غالبًا ما تكون الحياة صعبة، قاسية، ولا تتهاون في محاولاتها لصدنا عن بلوغ أحلامنا، وينضم إليها أصوات أخرى ممن حولنا، تؤازرها بقوة، تحسنا على أن نتوقف، أن نكف عن الحلم، وأن نقبل بالأمر الواقع، أن نكف عن ملاحقة السراب، أن نكبر، أن ننضج، ومع ذلك هناك من يقرر الاستمرار، المحاولة، مرة تلو أخرى، وفي بعض الأحيان ربما يخضع قليلًا، يتنازل لبعض الوقت، إلا أن روحه تظل تواقة للتحرر، لمتابعة الحلم، وكالعنقاء ينهض ويفرد جناحيه، ويصوب عينيه ناحية النجوم، الأحلام، ليمسك بها.
فيلم “لا لا لاند” للمخرج الشاب والموهوب داميان شازيل يتحدث عن كل هذا، فنحن نتابع حياة كل من ميا “إيما ستون” التي تعمل نادلة بمقهى في هوليوود وتطمح لأن تكون ممثلة، وسيباستيان “راين جوسلينج” عازف البيانو العاشق للجاز والذي يطمح بدوره لأن يعيد إحياء موسيقي الجاز من جديد ويفتتح حانة تقدم تلك الموسيقى لروادها، وأن يعزف ما يشاء.
في مدينة النجوم، مدينة لوس أنجلوس، فلا لا لاند جاء ليعيد تذكيرنا بأن السينما في الأصل هي حالة من السحر، وحلم لا ترغب في إنهائه أبدًا.
يبدأ الفيلم في زحام مروري خانق بأحد الطرق في ساعة الذروة الصباحية، ليبدأ السائقون في الطرق على أبواق سياراتهم وكل يدندن مع موسيقى مختلفة، روك، كلاسيك، ديسكو، بانك، ثم نبدأ التعرف على البطل سيباستيان والذي على بُعد أمتار منه توجد ميا عالقة داخل سيارتها بدورها.
ويعد هذا أول لقاء بين الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم، وبعد أن يفض الزحام ننتقل مع ميا إلى المقهى حيث ترتدي مئزرها وتبدأ في تقديم القهوة للزبائن، وفجأة تدخل شخصية المقهى، وتتطلع جميع العيون ناحيتها، ويتعالى الهمس، تتقدم وتطلب “كابتشينو”، فتتقدم صاحبة المحل وبابتسامة تخبرها “أنه على حساب المحل”، إلا أنها ترد “أنا أصر على ذلك”، ثم تخرج من المحل والعيون تتابعها، عيون الجميع، إنها ممثلة شهيرة، وتنظر إليها ميا بعيني حالمة تنسيها للحظة وظيفتها الحالية.
يصدر عن هاتفها تنبيهًا لموعد تجربة أداء جديدة لها، فتحاول أن تسرع إلا أنها تنسى المسودة، فتعود مجددًا لإحضارها وفي خضم سرعتها وارتباكها يصطدم بها أحد الزبائن ويسكب القهوة على قميصها الأبيض، وتسرع ميا للحاق بتجربة الأداء والتي تبدو مخيبة للآمال لها، فلا أحد يهتم بما تقوم به بالفعل، بل يأكلون أو يضحكون، وحينما تخرج من حجرة التجارب تجد صف طويل جالس من الفتيات يرتدين نفس الزي تقريبًا على عكسها التي ترتدي جاكيت لإخفاء بقعة النسكافيه.
تتجول ميا عبر الطرقات ويكتسي وجهه ملامح الحزن واليأس، إلا أن فجأة ينتشلها صوت عزف جميل يصدر من إحدى الحانات وكالسحر يبدل من ملامح وجهها، تنبسط، وتظهر ابتسامة صغيرة على ثغرها، تتبع الصوت إلى الداخل، تنصهر معه، وتكتشف أن سيباستيان هو العازف، إظلام تام ولا نرى إلا ميا، ينهي سيباستيان معزوفته، وتتقدم ميا ناحيته، ترغب في أن تخبره عن إعجابها واستحسانها للموسيقى، إلا أنه يتجاهلها تمامًا ويخرج من الحانة.
يعود بنا شازيل مرة أخرى إلى البداية، ولكن هذه المرة مع سيباستيان، نعرف أنه مهووس بموسيقى الجاز الجادة والأصيلة، لدرجة حينما تقول له أخته إنه يجب أن يخرج لمواعدة إحداهن، فيخبرها ببساطة “إن كانت لا تعرف شيئًا عن الجاز، إن كانت لا تحب الجاز، فلا أدري عن أي شيء يمكننا الحديث عنه”.
نتبع سيباستين إلى حانة ليبتون ويدور حوار بينه وبين المدير “جي. كي. سيمونز”، والذي يؤكد له لا مزيد من الجاز، يحاول التفاوض معه، ولكنه في النهاية يرضخ لطلب المدير، يبدأ في عزف مقطوعة White Christmas، ولا أحد من الحضور يهتم، وينتقل من مقطوعة لأخرى مثل Santa Claus is coming to town، و Let it snow، في جو كوميدي مفعم بمرارة في الحلق – لا يبدو ذلك على وجهه – في الأخير يرضخ لنداء الفنان داخله، للموسيقى التي يحبها أكثر من أي شيء، ومثل ميا، يظلم المكان، ويسلط الضوء عليه، ينتقل إلى فضاء يخصه وحده، حلم، يعزف خلاله موسيقاه، وما إن ينتهي يجد الجميع يتطلع إليه في استغراب أو استهجان، ويعود مديره إليه وقد فاض به الكيل، يخبره أنه مطرود، وتظلم الدنيا أمامه، وهنا يتقابل بطلا الفيلم في لحظة باردة ومريرة، ويمر سيباستين بميا تاركًا إياها بمفردها في حالة من الإنكار.
قسم شازيل الفيلم على عدة فصول من السنة، كما لو أنها جاءت لتعبر عن تطور العلاقة بين ميا وسيباستين، من شتاء، مرورًا بربيع وصيف قصير يحمل بين طياته قصة حبهما الحالمة، نهاية بالشتاء مجددًا.
يقول شازيل “بالنسبة لي، لقد كان من المهم أن أصنع فيلمًا عن الأحلام، عن شخوص يمتلكون تلك الأحلام الكبيرة التي تحركهم، وتجمعهم معًا، ولكن تفرقهم أيضًا، فيلم لا لا لاند هو فيلم مختلف جدًا عن ويبلاش Whiplash في عدة مناحي، لكن كلاهما يتعاملان مع شيء يعد شخصيًا بالنسبة لي، وهو كيف أن توزان بين الحياة والفن معًا؟ كيف تتمكن من موازنة الواقع والأحلام سويًا؟ وأيضًا كيف توازن علاقتك مع الفن وعلاقتك مع الأشخاص الآخرين؟ وفي لا لا لاند أردت أن أحكي تلك القصة عن طريق الموسيقي والأغنية والرقص”.
وقد حقق شازيل ذلك بنجاح وبحق، ففي تطور العلاقة بين ميا وسيباستين، يجعل كل منهما يدفع الآخر ناحية حلمه للأمام عندما يجده تراجع أو يتنازل ولو قليلًا، فكلاهما يدعم الآخر، دون أن يدركا إن كان متابعتهم لسيرهم تجاه أحلامها سيفرقهما.
ولا يترك شازيل الفرصة في النهاية ليخبرنا بأن تحقق الأحلام والطموحات قد يأتي بكلفة كبيرة، فسيباستيان حقق حلمه وافتتح الحانة التي أرادها دومًا، بينما ميا أصبحت نجمة مشهورة، وملصقاتها تنتشر في الشوارع.
بل في إشارة لبداية الفيلم حيث تتحول ميا من فتاة المقهى العاملة إلى النجمة المشهورة التي تتطلع إليها العيون كلها.
ويتكرر نفس الحوار الذي رأيناه من قبل.
- هاي، كوب من القهوة لو سمحت.
- إنه على حساب المحل.
- لا، لا، أنا أصر على الدفع.
وبابتسامة ترحل بينما ما زالت العيون تتبعها.
ومثل نهاية ويبلاش، نجح شازيل في خلق لحظة، ونهاية تجعل المتفرج يجلس في مقعده لعدة لحظات، ليتأمل ويتساءل ماذا حدث حقًا؟ لكن هنا في لا لا لاند، وبنهاية تتسم بالنوستالجيا والشجن يعيد شازيل تنبيهنا بأن حلم اليقظة الجميل قد آن الآوان للاستيقاظ منه. ولكنك جالس في مقعدك، وسط قاعة سينما مزدحمة، فلا تجد وأن تردد لنفسك، ورفيقك: يا له من حلم جميل.
هذا هو ما عليه فيلم لا لا لاند.. حلم جميل.
يعد الفيلم اللقاء الثالث بين إيما ستون وراين جوسلين بعد فيلمي Carzy,stupid,love وGangster Squad، ورغم أداء راين جوسلين الجميل، فإن إيما وبجدارة تمكنت من أداء دور لا ينسى بسهولة، فكل مشهد على الشاشة كانت تمارس خلاله سحرها ليطبع في الأذهان ويظل محفوظًا لفترات طويلة.
وفي النهاية لا يجب أن ننسى الإشارة إلى كل من موسيقي وأغنيات جوستين هورويتز التي تعد جزءًا أساسيًا من قصة الفيلم، ولينوس سانديجرن المسؤول عن اللوحات الخلابة والألوان الرائعة، فيقول “لم يرغب داميان في إضافة أي مؤثرات لاحقة، لقد أراد كل شيء يحدث أمام الكاميرا فحسب، السحر الذي ترونه في الفيلم لم يكن زائفًا أبدًا”.
وبالطبع بالإضافة إلى ماندي مور وتصميمها للاستعراضات الراقصة، فبتضافر كل هذه الجهود معًا تحقق الحلم والسحر الذي رأيناه.
إلى الآن حقق الفيلم العديد من الجوائز، يعد من أهمها 7 جوائر في الجولدن جلوب، ومن المؤكد أنه لن يذهب إلى جائزة الأوسكار ويعود فارغ اليدين.