جلد الذات عملية مريحة لأنها تحرر الكاتب من المسؤولية، إذ يلقي بالأعباء على جهة ما ويريح ضميره، وقد دأب كتاب عرب كثر على هذا النوع من الكتابة المتبرئة من المسؤولية، ويمكن تتبع أصل هذا الاتجاه في الكتابة والذي ازدهر منذ هزيمة 1967 وكانت فاتحته قصيدة نزار قباني “هوامش على دفتر النكسة”، والتي مطلعها “أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغةَ القديمة والكتب القديمة، أنعي لكم كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة ومفردات العهر والهجاء والشتيمة، أنعي لكم.. أنعي لكم.. نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة“.
اليوم وبعد خمس سنوات كاملة من الثورة العربية والتي يطربنا أن نسميها بالربيع العربي نجد هذا الاتجاه في الكتابة يعود بقوة ويسيطر على مواقع التواصل الاجتماعي ويبث روحًا محبطة لدى أجيال من الشباب لم يعيشوا الهزائم القديمة لكنهم يقرأون للجيل الذي عاشها فيبثّون فيه الروح المنهزمة والكتابة المتنصلة من المسؤولية.
في مقابل ذلك يحاول البعض زرع ورد مزيف في المشهد السياسي والفكري العربي لما بعد الثورة محاولاً بث أمل بلا قواعد ثابتة سرعان ما يكتشف الناس خواءها وزيفها فيرتدون إلى خطاب التفجع والطلليات السائدة ويختمون هذه أمة بلا مشروع.
والحقيقة أن الطلليات موجعة ولكنها لا تفتح أفقًا بينما فتح الأفق للتفاؤل والأمل بلا معالم واضحة لمشروع واضح عملية خديعة وتبرير ينتهيان كلاهما إلى نفس النقطة الحائرة، أين المشروع؟
أمة عربية تائهة بين الأمم وفاقدة لبوصلة تسير عليها نحو مكانة مستحقة بين الأمم
وقد يصب عنوان هذه الورقة في نفس الخانة من التفجع على أمة عربية تائهة بين الأمم وفاقدة لبوصلة تسير عليها نحو مكانة مستحقة بين الأمم، وينتهي كغيره في باب جلد الذات ثم الاستراحة على جنب طريق لا يؤدي إلى أي وجهة، لذلك وجب التريث في إصدار الأحكام والاعتماد على وقائع واضحة وتحليل رصين للمواقف لعل أن يهتدي المرء إلى بعض ما يريد أو يكتب فيما ينبغي أن يكون.
الحالة التونسية عينة قطرية من أمة بلا مشروع
أكثر من نصف قرن من الدولة القطرية في تونس (والقياس ممكن على بقية الأقطار بلا استثناء) انقسم فيها المجتمع إلى نظام حكم جائر ومعارضة متنوعة المشارب تضع نصب عينيها إسقاط النظام وفرض الديمقراطية.
ولقد أجّل وضع المعارضات المتنوعة وتحت التأثير التعاطف المبدئي ضد النظام التونسي (العربي) القائم طرح الأسئلة عن طبيعة هذه المعارضات ومنع مناقشة مشاريعها الحقيقية ونواياها الفعلية من اختيار موقع المعارضة، لقد كان إعلان المعارضة للسلطة وحده كافيًا لنيل التعاطف الشعبي.
فالعداء كله كان مسلطًا على النظام (الحزب الحكام ومؤسسات الدولة) لكن انفجار الحريات وفتح باب المشاركة السياسية لكل ألوان الطيف السياسي الذي عاش معارضًا وحاز محبة الناس كشف أن ليس لهذه المعارضات أي مشروع سياسي وثقافي واجتماعي وطني يمكن الاعتماد عليه بديلاً للنظام الذي سقط.
احتمت المعارضة بفلول النظام وأعادت ترميمه ليواصل إنتاج نفس الوضع البائس الذي قامت عليه الثورات
وبالمطاولة احتمت المعارضة بفلول النظام وأعادت ترميمه ليواصل إنتاج نفس الوضع البائس الذي قامت عليه الثورات، أي أنه في لحظة التصدي للقيادة انكشفت عورات معارضي النظام ليثبتوا له وهو منهار أنه كان الأقدر على القيادة وكان الوحيد الذي يلملم مشروع دويلة بما تيسر من وسائل ولم تكن وسائل ديمقراطية وإنما هي أقرب إلى تغيير البيادق في الصفوف الخلفية من الرقعة دون التقدم لهجوم على القلعة والملك، بما يطرح سؤالاً مؤسسًا:
لماذا لم يتحول خطاب المعارضة إلى مشاريع حكم؟
هنا نقطة البداية في قراءة تقدم الربيع العربي نحو مصير مجهول أو في أقل الاحتمالات سوءًا إعادة إنتاج النظام بكل إنكساراته الديمقراطية، لكن خارج خطاب نقد السلطة وتتبع مثالبها هل كان للطيف السياسي العربي المعارض سابقًا أكثر من هذا الخطاب؟
كان هناك اتفاق عام على أن الأنظمة لم تكن تملك مشاريع حكم وإنما تدير الأمور بما تيسر وتستعين بالقمع على إسكات الجميع، وصار من المتفق عليه الآن أن المعارضات العربية (والتونسية منها عينة ذات دلالة) لا تملك بدورها أية مشاريع، مما يدفع إلى استنتاج واضح أن مكونات المشهد باختلاف مواقعها فاقدة للمشروع وأنها واحدة في عجزها وأنها جزء من هذه الأمة التي لا تعرف ما تريد ولذلك لا تعرف ما تفعل بنفسها.
وإذ يستوي الجميع في العجز والجهل وفقدان الدليل فإن الأسئلة لا بد أن تعود إلى البدايات، إلى الصدمة الحضارية الأولى في العصر الحديث، لكن كم المكتوب في هذا كثير وقد يكون من الخطأ المنهجي إعادة التفكير فيه، ففي كل فشل تطرح أسئلة مماثلة وتقدم إجابات متماثلة لكنها لا تمنع من السقوط.
هناك مشجبان يعودان دومًا لتعليق الفشل والاستمرار فيهعلى العداء الخارجي (الإمبريالية) والأنظمة الخائنة (الرجعية) دون الإشارة إلى فشل النخب والقيادات الفكرية المعارضة للسلطة أو المستقلة
وهناك مشجبان يعودان دومًا لتعليق الفشل والاستمرار فيه على العداء الخارجي (الإمبريالية) والأنظمة الخائنة (الرجعية) دون الإشارة إلى فشل النخب والقيادات الفكرية المعارضة للسلطة أو المستقلة عنها والعاملة افتراضيًا على اجتراح البدائل، وفي الأثناء يحظى الكيان الصهيوني بكل الشتائم فهو المسؤول الأول عن فشل الأمة وكسر ركبتيها دون النهوض والإقلاع، حتى ليمكننا القول إن الكيان حمى النخب من كل مسؤولية، وفي الأثناء ابتذلت النخب السياسية كل المفاهيم والمصطلحات وكل القصائد المتغنية بالأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة.
الجمهور المجهول مجمع على الحق
الربيع العربي كان واقعة في هذا المسار الطويل لكنها واقعة فارقة ومؤسسة، لقد قام لقضاياه دون العودة إلى النخب وكان انفجاره العفوي رسالة واضحة أن ما تفكر فيه النخب ليس هو ما يريده الشارع وما تتخذه من وسائل لا يتلاءم مع مطالبه الفعلية في تغيير النظام وليس المقصود عنده النظام السياسي بل كل مكونات الدولة منذ الاستقلال.
لم تعبر عنه في كراسات نظرية ثم سعت إلى تطبيقه (كما كانت تزعم النخب) وإنما صرخت به في الشارع (الشعب يريد إسقاط النظام)، لكن النخب وخاصة التي عاشت من شرف المعارضة اختصرت الأمر بسرعة في إسقاط شكل النظام (الظاهر) والإبقاء على جوهره فكانت الخيانة الكاشفة عن أن هذه النخب لا تحمل لهذه الشعوب مشروعًا.
وإنها طيلة عملها في المعارضة لم تكن تفكر في تغيير طبيعة النظام ومؤسساته وإنما في تغيير الأشخاص على مواقع السلطة لتحصل منها على جزء ولو اقتضى الأمر أن تحكم معه أو أن تتذيل له من جديد، وهنا حدثت القطيعة بين مشروع الأمة العفوي الفطري ومشاريع النخب التي انكشفت كجزء من النظام نفسه وهنا وجب العثور على نقطة البداية دون الحاجة إلى رجوع تاريخي إلى الصدمة الحضارية الأولى.
نقد النخبة بداية الطريق
من التعسف المنهجي القول بأن المجتمعات يمكنها أن تستغني عن نخبها، وأن الجماهير الشعبية (وهو لفظ مبهم سوسيولوجيًا) يمكن أن تضع دون الاستعانة بالنخب مشاريع للمستقبل، لكن يظل هناك سؤالاً لا تجيب عنه النخب وهو لماذا أفلحت الجماهير المجهولة في الثورة دون العودة إلى النخب وفعلت ما عجزت دونه النخب.
إن مناويل التفكير التي فرضتها النخبة والقضايا التي جعلتها أولوية في نشاطها الفكري والسياسي ليست هي نفسها التي تشغل الشارع التونسي (العربي عامة)، يبدو الشارع في الظاهر مشغولاً بغذائه وأمنه (كأنه قطيع غريزي)، ولكن أليست النخبة أيضًا فيلقًا تحركه الغرائز المهذبة بلغة متثاقفة، فالاختلاف فقط في شكل العبارة لا في مضمونها.
وجب تأسيس مشروع جديد بنفس الروح التي انطلقت بها الثورة وعلى قاعدة مطالبها وهي قاعدة ثابتة الأمن والغذاء وشروطهما السياسية من الديمقراطية والعدالة، ونعتقد أن الجماهير (يا اللفظ المبهم) التي اهتدت إلى إسقاط شكل النظام تعرف كيف تحقق هذه المطالب وعلى حساب النخبة التي تقطع عليها الطريق، ثمة سؤال مطروح بشكل خاطئ منذ البداية وننجر دومًا إلى إعادة طرحه لينقذ القادرين على الخوض فيه ويهمل الشارع المشغول بالحيوي اليومي المعيشي دون أن يكون بالضرورة قطيعًا تسيره غرائزه.
من هنا يبدأ مشروع أمة جديدة.