في نهايات القرن الثامن عشر، بدأ التجار الألمان المنافسة للسيطرة على التجارة في أفريقيا وقد انتقلت تلك المنافسة إلى كافة الدول الأوروبية، وبنى الألمان مستعمرات في المدن الأفريقية، وقد تسببت تلك المستعمرات بضرر مروّع لسكان القارة الأصليين.
أسّست الإمبراطورية الألمانية محميةً في غرب أفريقيا، مُنحت اسم “توغولاند” وكان ذلك عام 1884، وكانت مساحتها أكبر بقليل من مساحة إيرلندا، يقطنها نحو مليون نسمة في عام 1914، تخترق المنطقة سلسلة من الجبال يزيد ارتفاعها عن 901 متر، وتمتد من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي، ما يقيّد حركة المرور بين الساحل والمنطقة الداخلية.
أما جنوب سلسلة المرتفعات، فيشهد سطح الأرض ارتفاعًا عن السبخات الساحلية والبحيرات الشاطئية ليتحوّل إلى هضبةٍ محيطية مغطاة بالغابات والعشب العالي والأشجار الخفيضة، يتراوح ارتفاعها بين 61 إلى 91 متر، حيث أزال المزارعون الغابات لزراعة النخيل.
الكثير منا يعرف الجرائم الفرنسية في هذه المنطقة، إذ ارتكبت فرنسا الاستعمارية الكثير من الانتهاكات الحقوقية عبر تاريخها الاحتلالي لهذه المنطقة التي عاشت مشاهد العبودية والمجازر والتمييز العنصري، لكن القليل من يعرف بعضًا من انتهاكات ألمانيا هناك، خاصة وأن استعمارها للمنطقة لم يدم طويلًا.
قلة الحديث عن الاستعمار الألماني لهذه المنطقة وجرائمها في حق السكان الأصليين دفعنا لتخصيص مادة ضمن ملفنا “ألمانيا الاستعمارية” لهذا الأمر، إذ عمل الألمان على استغلال ثروات البلاد وحرمان الأهالي هناك من أبسط حقوقهم.
تأسيس توغولاند
يرتبط تأسيس توغولاند بأحد أبرز المستكشفين الذين عرفهم التاريخ القديم، ألا وهو غوستاف اختيغال الذي بدأ طبيبًا وانتهى مفوضًا للإمبراطورية الألمانية في غرب أفريقيا، ويسند له الألمان فضل استكشاف هذه المنطقة خلال حملته الاستكشافية إلى وسط وغرب إفريقيا وصولاً إلى التوغو والكاميرون.
بعد انعقاد مؤتمر برلين بين 1884 و1885 الذي قسّم القارة الأفريقية، هيمنت ألمانيا على أراضي توغولاند، بموجب الاتفاقيات المبرمة بين الدول الأوروبية الاستعمارية، وأطلق عليها في ذلك الوقت “المستعمرة النموذجية”.
غطت توغولاند مساحة 90479 كيلومترًا مربعًا بين مستعمرة جولد كوست البريطانية إلى الغرب وداهومي الفرنسية من الشرق، وكان يسكنها مزيج من الإيوي وشعوب أخرى، وأصبحت وحدة سياسية في عام 1884، عندما ادعى المستشار الألماني أوتو فون بسمارك أحقية ألمانية فيها واعترفت القوى الأوروبية الأخرى رسميًا بهذا الادعاء.
من القرن الحادي عشر إلى القرن السادس عشر، كانت المنطقة الساحلية مركزا تجاريا رئيسيا للأوروبيين للبحث عن العبيد، وكسب توغو والمنطقة المحيطة بها اسم “ساحل الرقيق”. في عام 1884، أعلنت ألمانيا توغولاند محمية. بعد الحرب العالمية الأولى، تم نقل حكم توغو إلى فرنسا. pic.twitter.com/XV4r08Zmoq
— king_baron (@fahadrg2) September 12, 2019
استُعمرت المنطقة خلال الفترة المعروفة باسم “التدافع من أجل إفريقيا”، وبقيت تابعة للإمبراطورية الألمانية في غرب إفريقيا من عام 1884 إلى عام 1914، وتشمل ما يُعرف الآن بدولة توغو ومعظم ما يُعرف بمنطقة فولتا في غانا.
أُسست المستعمرة فعليا في عام 1884 وجرى توسيعها تدريجيًا إلى الداخل، وكان ذلك على مراحل، إذ تم في البداية إنشاء محميتين منفصلتين، ففي فبراير من تلك السنة، اختطف جنود ألمان زعماء بلدة أنيهو – وهي بلدة تقع في جنوب شرق توغو حاليًا -وأجبروهم على التفاوض والتوقيع على معاهدة حماية على متن السفينة الحربية الألمانية صوفي.
إلى الغرب، أُعلنت محمية في منطقة لومي في معاهدة وقعت في يوليو 1885، بين غوستاف اختيغال -القوة الدافعة نحو إنشاء مستعمرات غرب إفريقيا- والزعيم المحلي ملابا الثالث على امتداد مساحة من الأراضي على طول ساحل العبيد على خليج بنين، ورُفع علم الإمبراطورية الألمانية لأول مرة في القارة الأفريقية.
فرض السيطرة الكاملة
على مدى الأشهر والسنوات التالية، أبرم اختيغال ونوابه “معاهدات” مع العديد من زعماء المجتمعات على مستوى القرى، ثم حددوا حدود المستعمرة الجديدة بين الشمال والجنوب، أولاً مع البريطانيين في سنة 1890، ثم مع الفرنسيين في سنة 1896.
بين عامي 1891 و1894، أنشأت القوات الاستعمارية المسماة “Schutztruppe” في المستعمرات الألمانية في شرق إفريقيا والكاميرون وجنوب غرب إفريقيا، وشكلوا فرعًا عسكريًا ثالثًا إلى جانب الجيش والبحرية وكانوا يتألفون من الألمان والأفارقة، كانت المهمة الرئيسية لهم هي غزو المستعمرات بالقوة.
بعد ذلك، تأسست قوة أخرى لفرض سيطرة الألمان على مستعمراتها ومنها توغولاند، وأسند لهذه القوة اسم Polizeitruppe واستخدمت لفرض السلطة الاستعمارية على المناطق النائية من توغو، وانتقلت العاصمة الاستعمارية الألمانية المؤقتة من أنيهو إلى مدينة لومي الاستعمارية المخطط لها.
نفذت هذه القوة وهي عبارة عن عناصر شرطة، عمليات عسكرية ضد عديد المناطق ومنها منطقة “كباندو”، وتعرض عدد من البلدات في وسط توغو التي قاومت الاستعمار الألماني للهجوم وسويت بالأرض، وصودرت ممتلكات السكان وجرى تغريم السكان بمبالغ مالية كبيرة، وبعد ستة عشر عامًا من توقيع المعاهدات مع القادة المحليين والتوسع في شمال البلاد، حدد الألمان حدود توغولاند بحلول عام 1900.
كانت الإدارة الاستعمارية في توغولاند استبدادية بدرجة كبيرة، وركزت بطريقة وحشية على الإنجاز الزراعي الموجه للتصدير
كان الألمان حريصون كثيرا على الحفاظ على موطئ قدم لهم في هذا الجزء من إفريقيا، إذ كانوا ينظرون إلى توغولاند على أنها نواة لامتلاك مناطق واسعة في القارة السمراء، في ظلّ استسلام القوى الاستعمارية الأخرى للأمر الواقع.
كما كانوا يأملون في أن يمتدّ نفوذ إمبراطورتهم عبر القارة الأفريقية من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، ومن البحر الأبيض المتوسط إلى الحدود الشمالية لاتحاد جنوب إفريقيا. باختصار، سيصبح الاتحاد الجزء الوحيد غير الألماني من إفريقيا، ولم تكن هذه الطموحات سرًا، إذ كانت رغبة ألمانيا في تأسيس هيمنة واسعة النطاق في إفريقيا مشروعًا وصل إلى مرحلة المناقشة العامة.
الهدف من ذلك، توفير المواد الخام للصناعة الألمانية بسعر رخيص، وتسهيل عملية السيطرة الاقتصادية على مستوى القارة الأوروبية والعالم ككل، ذلك أن ألمانيا عرفت في تلك الفترة التي أعقبت عملية توحيد أقاليمها، ثورة اقتصادية كبيرة.
التركيز على المجال الزراعي
لم يكن بسط السيطرة على المنطقة سهلًا على الألمان، ما دفعهم إلى القيام بعملية عسكرية وحشية واسعة النطاق، وقوبلت بمقاومة شرسة من المجتمعات المحلية التي لديها مصالح راسخة في البقاء خارج الكيان الاستعماري الجديد.
وسعت ألمانيا تدريجيًا سيطرتها السياسية والعسكرية على المنطقة وامتدت إلى مناطق واسعة في غرب القارة الأفريقية، لكن انعدام الموارد الطبيعية في المنطقة أدى إلى نفور عديد الألمان منها، ما جعل القيادة في برلين تفكّر في إيجاد طريقة أخرى لاستغلال المنطقة وجعلها نموذجية.
افتقار المنطقة إلى الموارد المعدنية (لم تكن احتياطياتها من الفوسفات معروفة في ذلك الوقت)، دفع المسؤولون الألمان إلى التركيز على التنمية الزراعية، وأعطى الرايخ الألماني الأولوية لاستغلال القطن، وجوز الهند، والبن، وزيت النخيل، والكاكاو، وأنتجت العمالة القسرية أرباحًا سريعة لشركات الإمبراطورية الخاصة.
قام الألمان بإيلاء اهتمام خاص بتوسيع زراعة القطن في مستعمراتهم الأفريقية وقد حصل المستوطنون على مساعدات مالية من الحكومة في برلين، ومساعدة علماء في مجال الزراعة، وأقيمت تجارب على أفضل طرق الزراعة.
كانت توغولاند، المجاورة لمستعمرة جولد كوست البريطانية، أول مكان جرى اختياره لعملياتها؛ هنا ارتفع تصدير القطن من لا شيء إلى 100 طن في عام 1904، وقدر محصول 1904-1905 بـ 250 طنًا من القطن المحلوج.
فضلا عن القطن، جلب المسؤولون عن المستعمرة الجديدة والمستوطنون القادمين من ألمانيا الزراعة العلمية لمحاصيل التصدير الرئيسية في توغولاند (الكاكاو والبن)، كما نمت أشجار النخيل النفيسة بشكل طبيعي بالقرب من الساحل.
تنوع التربة والمناخ مكّن السلطات الألمانية الاستعمارية من تنمية مجموعة واسعة من المنتجات، وتم زراعة مناطق واسعة من البلاد، وأصبحت بالتالي توغولاند تحت الحكم الألماني “مستعمرة نموذجية” لألمانيا في إفريقيا.
لتسهيل هذه التجارة، جرى تطوير البنية التحتية في البلاد، إذ بنى الألمان ثلاثة خطوط للسكك الحديدية: خط جوز الهند إلى أنيهو وكان ذلك سنة 1905، وخط القهوة والكاكاو إلى كباليمي في سنة 1907، وخط القطن إلى بليته في سنة 1911 (وسط البلاد)، وبحلول عام 1914، تم بناء أكثر من 1000 كيلومتر من الطرق من قبل المكتب الاستعماري وانتهت جميع المحطات في مدينة لومي.
طُوّرت مدينة لومي، الواقعة على خليج غينيا، لتكون المدينة والميناء الرئيسيين، وعبّدت الطرق والسكك الحديدية لربط الميناء بأجزاء من الداخل، كما جلبت البنية التحتية المصممة لتلبية الاحتياجات الألمانية في المستعمرة الجديدة.
استعباد السكان الأصليين
أدخل الألمان محاصيل تصديرية إضافية، خاصة الكاكاو والقطن، ليتم زراعتها في المزارع التي يعمل بها العمال الأفارقة، ويتم نقل جزء كبير من هذه المحاصيل عن طريق البر والسكك الحديدية إلى لومي، التي كانت بمثابة المركز الرئيسي للتجارة في توغولاند.
لضمان العمالة المحلية لهذه الزراعات والملكيات الجديدة الواسعة وعمليات النقل عبر الطرقات البرية والسكك الحديدية المنتشرة في كامل المستعمرة، خضع السكان الأصليون لضريبة رأس، مع استثناءات نادرة لبعض السكان.
كان على الألمان جمع الأموال، إذ كانت المستعمرات مثل الأعمال التجارية بالنسبة إليهم، فالحكومة في برلين لا تريد دفع أي مبلغ مالي مهما كانت قيمته لإدارة المستعمرات الأفريقية، وما على السكان إلا أن يدفعوا نفقاتهم بأنفسهم.
لعبت الحدود دورًا فعالًا في ترسيخ القوة الاستعمارية وجمع الأموال، فمع شروع الألمان في عملية ترسيم الحدود، أقاموا نقاطًا حدودية ورسومًا للسيطرة على حركة الأشخاص والبضائع، وفي عام 1897، فرضوا ضرائب على البضائع لزيادة الإيرادات.
بحلول عام 1906، كان الألمان يجمعون ما يكفي من عائدات الضرائب المحلية لدرجة أنهم أطلقوا على توغولاند “مستعمرة نموذجية”، على عكس مستعمراتها الأفريقية الأخرى، نظرًا للموارد المالية المتأتية من هذه المستعمرة الحديثة.
لم يكن لدى غالبية سكان البلاد الأصليين أي وسيلة للهروب من الاستعباد الألماني، إذ انتشر الفقر في البلاد ولم يكن أغلبهم قادرين على دفع الضرائب المفروضة عليهم، ما اضطرهم لبيع أنفسهم لجزء من العام لفائدة المستوطنين.
اعتبرت ألمانيا توغو “مستعمرة نموذجية” لأن السكان المحليين كانوا مصدرًا مربحًا للعمل القسري وعائدات الضرائب
تم نقلهم في مجموعات كبيرة من جزء من البلاد إلى آخر، وتم إجبارهم على العمل في بناء الطرق وغيرها من الأعمال في المزارع، وعان أغلبهم ظروف معيشية صعبة، ما تسبب في ارتفاع معدل الوفيات بينهم.
حتى من كانت لهم مزارع خاصة، لم يسلموا من الاستعباد الألماني، إذ كانوا مجبرين على بيع محاصيلهم الزراعية من قطن وكاكو وزيت نخيل إلى المستوطنين والتجار الألمان بأثمان بخسة لا تلبي احتياجاتهم اليومية.
لكن تظلمات السكان الأصليين في المستعمرة الألمانية، لم تكن اقتصادية فقط، فقد كانت هناك عقوبات بدينة ومالية أخرى مسلطة عليهم بدعوى انتهاك قانون ظل السكان الأصليون يجهلونه تمامًا، فهم يُعاقبون على أشياء لا يعرفونها.
وفيما يتعلق بالنساء من سكان البلاد الأصليين، كان هناك نفس الاستخفاف بالشرف والأخلاق، وباختصار، أصبحت منطقة توغولاند في غرب إفريقيا منطقة بؤس يسعى كل من يسكن هناك إلى الهرب منها عبر حدودها الكبيرة.
دفعت هذه الظروف الصعبة والأساليب القاسية التي اتبعها حاكم البلاد هير دبليو هورن والمسؤولين الآخرين، السكان الأصليين للهجرة إلى جولد كوست، ولتحسين العلاقة مع السكان، تم طرد هير هورن لسوء السلوك؛ وكان خليفته، الكونت فون زيك، وكان أكثر تصالحية مع السكان الأصليين وأعطى اهتمامًا كبيرًا لتطوير السكك الحديدية والتجارة.
الجرائم الفرنسية تتفوق على جرائم الألمان
نادى سكان البلاد الأصليين بإعفائهم من الظروف الاستغلالية والعقاب البدني والضرائب المرتفعة المقدمة إلى السلطات الألمانية، لكن مطالبهم لم تنفّذ وتواصل الاستغلال، وشمل النهب المستمر والعنف بدافع عنصري ضد الشعوب الأصلية.
كانت الإدارة الاستعمارية في توغولاند استبدادية بدرجة كبيرة، وركزت بطريقة وحشية على الإنجاز الزراعي الموجه للتصدير، رغم أن أعداد المستوطنين الألمان في البلاد لم يكن كبيرًا ولم يتجاوز 700 شخصًا في أحسن الأحوال.
اعتبرت ألمانيا توغو “مستعمرة نموذجية” لأن السكان المحليين كانوا مصدرًا مربحًا للعمل القسري وعائدات الضرائب، لكن الغريب في الأمر أن هناك انتقادات قليلة في الوقت الحاضر للاستعماريين الألمان السابقين في لومي.
تعد توغو الدولة الأفريقية الوحيدة التي استعمرتها ثلاث قوى أوروبية، وهي ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، من بين الثلاثة، فإن الجرائم الفرنسية هي الباقية في الأذهان، ما جعل العديد من سكان توغو الآن يجهلون جرائم الألمان في حقّ بلادهم وأهلهم.
سلبت ألمانيا الاستعمارية ثروات توغولاند وسرقت مدخراته لصالح اقتصادها وجيشها المركزي في برلين وانتهكت كرامة سكان البلاد الأصليين شمالًا جنوبًا، شرقًا وغربًا، إلا أنها لم تعرف بذلك، بل أنها تدّعي الفضل في تطوير البلاد.
رغم نظام العنف والهيمنة وآلة القمع التي اعتمدت في أفريقيا، مازال الألمان متمسكين بأسطورة الرسالة الحضارية لاستعمارهم، ومع ذلك أثبت التاريخ أن الألمان في الحقبة الاستعمارية قدّموا مثالًا وحشيًا للنازيين ليتبعوه.