يحاول هذا المقال الموجز أن يُلقي نظرة موضوعية تجميعيّة، تلملمُ الخطوط العريضة المتشكّلة من خلال أزمة ما يعرف بتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، واقتتاله مع فصائل الثورة السورية المختلفة.
وسوف نستعين بأداة التسلسل الزمني للأحداث كوسيلة مهمّة في محاولة فهم الأحداث الحالية، ولكي نعرف في مصلحة أي الجهات تصبّ، دون الدخول في التفصيلات اليومية التي يغرق بها عالم الشبكة الافتراضي، من منشورات وتغريدات ومقاطع فيديو، بحيث أصبح من الصعب وسط كلّ هذه الأخبار اليومية الكثيفة والمتضاربة الخروج برؤية واضحة أو شبه واضحة للأحداث. وسوف تهتم القراءة بالموقف الدولي من الثورة السورية وإجراءاته الحالية متمثّلة بمؤتمر جنيف2، والذي يُفترض انعقاده قريبًا.
بدايةً، نودّ أن نشير إلى نقطة مهمّة قد تجلي الصورة بإزاء منشأ الصراع بين الفصائل، فنحن حين نقول “اقتتال بين فصائل” فهناك غالبا طرفان متضادّان، ولكلّ منهما دورٌ في استمرار الصراع. ولكن حين نتطرّق إلى الأزمة الحالية؛ وهي الاقتتال بين معظم فصائل الثورة السورية (والإسلامية منها بشكل أساسي) من جهة، وتنظيم “الدولة” من جهة أخرى، سنجد أنّنا لسنا أمام اقتتال بين فصيلين من الثورة، وإنما بين معظم فصائل الثورة السورية من جهة، وتنظيم له أجندة أخرى – سوف نتطرّق لها فيما بعد – من جهة أخرى. هذه نقطة، والنقطة الأخرى: أنّ منشأ الأزمة الأساسي هو وجود تنظيم “الدولة” في الأراضي السورية المحرّرة من قبل الفصائل، ولا يشكّ عاقل أنّه لولا وجوده لَما حدث اقتتال في هذه الأثناء على الأقلّ؛ إذ لم يكن بين الفصائل المختلفة ابتداءً من الجيش الحر وصولا إلى جبهة النصرة (من أقصى اليمين لأقصى اليسار) أيّ اقتتال على هذا النحو الذي يحدث بين الدولة وسائر الفصائل والذي دخل فيه المفخّخات وتفجير المقرات.
ولا بدّ لنا الآن من تتبّع الخطّ الزمني للأحداث مع إلقاء الضوء بشكل موجز على أبرز الحقائق التي أمامنا، والتي تمكّننا من الخروج بنتيجة أقرب ما تكون للقراءة الموضوعية:
– في تاريخ 9.4.2013 أعلن أبو بكر البغدادي – أمير تنظيم الدولة – عمّا سمّاه “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وتضمّن الإعلان ضمّ “جبهة النصرة” إلى تلك الدولة، وهو الأمر الذي رفضته النصرة فورا، ورفضته قيادة تنظيم القاعدة متمثّلة بالدكتور الظواهري.
– يعتبر تنظيم “الدولة” نفسه دولة إسلامية شرعية لها حقّ السمع والطاعة على جميع المسلمين الواقعين تحت مناطق نفوذها، وقد تبنّى التنظيم في هذا الصدد كتابا اسمه “إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام”، وتابعه في ذلك أبرز منظريه كالأثري والشنقيطي وغيرهم.
والخلاصة أن التنظيم يعتبر نفسه “جهة سياديّة”، لها الحقّ في السيطرة على المناطق التي تتاخمها بالقوّة، دون النظر إلى الجهة التي تسيطر على تلك المناطق من قبل، فهو أمر ليس له أيّ اعتبار.
– يمكننا أن نجزم غير متلكّئين بأنّ تنظيم “الدولة” كأهداف لا ينتمي لأهداف الثورة السورية المتمثّلة بشكل أساسي في التخلّص من نظام بشّار الأسد وسيطرته على القطر السوري، وإقامة دولة مستقلّة عادلة تحقّق إرادة الشعب السوري وترفع الظلم والبطش عنه. بينما تتمحور أهداف التنظيم وممارساته في توسيع رقعة سيطرته على أكبر قدر من الأراضي؛ ليتّسع نفوذه ويحاول فرض نفسه باعتباره “الدولة الإسلامية” التي جاءت لتنقذ الأمة من الجاهلية وتقيم دين الله في الأرض. وليس هناك أيّ اعتبار لدى التنظيم لأيّ مشروع سياسي آخر، فكل مشروع سياسي آخر يقع ضمن نقاط نفوذه وامتداده فهو بالضرورة عدوّ ومناوئ يجب القضاء عليه، بما في ذلك مشروع “الثورة السورية” بخطوطه العريضة التي ذكرناها. فالتنظيم لا يرى أيّة إشكالية في أن تكون له دولة نصفها في العراق ونصفها في الشام، وهذا يعني بالضرورة أنّه سوف يتصادم مع أي دولة سوف تقوم على الأراضي السورية فيما لو تمّ إسقاط نظام الأسد.
– قام التنظيم فعليّا بالعمل على ذلك من خلال السيطرة على مناطق كانت كتائب الثورة السورية (الإسلامية وغيرها) قد حرّرتها سابقا من أيدي النظام السوري، كمدينة الرقّة وبلدة الدانا وجرابلس والباب وغيرها من البلدات، وقد اكتسب بعض النفوذ من خلال محاربته لبعض العصابات المسلّحة التي كانت تستغلّ حالة الفوضى في بعض المناطق المحرّرة. وكان واضحا أنّ التنظيم يقيم مؤسّساته الإدارية والقضائية والعسكرية داخل تلك البلدات، ويُعلن عن نفسه جهة سياديّة. وهو الأمر الذي أثار حفيظة السكّان المحليّين بالإضافة إلى قوى الثورة العسكرية والتي كانت في معظمها مشغولة بالجبهات القتالية مع نظام الأسد. وقد اشتدّ الأمر حين بدأ التنظيم بإقامة السجون والمعتقلات التي امتلأت بنشطاء الثورة وعلى وجه الخصوص الإعلاميين.
– بالإضافة إلى السيطرة بالقوة على بعض المناطق المحرّرة فقد حاول تنظيم “الدولة” السيطرة على المعابر الحدودية، ومن ذلك على سبيل المثال محاولة السيطرة على معبر “باب الهوى” الواقع على الحدود التركية السورية. وهو ما أنذر بخنق الثورة حيث لا يعتبر التنظيم – كما أسلفنا – جهة داعمة لأهداف الثورة، بل هو مشروع آخر له أهدافه وطموحاته التي تتصادم إلى حدّ كبير مع أهداف وطموحات الثورة السورية.
– خلال أشهر طويلة منذ نشأة التنظيم لم يكن هناك ردّ فعل عملي على مستوى الكتائب الكبرى للثورة لردع ممارسات تنظيم “الدولة” وإيقافه عند حدّه، فيما عدا تصريح جبهة النصرة برفض قرار إقامة الدولة الإسلامية في العراق والشام، وكذلك بيان أحرار الشام برفضها لذلك بل ورفضها إقحام أي مشروع خارجي آخر يضرّ بالثورة السورية. وقد اعتبر الكثير من الثوار هذه “اللامبالاة” والصبر على انتهاكات التنظيم في الأراضي المحرّرة تقصيرًا من قبل قوى الثورة وعلى وجه الخصوص القوى الإسلامية. بينما اعتبر آخرون أنّه صبر محمودٌ وحكيم لتلك القيادات، باعتبار أنّها لا تريد إضاعة بوصلة الثورة – وهي قتال نظام بشار الأسد وإسقاطه – لتنشغل في جبهات إضافية يجرّها تنظيم “الدولة” إليها.
– في ظلّ تلك الأجواء كانت أخبار مؤتمر جنيف2 تطلّ من حين لآخر، والذي يتركّز في الحوار مع النظام من أجل إيجاد تسوية سياسية بين النظام من جهة، ومن يرون بأنّهم ممثّلو الثورة من جهة أخرى، وأعني بهم “الائتلاف الوطني السوري” الذي يخوض المفاوضات السياسية في الغرب لإيجاد حلّ للثورة السورية. وحتى تلك اللحظة لم يكن هناك أي تمثيل سياسي آخر للثورة، فقد كان “الائتلاف الوطني السوري” هو الواجهة السياسية الأبرز وربّما الوحيدة التي تتحدث أمام العالم باسم الثورة السورية أو “المعارضة السورية”، بينما
كانت القوى الأخرى – وفي مقدّمتها القوى الإسلامية – منشغلة في المواجهة العسكرية مع النظام في الأراضي السورية. مع الإشارة إلى أنّ “الائتلاف الوطني السوري” لم يكن في رأي الكثيرين يمثّل قوى الثورة الحقيقية في أرض المعركة والنضال ضدّ نظام الأسد.
– في تاريخ 22.11.2013 أثمرت مفاوضات طويلة قادها أبرز رموز الفصائل الإسلامية المنخرطة في الثورة السورية، مثل عبد القادر الصالح وعبد العزيز سلامة وحسان عبّود وأبو عيسى الشيخ وغيرهم، أثمرت هذه المفاوضات عن إعلان جبهة عسكرية سياسية موحّدة سمّيت “الجبهة الإسلامية”، وقد ضمّت أكبر الفصائل الإسلامية المقاتلة، بحيث غدت القوة رقم 1 من بين القوى المقاتلة لنظام بشّار الأسد، من حيث التمثيل العددي والجغرافي، ومن حيث القوّة العسكرية.
– من أبرز ما ميّز هذه الجبهة هو الولوج إلى الساحة السياسية من خلال تأسيس هيئة سياسية تابعة لها، وطرحها خطوطًا عريضة لمشروع سياسي في سوريا ما بعد الأسد، وهو الأمر الذي يعني بالضرورة وجود صوت سياسي جديد ينافس بقوّة التمثيل السياسي الذي كان الائتلاف الوطني السوري يحتكره إلى حدّ ما، مما اعتبره بعضهم سحبا للبساط السياسي من تحت أقدام الائتلاف.
– في وقت لاحق أعلنت “الجبهة الإسلامية” رفضها للمشاركة في مؤتمر جنيف2، والذي يمثّل الأجندة الأمريكية والغربية عموما للثورة السورية، بل وصرّح رئيس مكتبها السياسي الأستاذ حسّان عبّود بأنّ الائتلاف لا يمثّل الثورة السورية والشعب السوري. حينئذ لم يعد هناك مجال للشكّ بأنّ “الجبهة الإسلامية” ترفض بشكل علني السير في ركاب الأجندة الأمريكية والغربية للثورة السورية.
– أعقب ذلك موجة من الشائعات كان أبرزها إشاعة لقاء “الجبهة الإسلامية” مع ممثّلين أمريكيين، وهو الأمر الذي نفته الجبهة من خلال رئيس مكتبها السياسي الأستاذ حسّان عبّود في مداخلة على الجزيرة وأزاحت الالتباس بشأنه، وقد صرّح في نفس المداخلة برفض الجبهة الحاسم للمشاركة في مؤتمر جنيف2. ومن تلك الشائعات كذلك وصف الجبهة من قبل المعرّفات الإلكترونية المناصرة لتنظيم “الدولة” بالصحوات، تشبيها إيّاها بصحوات العراق التي كانت تقاتل التنظيم في العراق إبّان الاحتلال الأمريكي، والهدف هو تشويه الجبهة، رغم أنها حتى تلك اللحظة لم تكن قد قامت بأيّ عملية عسكرية ضد التنظيم، رغم قيامه هو بعدّة عمليات وانتهاكات موجّهة ضدّ فصائل الثورة والجبهة وأبرزها أحرار الشام. تلا ذلك تصريحات أمريكية اعتبرها البعض “مغازلة” للجبهة وهي تفيد وجود رغبة لدى الأمريكيين بالتقارب مع الجبهة، وهو الأمر الذي قوبل بالجفاء والرفض من قبل الجبهة، ثم أعقبته تصريحات أمريكية تشير إلى التعجّب من رفض الجبهة للتقارب. فأضيف ذلك إلى سلسلة الموجات الإعلامية التي تصبّ جميعها في تشويه “الجبهة الإسلامية”.
– بدأت أحداث الاقتتال بين تنظيم “الدولة” من جهة، وتشكيل جديد يسمى “جيش المجاهدين” وتشكيلات أخرى بما فيها فصائل من “الجبهة الإسلامية” من جهة أخرى. وذلك في مطلع العام الحالي 2014، بعد أن زادت حدّة انتهاكات تنظيم “الدولة”، وكانت القشّة التي قسمت ظهر البعير هي محاولة تنظيم “الدولة” اقتحام بلدة “الأتارب” وطرد فصائل المعارضة منها، وكذلك قتل القيادي في “حركة أحرار الشام الإسلامية” حسين سليمان بشكل بشع أثار حفيظة الثوّار، بالإضافة إلى انتهاكات أخرى متمثّلة بخطف بعض القادة والناشطين سواء من جبهة النصرة أو الجيش الحرّ أو غيرهما. واشتعلت العمليات القتالية بين تنظيم “الدولة” وفصائل الثورة المختلفة والتي راح ضحيّتها مئات القتلى حتّى الآن.
وأخيرا نتساءل: من الرابح من كلّ ذلك؟ وفي مصلحة من تصبّ هذه الأزمة؟ هل في مصلحة الثورة السورية وأهدافها أم في مصلحة النظام الأسدي والأجندة الغربية والشرقية لمصير الثورة؟