ترجمة وتحرير: نون بوست
كانت الشقيقتان في طريقهما إلى المنزل عندما رصدتا كرة معدنية بحجم كرة المضرب، ولم يكن لديهما فكرة عما كانت تلك الكرة، لكنهما اعتقدتا أن بائعي الخردة الذين يزورون منطقتهم في شمال غرب سوريا قد يدفعون مقابلها نحو 30 سنتًا.
كانت قنبلة عنقودية حية. قالت إحدى الأختين واسمها دعاء وتبلغ من العمر عشر سنوات: “كانت رمادية”، وهي تمد أصابع يدها اليسرى بأقصى ما تستطيع. تتذكر كيف قامت أختها روعة، البالغة من العمر 11 سنة، بتسليمها القنبلة بينما كانت تحمل شقيقهما متعب البالغ من العمر سبعة أشهر على وركها، وبعد ثانية؛ انفجرت في يد دعاء اليمنى مما أدى إلى فقدانها يدها، وفقدت روعة عينها اليسرى، ولا تزال وجنتا متعب تحمل آثار الانفجار.
أسفر النزاع في سوريا – الذي استمر لمدة 12 سنة، ووصل إلى طريق مسدود في الوقت الحالي – عن مقتل أكثر من 500 ألف شخص، في حين أُجبر الملايين الآخرين على الفرار من منازلهم. ومثلما هو الحال في النزاعات الحديثة الأخرى، ترك وراءه إرثًا قاتلًا من القذائف غير المنفجرة، والألغام، والذخائر الأخرى في الأراضي الزراعية، وعلى جوانب الطرق، وفي المباني، مما يشكل تهديدًا عشوائيًا للحياة بعد انتهاء المعارك.
لكن القنابل العنقودية، والأسلحة المحظورة على نطاق واسع التي تنفجر في الهواء وتنثر العديد من القنابل الصغيرة على مساحة واسعة، تعد خطيرة بشكل خاص؛ حيث تحتوي هذه القنابل الصغيرة على معدل إخفاق مرتفع تشكل وفق ما وصفته الشبكة السورية لحقوق الإنسان بأنها “تهديد لا نهاية له لحياة الأجيال المقبلة في سوريا”.
في الشهر الماضي؛ واجهت إدارة بايدن انتقادات دولية عندما أعلنت أنها سترسل قنابل عنقودية إلى أوكرانيا لمواجهة الهجمات الروسية.
كان دعم روسيا العسكري للرئيس السوري الدكتاتور، بشار الأسد، حاسمًا في مساعدته على الحفاظ على السلطة، واعتمد نظامه على الغارات الجوية المكثفة والعشوائية لاستعادة الأراضي. وقد أدانت الولايات المتحدة استخدام روسيا لقنابل العنقودية والأسلحة العشوائية الأخرى في سوريا، ووصفته بأنه غير مسؤول.
وحسب شبكة حقوق الإنسان السورية، أودت قنابل العنقودية بحياة نحو 1,500 شخص في سوريا، بما في ذلك 518 طفلًا، منذ سنة 2011. أما الألغام الأرضية فقد أسفرت عن مقتل 3,353 مدنيًا آخرين، بما في ذلك 889 طفلًا.
فاقم الزلزال المدمر الذي ضرب شمال غرب سوريا في شباط/فبراير الماضي من حجم الخطر المحدق بالسوريين؛ حيث ضرب الزلزال منطقة كانت بالفعل تعاني من أزمة إنسانية، وتضم حوالي 4.2 ملايين شخص، معظمهم نزحوا من مناطق أخرى في البلاد بسبب الحرب، وكان العديد منهم يعيشون بالفعل في مخيمات أو المنازل التي بنيت على عجل.
ووفقًا للأمم المتحدة، قُتل في الزلزال الآلاف في سوريا ودُمّر حوالي 10 آلاف مبنى، مما أدى إلى تشريد حوالي 265 ألف شخص، وقد بحث الكثيرون عن مأوى في الحقول المفتوحة أو على جانب الطرق، بعيدًا عن المباني المتداعية.
في هذا السياق؛ قال محمد سامي المحمد، خبير المتفجرات الذي يعمل مع منظمة الخوذ البيضاء، منظمة الدفاع المدني السورية، متحدثًا عن التهديد من الذخائر غير المنفجرة “مع كل موجة جديدة من النزوح، يصبح هذا الخطر أكبر”.
بعد أيام من انتشال الناجين والجثث من المباني التي تضررت بسبب الزلزال، بدأت منظمة الخوذ البيضاء في إزالة الأنقاض وفحص الأراضي التي فروا إليها الناس الذين أصبحوا بلا مأوى، في بعض الأحيان باستخدام أجهزة الكشف عن المعادن.
منذ سنوات؛ يبذل عمال الدفاع المدني في أجزاء من سوريا مثل الشمال الغربي، التي تخضع تحت سيطرة المجموعات المعارضة لنظام الأسد، جهودًا حثيثة لإزالة الذخائر غير المنفجرة؛ حيث تنتشر الألغام الأرضية في البلاد، لا سيما في المناطق التي كانت تخضع لسيطرة الحكومة، لكن ليس لدى الخوذ البيضاء المعدات التقنية اللازمة لإزالة تلك الألغام.
وتجدر الإشارة إلى أن منظمة “هالو ترست” لنزع الألغام للأغراض الإنسانية ستستأنف هذه المهمة هذا الشهر في حقول الألغام في شمال غرب سوريا. علاوة على ذلك؛ أشرفت وكالة أخرى، وهي دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام، على تطهير حوالي 500 فدان من الأراضي الزراعية في سوريا، مدمرةً أكثر من 500 عبوة متفجرة.
في شمال غرب البلاد؛ لا توجد منطقة آمنة تمامًا لأن الطائرات الحربية السورية والروسية ما زالت تنفذ غارات جوية، وقد تتعرض المنطقة التي تم تطهيرها مسبقًا للقصف والتلوث مرة أخرى غدًا.
وتملك دعاء، الفتاة الصغيرة التي فقدت يدها اليمنى، ندبة عميقة تمتد على طول ساقها، كما حاولت ارتداء يد صناعية، لكنها كانت ثقيلة عليها.
وكانت روعة، شقيقتها، ترتدي عينًا زجاجية تجعل إصابتها غير ملحوظة تقريبًا، لكنها حساسة للغاية تجاه الأمر حتى أنها أجبرتها عن التوقف عن الذهاب إلى المدرسة. وبسبب ذلك؛ تحاول أحيانًا الاختباء عندما يزورهم غرباء، مغطية وجهها بستار.
في الشأن ذاته، قالت والدتهما، وفاء الحسن، إن اللحظة التي أصيب فيها أطفالها “ستبقى محفورة في ذاكرتها”، وأضافت قائلة: “أراها دائمًا في كوابيسي”، وعند قول ذلك سألتها دعاء: “ماذا ترين؟”؛ فأجابتها والدتها “إصابتكم يا بنيتي”.
لقد تركت الحرب أيضًا ندوبًا على العائلة، التي تعيش في مخيم للاجئين الذين نزحوا بسبب الحرب إلى ضواحي مدينة إدلب في شمال غرب سوريا.
فقبل أقل من سنة، قُتل زوج السيدة الحسن خلال حادثة مأساوية مشابهة عندما قدم له أحد أبنائهم عبوة غير منفجرة، التي انفجرت بشكل مفاجئ وأسفرت عن مقتله.
وعلى الرغم من المخاطر، ما زال العديد من الذين يعيشون في شمال غرب سوريا، في ظل الفقر المُدقع والبطالة المرتفعة، يبحثون عن الخردة للبيع، حتى لو كانت القنابل والقذائف. فبالنسبة لبعضهم، يعد هذا مصدر دخلهم الوحيد.
وتجري الخوذ البيضاء مئات الدورات التدريبية لتوعية الناس حول الذخائر غير المنفجرة، التي ساهمت في تقليل حجم الخسائر في السنوات الأخيرة، حسب تقديرات السكان.
في سنة 2015؛ لم تكن نور الحموري قد سمعت عن قنابل العنقودية. كان عمرها 14 سنة، وتتذكر عندما كانت عائدة من المدرسة في ضاحية دمشق من غوطة دمشق الشرقية، التي كانت تخضع لسيطرة المتمردين المعارضين للأسد وحصار قوات الحكومة قائلة: “عندما سمعت صوت صاروخ، احتميت خلف جدار. بعد ثوانٍ، سمعت انفجارًا وظننت أن الخطر قد زال”.
وأضافت قائلة الحموري، التي تبلغ الآن من العمر 21 سنة: “عندما واصلتُ طريقي، سمعت انفجارًا ثانيًا”، وكان ذلك لإحدى القنابل العنقودية التي هبطت على بعد أمتار قليلة أمامها وانفجرت.
أضر الإنفجار بساقها اليمنى التي تمزقت أشلاء. وقد رآها سائق في شاحنة مارة وهي تنزف وأسرع بها إلى مستشفى ميداني قريب حيث تمكن الأطباء من إنقاذ ساقها من التلف الكامل، حسب ما أكدته الحموري.
وقالت الحموري: “إن القنابل العنقودية تستهدف الأرجل ذلك أنها تنفجر على الأرض و هو الأمر الذي أدى إلى فقدان الكثير من السوريين أرجلهم”.
لا تزال نور الحموري عاجزة عن الوقوف على ساقها المتضررة وسافرت إلى تركيا المجاورة لإجراء عملية جراحية على أمل أن تتمكن يومًا من المشي مرة أخرى.
في أحد الأيام؛ عندما كانت الشمس على وشك الغروب في قرية ترمانين، كان عبد القادر البيروتي يسير في أرجاء أرضه عندما لاحظ كرة معدنية، كادت تكون متخفية، وقد أدرك فورًا ما كانت تلك.
في السياق ذاته، أوضح السيد البيروتي، 53 عامًا، الذي كان يشغل منصب عمدة القرية: “لقد تعرضنا لهذه القنابل العنقودية كثيرًا، حتى الأطفال الصغار الآن يعرفون الفرق بين القنابل العنقودية وغيرها من المتفجرات”. وأضاف قائلا: “كلما قمنا بنزهة في الحقول أو عملنا في الأرض، كان علينا أن نكون حذرين”.
كانت القنبلة العنقودية مخفية على الأرجح لسنوات في بستان من الزيتون والتين حيث يمشي السيد البيروتي وعائلته ورعاة الغنم وقطعانهم يوميًا.
في اليوم التالي، لاكتشافه للقنبلة، وصل فريق الدفاع المدني مع علامات خطر حمراء لتمييز المنطقة، كانوا يرتدون سترات واقية، خوذ مع أغطية وجه وقفازات لإزالتها.
ولكن قبل أن يتمكنوا من البدء، ألقى حسن عرفات، ضابط العمليات، رأسه نحو السماء. كان قد سمع شيئًا – صوت طائرة دون طيار للمراقبة، ربما روسية. وبينما كان يستمع، ارتفع صوت الضوضاء أكثر. لذلك أمر الجميع بتعبئة أمتعتهم ومغادرة المكان بسرعة: سيتعين عليهم الانتظار ليوم آخر لتطهير المنطقة.
فجأة، أصبح الخطر ليس تحت أقدامهم فحسب ولكن فوق رؤوسهم في السماء.
المصدر: نيويورك تايمز