ثمة سؤال يتردد باستمرار على ألسنة وأقلام الصحفيين والخبراء الغربيين وهو: لماذا تسجل تونس نسبة عالية من المندرجين في الجماعات الإرهابية في العالم العربي وخارجه؟
ولماذا يبدو عدد الشباب التونسيين المتورطين في أعمال إرهابية، سواء في مناطق النزاع في العالم العربي أو في بعض العواصم الأوروبية، عاليا مقارنة بعدد نفوس التونسيين التي لا تزيد عن 11 مليون نسمة؟
في الحقيقة، لا توجد إحصائيات دقيقة للشباب التونسيين في مناطق النزاع، وكل ما يقال في هذا الصدد يدخل في باب التقدير العام، إن لم نقل التخمينات.
لكن ما هو مؤكد، أن عددا كبيرا من الشباب التونسي قد انخرط بقوة في الصراعات الدائرة في سوريا والعراق وليبيا وغيرها.
يبدو ذلك واضحا وجليا من خلال عدد الشباب العائدين من بؤر النزاع في العالم العربي، إذ صرح وزير الداخلية التونسي مؤخرا، بأن العدد الرسمي للإرهابيين التونسيين المتواجدين في بؤر التوتر قد وصل إلى 2929، مؤكدا أن “الداخلية تمتلك أسماء هؤلاء الإرهابيين جميعا”.
ولعل ما يثير الاستغراب في هذا الصدد، المفارقة العجيبة التي تطبع الوضع التونسي بين ديمقراطية ناشئة وناجحة نسبيا، في محيط عربي شديد الاضطراب والصراعات، وبين الارتفاع النسبي في معدلات الأعمال الإرهابية التي تورط فيها تونسيون في الداخل والخارج.
واستخدم هذا الأمر مطية لكثير من القوى وحتى الدول المنزعجة من موجة التغيير التي هزت المنطقة منذ أواخر 2010، في إطار ما عرف بثورات الربيع العربي، للتشكيك في جدوى الحرية والديمقراطية، باعتبارها أسّ البلاء، ومصدر كل المشاكل والأزمات، وذريعة للثناء على فضائل الدكتاتوريات الغاربة والناشئة مجددا.
إلا أن حملات التشكيك وتبخيس المنجز الديمقراطي التونسي هذه لا ينبغي أن تثنينا عن التشخيص الدقيق والبحث في الأسباب العميقة لهذه الظاهرة والعوامل التي تقف خلف انتشارها وتمددها داخليا وخارجيا بشيء من الهدوء والعقلانية.
الجذور والأسباب
بشيء من الاختصار، يمكن إجمال الأسباب التي تقف خلف ظاهرة التشدد والعنف بين قطاعات من الشباب التونسي في أربعة عوامل رئيسة على الأقل، طبعا دون أن نعدم إمكانية تأثير اخرى
أولا: الفراغ الديني والسياسي
لعل أكثر ما يشد الانتباه، أن أغلب الشباب التونسيين الذين استهوتهم حركات العنف والإرهاب هم في أغلبهم في العشرينات، وفي أقصى الحالات في بداية الثلاثينات من العمر.
ما يعني أن شخصياتهم قد تشكلت في مرحلة حكم الجنرال المخلوع أساسا، حيث حوصرت كل مجالات التأطير السياسي والتكوين الديني السليمين، فأضيف التصحر الديني إلى واقع بائس من الفراغ السياسي.
اختار بن علي منذ بداية التسعينيات سياسة أمنية بالغة القسوة، من خلال التضييق على كل قنوات التكوين السياسي، وبالتزامن مع التضييق على المساجد وهيئات التكوين والإرشاد الدينيين.
وحينما استشعر مخاطر الاحتقان الذي يهدد نظامه نتيجة التضييق المشدد على كل مجالات التعبير الديني، أطلق العنان للمجموعات السلفية، علها تشكل سدا منيعا أمام ما كان يراه الخطر الأعظم المتمثل في حركة النهضة.
وتغذت هذه الظاهرة بدورها من شبكة الإنترنت والفضائيات، في ظل غياب مريع للمصادر والمؤسسات الدينية الموثوق بها.
ثانيا: استفادت مجموعات العنف والتشدد من الأجواء السياسية العامة التي أعقبت الثورة، ومن ذلك ضعف مؤسسات الدولة عامة، خاصة الجهاز الأمني الذي تلقى ضربات موجعة على مستوى التجهيزات والمقرات والعتاد، فضلا عن معنويات منتسبيه.
يعود ذلك إلى أن نظام بن علي اعتمد في سياسته القمعية على توظيف الجهاز الأمني واستخدامه لقهر التونسيين وضرب معارضيه السياسيين، وكان من الطبيعي أن يحمّل الناس هذه الأجهزة كل سلبيات المرحلة الماضية وتجاوزاتها وانتهاكاتها.
بقدر ما استفاد التونسيون عامة والقوى السياسية والاجتماعية من ارتخاء قبضة الدولة لتثبيت مكتسبات الحرية، بقدر ما أتاحت هذه فرصا جديدة لتمدد مجموعات العنف والإرهاب والجريمة المنظمة، وشبكات التهريب، وتسهيل تحركاتها وقدراتها على الاستقطاب.
بعد عقود طويلة من الاستبداد والحكم التسلطي، تمكن المجتمع التونسي من انتزاع مساحات واسعة من حرية التنظم والاجتماع والحركة والتعبير، ولكن ذلك اقترن في بدايته بقدر كبير من الفوضى والتسيب، وهشاشة مؤسسات الدولة.
هذا ما يفسر اتساع نشاط الجماعات السلفية المتشددة والعنيفة في السنوات الأولى من عمر الثورة التونسية في المساجد والساحات العامة، مع اتجاهها إلى ممارسة التقية والتضليل لربح المساحة والوقت، بالترويج بأن تونس أرض دعوة وليست أرض جهاد، كي يتبين فيما بعد بأنها منكبة على إقامة شبكات العنف وتجهيزها.
ثالثا، استفادت تنظيمات الإرهاب من أجواء الأزمات ومواقع الاحتقان في العالم العربي، وما تمخض عنها من حروب أهلية ونزاعات طائفية مدمرة.
كان العراق وجهة المقاتلين التونسيين تحت لواء القاعدة في السنوات الأولى للاحتلال الأمريكي للبلد، ثم انتقلت فيما بعد إلى سوريا بعد تحول ثورتها إلى ساحة قتال مفتوحة.
ما زاد في تعقيد الوضع هو وجود أزمة في ليبيا المجاورة اقترنت مع انهيار مؤسسات الدولة الليبية، وانتشار السلاح على نطاق واسع، ما أتاح لهذه المجموعات ملاذا آمنا وقريبا من الحدود التونسية، فأضحت ليبيا الوجهة المفضلة للتمركز والتدريب، واكتساب الخبرة.
إلا أن أهم ما يسترعي الانتباه، أن ظاهرة الإرهاب لم تجد لها بيئة حاضنة في الداخل التونسي.
فرغم المخاضات السياسية الصعبة التي مرت بها تونس بعد الثورة، ورغم بعض الضربات الاستعراضية والخاطفة التي سجلتها هذه الجماعات، من قبيل الاغتيالات السياسية وتفجير سوسة و”باردو”، واستهداف عناصر من الأَمْن الرئاسي، إلا أنها ظلت هامشية ومنبوذة داخل المجتمع التونسي، ومحاصرة من الرأي العام المحلي.
فحينما حاولت هذه الجماعات أن تنزل بثقلها لنقل المعركة إلى الداخل التونسي، لاستنساخ تجربة الموصل في العراق، قاعدة للتمدد، كما جرى في بن قردان على الحدود مع ليبيا؛ تلقى أتباعها ضربة موجعة نقلت الصدمة والرعب إلى صفوفهم، بفضل التلاحم الذي ظهر بين قوات الجيش والأمن وأهالي المدينة.
بل إن كثيرا من هؤلاء كانوا لا يكتفون بحماية ظهور أفراد الجيش، بل يسعون ليتقدموهم في المعارك الحامية، التي دارت في شوارع المدينة الجنوبية وبيوتها.
هذا يؤكد على سبيل اليقين، أن الساحة التونسية طاردة بطبعها للنزوعات العنفية والإرهابية، بل إن المزاج التونسي في عمومه يميل إلى الانفتاح والسماحة، ويستهجن كل نزوعات التشدد والعنف.
هنا يكمن سبب عجز هذه الجماعات عن تجذير أقدامها في التربة التونسية، رغم بعض الاختراقات التي حققتها.
السؤال الراهن هنا هو: كيف لتونس أن تتلمس طريقها نحو تثبيت المعادلة الصعبة بين ترسيخ مكتسبات الحرية التي تم انتزاعها بعد الثورة بتضحيات أجيال متعاقبة وبين حماية أمنها واستقرارها العام، في مواجهة أفراد ومجموعات عنيفة هوجاء، لا تتورع عن إزهاق الأرواح، وانتهاك الحرمات، وتدمير العمران.
المصدر: عربي 21