولايات المتحدة تواصل دعم جهود الكشف عن المجرمين وتقديمهم للعدالة.
في اليوم نفسه الذي صدر تقرير الخارجية الأمريكية، قدّم الأرشيف السوري والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير إلى سلطات التحقيق والادّعاء في كل من ألمانيا والسويد وفرنسا، معلومات إضافية متعلّقة بهجمات الكيماوي التي ارتكبها النظام السوري في غوطة دمشق عام 2013، وكذلك في خان شيخون جنوبي إدلب عام 2017.
يبدو أن الدور الروسي المعيق في مجلس الأمن نجح حتى الآن في تقديم الحماية لبشار الأسد ونظامه، بل في عرقلة عملية التحقيق الدولي حول المجزرة.
تؤكد هذه المؤسسات، وغيرها من مراكز ومنظمات العمل الحقوقي السورية وغير السورية أيضًا، أنها تمتلك ما يكفي من الأدلة لتحميل نظام الأسد مسؤولية هذا الهجوم ومئات الهجمات الأخرى بالسلاح الكيماوي وقعت قبل مجزرة الغوطة الشرقية وبعدها، لكن دون أن يسهم ذلك في جعل مجلس الأمن الدولي يفعّل بنود القرار رقم 2118 الذي صدر في منتصف سبتمبر/أيلول عام 2015.
كما قدمت وكالة الاستخبارات الألمانية تقريرًا قبل سنوات، جاء فيه أنها رصدت اتصالًا جرى بين مسؤول كبير من “حزب الله” والسفارة الإيرانية في بيروت، أشار خلاله مسؤول الحزب إلى مسؤولية بشار الأسد عن الهجوم، وإلى أنه كان يعيش وقتًا عصيبًا جدًّا حينها دفعه إلى الموافقة على هذا العمل.
من جانبها، نشرت صحيفة “الغارديان” بتاريخ 3 سبتمبر/ أيلول 2013 تقريرًا استخباراتيًّا فرنسيًّا أكّد أن قوات النظام هي المسؤولة عن الهجوم، حيث التقرير الفرنسي تضمّن صورًا تظهر انطلاق صواريخ من مواقع قوات النظام، و47 تصوير فيديو وضعها الناشطون وتحقق أطباء فرنسيون من صحتها.
ويبدو أن الدور الروسي المعيق في مجلس الأمن نجح حتى الآن في تقديم الحماية لبشار الأسد ونظامه، بل في عرقلة عملية التحقيق الدولي حول المجزرة، بينما أثبتت تقارير اللجان الأممية المختصة مسؤولية هذا النظام عن تتفيذ هجمات كيماوية أخرى، أدّت إلى سقوط عدد كبير من الضحايا في دوما وسراقب وخان شيخون وغيرها، لكن دون أخذ نتائج هذه التقارير بعين الاعتبار من قبل مجلس الأمن أو المحاكم الدولية، الأمر الذي يزيد من انعدام ثقة السوريين بهذه المؤسسات، ويعزز قناعتهم بأن المسؤولين لن ينجوا من العقاب وحسب، بل سيتم إعادة تأهليهم إذا ما بقيت الأمور تسير على هذا النحو.