“من أهم أسباب استيلاء النظام والميليشيات على حلب كان الخرق الأمني المباشر” هذا ما قاله أحد قادة ألوية الجيش الحر المنسحبة من حلب، وفي التفاصيل ذكر أمورًا مذهلة من ضمنها تقدم الميليشيات إلى داخل أحياء كثيرة دون أي قتال وكانت صيحات كثيرة تتعالى وتتردد من راكضين فزعين مدنيين ومقاتلين بأن الجيش والميليشيات اقتحموا الشارع الذي أتوا منه في حين تكون فيه الميليشيات المقتحمة على بعد كيلومترات من ذلك الشارع.
قال: وصلنا إلى وضع لم نعد ندري فيه أين وصل العدو بالفعل وهل أصبح وراءنا وقطع علينا الطرق أم لا، لقد فرغت مناطق بأكملها من المقاتلين دون أي إشعار أو تنسيق وأصبحنا نسمع في التوقيتات الحرجة أن فلانًا وكتيبته قد انضم للعدو وأن فلانًا استيأس وسلم سلاحه واستسلم، وهكذا أصبحنا مجموعات بأعداد قليلة تواجه وتمسك بجبهات طويلة متداخلة.
وعندما وجهنا له سؤالًا مباشرًا عن تقديراته في نسبة العملاء المندسين الذين كانوا يتبعون المخابرات الجوية والأمن العسكري ونسقوا وانقلبوا في الساعات المطلوبة لإسقاط المدينة، أجاب بعد إطراقة طويلة: “لا أظنهم يَقلِّون عن 15% بين عناصر وقادة للمجموعات، غير من كانوا مندسين متغلغلين بين المدنيين”.
15% على أقل تقدير كانت في حلب، وربما كانت حلب من خلال أربع سنوات وبسبب تداخل جزأيها ولأسباب أخرى، تربة خصبة سهلة أمام النظام ليرسل العملاء المدربين ويبتز الناس المضطرين والخائفين، ولكنها نسبة خطيرة لا يمكن تجاهلها ولا بد من القياس عليها في الداخل والخارج، ولا بد من إضافة نسب أخرى لأصناف أخرى من الطامعين والمتسلقين، وآخرون من الضعفاء المترددين الذين دخلوا الثورة بالصدفة أو بالورطة وشكلوا نسبة تُظهر معارضتها للنظام على حرف فإن أصابهم خير اطمأنوا به وإن أصابهم خوف أو ضغط انقلبوا إلى حضن النظام تائبين او مُكللين.
ومن ضمن هؤلاء أصناف من كل نوع منهم إعلاميين وشيوخ دين وشيوخ عشائر يعودون، يعودون بوساطات مختلفة منها إيراني ومنها روسي ومنها استدعاءات مباشرة إلى الحضن القديم الذي غادروه مضطرين أو بالتنسيق والتفاهم مع المخابرات.
وبعد حالة تلبس الهزيمة والانكسار التي أصابت كثيرين عقب اجتياح حلب سيكون هناك تسارعً وعودات من أنواع مختلفة ولن تكون عودة نواف البشير بلا ريب آخر عودة إلى حضن النظام.
هناك سياسيون كانوا قبل الثورة شبه معارضين في الخارج والداخل وكان النظام يرعاهم من بعيد كضباب معارضة يظهره حينًا وينفخه حينًا آخر، وبعد الثورة ركبوا واعتلوا الموجات المتلاحقة للثورة، شكلوا لأنفسهم كتلًا وحصصًا وأضافوا لهم أتباعًا أصغر ولكن على شاكلتهم ليصبح لهم قوة وعصبية في المجالس ضمن الكتل المتصارعة المتشاكسة.
ثم ركبوا جميعًا كبارًا وصغارًا الموجات بشكل سيء وعلى ألواح سيئة وعلى غير هدى، ولم يستطيعوا فعل شيء إلا الركض اللاهث وراء الحكومات القريبة والبعيدة حتى أدخلوا كل مخابرات الأرض إلى غرف التحكم بالثورة السورية وقد استحوذوا فعلًا بهذه الوسيلة على مجالس المعارضة كلها ولكن لم تبرز لهم أي صفة قيادية إلا الغرور والكبر الذي لم يكونوا ليبلغوه بالتبعية الذليلة التي زادت وطأتها حتى قذفتهم إلى خارج المسألة السورية بل حتى خارج الهوامش الجانبية الخاصة بالقضية السورية.
ولحق بهؤلاء شيوخ رتبوا أنفسهم واعتصبوا ثم انضموا لأولئك السياسيين وشاركوهم في المؤتمرات والأفكار والأفعال ولم يتميزوا بأي خطاب ديني متوقع أمام الحشد الديني الطائفي المضاد لإيران وأتباعها الذين يقاتلون على الأرض بضراوة ووحشية.
وهؤلاء وهؤلاء ومن لحق بهم أخذوا فرصة تاريخية عظمى، أخذوا الفرصة كاملة أن يدركوا عنفوان الثورة السورية وزخم شعبها المظلوم المنتفض وأن ينظموا ويندمجوا ثم يحشدوا للثورة ثم يمثلونها سياسيًا وشعبيًا ولكنهم فشلوا وأفشلوا.
وراحوا ومنذ أكثر من سنة يكثفون انتقاداتهم للثوار والفصائل والقادة في الداخل وأخذوا يتفننون في تضخيم العيوب والعثرات ويقترحون ثورات طوباوية معقمة بديلة وموجات مثالية مخملية رديفة.
هؤلاء جميعًا سيخضعون في المرحلة القريبة المقبلة إلى ما سيسمونه بالإرادة الدولية والتوافق الدولي الذي أجمع على الإبقاء على بشار الأسد، ولكنهم سيصرون بشدة على التغليف، التغليف الجيد البراق الخادع الذي يُلبس ويُلبِّس بقاء بشار بلباس الفترة الانتقالية المؤقتة أو الصلاحيات المنزوعة أو عدم الترشح بعد خمس سنين أو بانتخابات رئاسية مبكرة بعد سنة يترشح فيها بشار ومن أراد منافسته تحت رقابة أممية فدونه الساحة المليئة بالرعب وأشباح الرعب وشبيحة الرعب.
وسيتكلم هؤلاء السياسيون أيضًا لإقناع غيرهم عن الحكمة والواقعية بعيدًا عن الرعونة و”الهوبرة” فنحن لا نعيش في المريخ وما نحن إلا بلد وسط بلدان ودول ولا يمكن تحدي إرادات هذه الدول حتى لو أجمعت إرادتها على بقاء بشار الأسد واستمرار استعباد الشعب السوري بلا حدود وسيسهبون في شرح أثر وقوة الضمانات الدولية في تفاصيل بقاء بشار، ومثل هذه الضمانات تجلت فعاليتها مؤخرًا في اتفاقية وقف إطلاق النار وانتهاكاتها التي جعلتها أقرب لقرار اجتياح لوادي بردى واستباحة لإدلب من كونها قرار لوقف لإطلاق النار.
وبدأ الشيوخ يلعبون دورهم وهم منذ أشهر يمهدون بفتاوى صريحة قال فيها أحدهم: “سيبقى أغلبهم في الخارج وسيعودون عودة متقطعة مخملية إلى حضن الوطن إن احتاجهم الحضن في تسوية”.