هل يتضرع الفلاسفة لله؟
في الواقع، لا تختلف صلاة الفلاسفة عن أي صلاة أخرى، وبغض النظر عن مهنتنا أو التدريب الذي تلقيناه أو حتى خبرتنا علينا أن نسعى جميعًا للتقرب من الله، وعمومًا تكشف الصلاة عن الوجه الحقيقي للشخص.
وتعد الصلاة من بين أهم الأمور وأكثرها جدية في حياة الإنسان، وتتطلب الوجود الروحي والعقلي الكامل للشخص الذي يصلي، خاصة أنها أفضل طريقة يتقرب من خلالها الشخص إلى الله ويتواصل معه، وتعتبر الصلاة اجتماع المتناهي مع اللامتناهي، والبشري مع الخالد، والعبد مع ربه.
فضلاً عن ذلك، فقد أكدت جميع الأديان على أهمية الصلاة في حياة المرء الروحية، وفي هذا الصدد، تعتبر التقاليد الإسلامية من أغنى الأديان من ناحية أدب التضرع والابتهال، والأمر من مأتاه لا يستغرب، فقد علمنا القرآن والرسل كيف نصلي ونتقرب من الله.
وتعكس الصلاة في عمقها وجمالها اللامحدود، رحمة الله اللامتناهية، والمراحل المتعددة التي يمر بها الإنسان، وكما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم “الصلاة عماد الدين”.
وعمومًا، تتألف الصلاة من ثلاثة أجزاء، الجزء الأول من الصلاة يُشيد من خلاله الإنسان بسلطة الله المطلقة ورحمته بعباده، أما الجزء الثاني فيقر فيه الشخص “بضعفه” واعتماده على الله، وفي الجزء الثالث يطلب الإنسان مباشرة من الله أن يغدقه برحمته وحمايته وثقته.
كل إنسان في هذا الكون له شخصيته الفريدة وبالتالي ينفرد كل مخلوق بدعائه الخاص لله، وفي الوقت نفسه، فإن الأمر ينطبق تمامًا على الفلاسفة الذين يرون الله على أنه “ذات واحدة” و”علة العلل” و”مصدر المخلوقات”
ومن المعلوم، أن كل إنسان في هذا الكون له شخصيته الفريدة وبالتالي ينفرد كل مخلوق بدعائه الخاص لله، وفي الوقت نفسه فإن الأمر ينطبق تمامًا على الفلاسفة الذين يرون الله على أنه “ذات واحدة” و”علة العلل” و”مصدر المخلوقات”.
وفي هذا السياق، وثق بعض الفلاسفة الأدعية التي يتضرعون بها إلى الله، التي تعكس موقف كل فيلسوف والمنظور الذي يرى به الله، الذات الأسمى، في علاقته بعالم الخلق، ويمثل الدعاء خير دليل على امتنان الشخص لـ”وجوده”.
وتجدر الإشارة إلى أن الادعاء الذي يتهم الفلاسفة بأنهم حولوا الذات الإلهية، حسب التقاليد الإبراهيمية، إلى مبدأ كوني، وبالتالي لا يستطيع الإنسان الصلاة والتضرع له، لا أساس له من الصحة.
وفي هذا الإطار، سعى الفلاسفة المسلمون للحفاظ على التوازن بين الله رَبا للكون، والله على أنه علة العلل، والجدير بالذكر أن الأسماء التسع والتسعين التي ندعو بها الله في صلاتنا، تكشف لنا مدى عظمته، وترشدنا في عملية بحثنا إلى سبل التقرب منه.
ويعتبر الفارابي (ولد في سنة 872 م – وتوفي في سنة 950م) أحد أعظم العقول التي عرفها التاريخ، إذ يُعرف الفارابي على أنه المعلم الثاني بعد أرسطو، حيث جمع بين مختلف العلوم من فلسفة، وفكر سياسي، وعلم المنطق وعلم الكونيات، وأيضًا الموسيقى.
ومن الملفت للنظر أن ابتهالات الفارابي لها مكانة عظيمة ليس فقط في صفوف طلاب الفلسفة الإسلامية، ولكن أيضا بالنسبة لأي شخص يهتم بالعلاقة التي تربط التفكير الفلسفي والدقة المنطقية وصقل الروح، ويوعز ذلك لقدرة الفارابي على جمع الفروع الرئيسية للتراث الفكري الإسلامي.
(تم تحرير ونشر صلاة الفارابي التي تحمل عنوان “الدعاء العظيم” من قبل محسن مهدي استنادا إلى المخطوطة المحفوظة في مكتبة السليمانية في مدينة إسطنبول، من كتاب الفارابي “كتاب الملة ونصوص أخرى” دار المشرق بيروت 1986، من الصفحة 89 إلى الصفحة 92).
جمعت صلاة الفارابي بين المبادئ اللاهوتية والفلسفية والكونية لله
في الحقيقة، جمعت صلاة الفارابي بين المبادئ اللاهوتية والفلسفية والكونية لله، واعتبر الفارابي أن الله هو الخالق الواحد، وعلة العلل، ويمنح الله الوجود لعالم الخلق بفضل رحمته اللامتناهية، وبالتالي، فإن وجود البشر يعتبر بركة ورحمة من الله وأي صلاة يجب أن تستهل بهذا الإقرار:
“الَّلهم إني أسألك يا واجب الوجود ويا علة العلل يا قديما لم يزل أن تعصمني من الزلل، وأن تجعل لي من الآمل ما ترضاه لي من عمل.
الَّلهم امنحني ما اجتمع من المناقب وارزقني في أموري حسن العواقب، نجح مقاصدي والمطالب، يا إله المشارق والمغارب”.
الدعاء:
“رب الجوار الكنس السبع التي انبجست عن الكون انبجاس الأنهر
هن الفواعل عن مشيئته التي عمت فضائلها جميع الجوهر
أصبحت أرجو الخير منك وأمتري زُحلا ونفس عطارد والمشتري.
اللهم ألبسني حلل البهاء، وكرامات الأنبياء، وسعادة الأغنياء، وعلوم الحكماء، وخشوع الأتقياء.
اللهم أنقذني من عالم الشقاء والفناء، واجعلني من إخوان الصفاء، وأصحاب الوفاء، وسكان السماء مع الصديقين والشهداء”.
وفي الأثناء، يدرك الفارابي تمام الإدراك أنه لا يوجد خلاص من دون الحقيقة، ولذلك يسأل الله دائمًا أن يدله على طريق الحق وأن يأخذ بيده ليصل إلى الحقيقة:
“أنت الله الذي لا إله إلا أنت، علة الأشياء، ونور الأرض والسماء، امنحني فيضًا من العقل الفعّال، يا ذا الجلال والأفضال هذب نفسي بأنوار الحكمة، وأوزعني شكر ما أوليتني به من نعمة، أرني الحق حقًا وألهمني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً واحرمني اعتقاده واستماعه، هذب نفسي من طينة الهيولى (أي المادة)، إنك أنت العلة الأولى”.
“يا علة الأشياء جمعًا والذي ** كانت به عن فيضه المتفجّر
ربّ السموات الطباق ومركز ** في وسطهن من الثرى والأبحر
إني دعوتك مستجيرًا مذنبًا ** فاغفر خطيئة مذنب ومقصر
هذب بفيض منك رب كل من ** كدر الطبيعة والعناصر عنصري”
يتصف الإله عند الفارابي بالأزلية، وهو الرحمان الرحيم، والفارابي مجرد عبد له، وهو ضعيف ويحتاج الهداية الإلهية، والعصمة من الإغراءات، والرغبات البهائمية، وشهوات الحياة
“اللهم رب الأشخاص العلوية، والأجرام الفلكية، والأرواح السماوية، غلبت على عبدك الشهوة البشرية، وحب الشهوات والدنيا الدنية، فاجعل عصمتك مجني من التخليط، وتقواك وتعظيمك حصني من التفريط، إنك بكل شيء محيط.
اللهم أنقذني من أسر العناصر الأربع، وانقلني إلى جنابك الأوسع، وجوارك الأرفع.
اللهم اجعل الكفاية سببًا لقطع مذموم العلائق التي بيني وبين الأجسام الترابية، والهموم الكونية، واجعل الحكمة سببًا لاتحاد نفسي بالعوالم الإلهية، والأرواح السماوية.
اللهم روّح بروح القدس الشريفة نفسي، واثر بالحكمة البالغة عقلي وحسي، واجعل الملائكة بدلًا من عالم الطبيعة أُنسي، اللهم ألهمني الهدى، وثّبت إيماني بالتقوى، وبغّض إلى نفسي حب الدنيا.
اللهم قو ذاتي على قهر الشهوات الفانية، وألحق نفسي بمنازل النفوس الباقية، واجعلها من جملة الجواهر الشريفة العالية في جنات عالية”.
وعادة ما كان الفيلسوف يدعو الله بجماله الكامل وعظمته ومجده وبرحمته اللانهائية، أن يرحم الوجود وكل المخلوقات بما في ذلك البشر، كل المخلوقات تصلي لله، في المقابل، يعجز الناس عن فهم هذا الدعاء الكوني، لأنهم يحتاجون زاد معرفي لرؤية ما لا يقدرون على اكتشافه من الوهلة الأولى، إنه دعاء للعين والقلب:
سبحانك اللهم سابق الموجودات التي تنطق بألسنة الحال والمقال، إنك معطي كل شيء منها ما هو مستحقه بالحكمة، وجاعل الوجود لها بالقياس إلى عدمها نعمة ورحمة، فالذوات منها والأعراض مستحقة بآلائك، شاكرة فضائل نعمائك، *وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم* (الإسراء 44).
سبحانك اللهم وتعاليت، إنك الله الأحد الفرد الصمد الذي *لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد* (الإخلاص 3-4)”.
ولعل دعاء الفارابي في الجزء الأخير كان أكثر شدة، لأنه كان يتوسل الله من خلاله لتنقية روحه، وأن يكون حصنه من الخطأ وأن يهديه الصراط المستقيم، كان ابتهالاً بسيطًا وقويًا في الوقت نفسه:
“اللهم إنك قد سجنت نفسي في سجن من العناصر الأربعة، ووكلت بافتراسها سباعًا من الشهوات. اللهم جد لها بالعصمة، وتعطّف عليها بالرحمة التي هي بك أليق، وبالكرم الفائض الذي هو منك أجدر وأخلق، وامتن عليها بالتوبة العائدة بها إلى عالمها السماوي، وعجل لها بالأوبة إلى مقامها القدسي، واطلع على ظلمائها شمسًا من العقل الفعال، وامط عنها ظلمات الجهل والضلال، واجعل ما في قواها بالقوة كامنًا بالفعل، وأخرجها من ظلمات الجهل إلى نور الحكمة وضياء العقل، الله وليَّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور (البقرة 257)”.
ومهما كان ذكاء الشخص وموهبته، فهو يحتاج الهداية الإلهية لمقاومة إغراءات الجسد، فالأسباب وحدها لا تكفي، لأن الشخص يحتاج إلى عزيمة قوية للتحلي بالأخلاق الرفيعة، والروح النقية، هكذا أنهى الفارابي دعاءه السامي:
“اللهم أر نفسي صور الغيوب الصالحة في منامها، وبدلّها من الأضغاث برؤى الخيرات والبشرى الصادقة في أحلامها، وطهّرها من الأوساخ التي تأثرت بها عن محسوساتها وأوهامها، وأمط عنها كدر الطبيعة، وأنزلها في عالم النفوس المنزلة الرفيعة.
الله الذي هداني وكفاني وآواني.
والحمد لله وحده، وصلىَّ الله على من لا نبيّ بعده وسلم تسليمًا”.
آمين.