منذ عقد ونصف يبحث الفلسطيني المحاصَر في غزة عن البهجة والفرح في بقعة صغيرة لم تتجاوز مساحتها الـ 365 كيلومترًا، دون أن ينسى نقل معاناته إلى العالم بأساليب وفنون جديدة، فاتّخذ من صناعة السينما التي كانت مندثرة لعقود طويلة مدخلًا إلى العالم، ليحكي عن معاناة مليونَي مواطن يحلم بالحرية.
في السنوات الأخيرة جعل له مكانة في عالم السينما وحصد الجوائز الدولية، فهو أبدع في نقل تفاصيل معاناته اليومية تحت الحصار، ولم يكتفِ بصناعة الأفلام وعرضها خارج القطاع، بل بزغت مؤخرًا عدة مبادرات فنية لعرض الأفلام التي ينتجها الشباب، لكن في أماكن مختلفة كاستئجار قاعات بسيطة، وآخرها كان على شاطئ البحر حيث المصطافين الذين يقضون ساعات طويلة بعيدًا عن بيوتهم بفعل انقطاع التيار الكهربائي.
تردد كثيرًا اسم مبادرة “سينما البحر”، التي أطلقتها مجموعة من الشباب تسعى لتقديم عروض سينمائية على شاطئ بحر غزة تستهدف الصغار.
بمجرد أن تأتي الساعة الثامنة مساء من يومَي الاثنين والخميس، يتبدل حال المصطافين على شاطئ بحر غزة، وتحديدًا في منطقة الشيخ عجلين، حيث يهرع الصغار بصحبة ذويهم إلى شاشة كبيرة تعرض أفلام الرسوم المتحركة، تحمل الطابع الكوميدي والقيم الوطنية والأخلاقية.
يقف الصغار بانتظار “عمو” -صاحب المبادرة علي مهنا- حتى يفرغ من تجهيز شاشة العرض، وتهيئة المكان حيث المقاعد المُعاد تدويرها من عجلات السيارات، وبمجرد بدء العرض يسود الصمت ويسرح الصغار في الشاشة الكبيرة يغوصون في الفيلم المعروض، يضحكون مرة وأخرى يشدهم مشهد تعذيب بطل الفيلم، خاصة لو كان يتحدث عن قائد وطني فلسطيني يتعرض للتعذيب على يد قوات الاحتلال.
يذكر أن السينما بدأت في الظهور في القطاع منذ بداية أربعينيات القرن الماضي، مواكبة للنشاط الثقافي والفني الذي نشط آنذاك، بالإضافة إلى أن القطاع كان يضمّ عددًا من دور السينما تتراوح بين 5 و10 دور وفق مسؤولين ومخرجين فلسطينيين، فيما بدأت أعدادها بالتراجع مع بداية الانتفاضة.
محاولات فنية لإنعاش السينما الغزّية
على شاطئ البحر ينظر الفتى عثمان مسلم (13 عامًا) إلى شاشة العرض بتركيز شديد، كان الفيلم الذي تعرضه مبادرة “سينما البحر” هو “الهروب”، يحكي عن الأسرى وكيف يحلمون بالحرية ويفكرون في كسر قيدهم.
جلس الفتى برفقة أقرانه مشدودي الانتباه لكل حركة يفعلها البطل، يتأثرون حين يعرقل السجان مخططاتهم، ويهتفون عند أي محاولة للهرب، وبعد ساعة ونصف من انتهاء العرض يقول: “حين علمت بموعد عرض الأفلام من أصدقائي وما نُشر عبر فيسبوك من صور وفيديوهات، صمّمت على المجيء برفقة عائلتي، وبقيت أنتظر العرض ساعات طويلة”.
يخبر “نون بوست” أنه تمنى لو كان في غزة سينما مثل التي يشاهدها عبر التلفاز، فهو يحلم بتوفير مكان دائم لعرض الأفلام الوطنية، وكذلك أفلام الرسوم المتحركة التي يفضّلها.
أما السيدة سهى أبو الكاس أتت بصحبة أولادها بعدما سمعت عن المبادرة، وعلقت: “ما يعرض فيه الكثير من البهجة، حيث أفلام الرسوم المتحركة التي فيها مزيج بين الكوميديا والتشجيع على القيم الأخلاقية كالصدق”، مضيفة: “هذه المرة الثانية التي أحضر برفقة صغاري الذين بحاجة إلى الأفلام الثقافية والتاريخية التي تحكي عن بلادهم”.
وجحت مبادرة “سينما البحر” في لفت الأنظار إلى أهمية صناعة الأفلام، خاصة مع وجود إنتاج سينمائي محلي يقدم عشرات الأفلام الوثائقية للجمهور الفلسطيني والعربي.
يصف الكاتب الغزّي محمود جودة المبادرة حين حضرها برفقة صغاره: “محاولات من أجل الحياة.. سينما على البحر، الأطفال كانوا مركزين أكثر بفكرة وجود الشاشة والصوت العالي، حاولنا نشرح معنى السينما (..) وتبقى محاولات إنعاش ما يمكن إنعاشه”.
في حين تراقب الإعلامية والفنانة وسام ياسين زميلها علي وهو ينصب شاشته ويجهّز المكان لاستقبال ضيوفه، تقول: “أكثر ما يحزنني في غزة هو عدم وجود دور السينما، خاصة أن لدينا صنّاع أفلام مميزين ويمتلكون تقنيات عالية، هذا عدا عن الكوادر الفنية التي لم تتوانَ لحظة عن التعلم”.
تضيف لـ”نون بوست”: “لدينا مشكلة في تصريف الأفلام، فهي بعد عرضها في قاعات مغلقة وللمختصين تبقى حبيسة المكتبات الفنية، ما يحبط صنّاعها”، مشيرة إلى أنه في السنوات الأخيرة بدأ يظهر في قطاع غزة مهرجانات فنية تؤسّس لجمهور يفهم ثقافة السينما.
وتوضّح ياسين أن هناك العشرات من الأفلام الفلسطينية التي حصدت جوائز دولية وعالمية، ووقت عرضها تشعر أن الجمهور سعيد جدًّا بمشاهدتها، ورغم أن صانع الفيلم محاصر إلا أنه يسافر عبر السينما بعمله الفني.
وتحكي أن ما يميز مبادرة “سينما البحر” هو العفوية والتلقائية في استقبال الجمهور لما يعرض له، خاصة أن جميع الأفلام التي أُنتجت من قطاع غزة تعتبر نخبوية يحضرها صنّاع الأفلام والنقّاد، بينما الجمهور العادي وأهل المخيم يحرَمون من رفاهية السينما.
وأوضحت ياسين أن “سينما البحر” متعددة الأهداف، فهي تنشر ثقافة السينما وتتيح الفرصة لعامة الناس مجانًا وانتقاء نوعية الأفلام التي يريدون مشاهدتها، لافتة إلى أن المبادرة تعتبر فرصة أيضًا لصنّاع الأفلام لعرض أفلامهم على الجمهور.
وبغصة تقول: “شاركت في العديد من الأفلام الوثائقية التي تنقل معاناة الغزيين، وتم عرضها في مهرجانات عربية ودولية وحصدت الكثير من الجوائز، لكنها بعد ذلك اختفت (..) أتمنى أن أعيد مشاهدتها مرة أخرى”.
وتضيف: “لا بدَّ من قرار حكومي جادّ لترميم وفتح دور السينما، لا سيما أن أهل غزة يحبون الحياة ويتعطشون لكل شيء يضيف البهجة إلى أيامهم”.
“سينما البحر” تخلق أجواءً من الفرح
عند الساعة الرابعة مساء، وصل صاحب المبادرة علي مهنا إلى شاطئ البحر يحمل عدّته البسيطة من جهاز العرض وسماعات خارجية، وبدأ يجهّز المكان لاستقبال الأطفال الذين لم ينتظروا موعد العرض، بل جاءوا ليحضروا كل التفاصيل وسط حالة من الانبهار.
تحدث صاحب المبادرة السينمائي مهنا إلى “نون بوست” عن فكرته “البحر إلنا”، فهو يعمل عليها منذ 3 سنوات ضمن الصندوق الثقافي التابع لوزارة الثقافة الفلسطينية مع مجموعة فنانين لإحياء الفن في قطاع غزة، وهذا العام كان هدفهم المصطافين لتفعيل فكرة “نادي السينما”، بالشراكة مع بلدية غزة لتخرج مبادرة جديدة هي “سينما البحر”.
يقول مهنا: “الهدف من مبادرة سينما البحر تسليط الضوء على صنّاع السينما في فلسطين، خاصة أن كثيرًا منهم حصلوا على جوائز دولية لكن لا يتوفر في القطاع دور للسينما من أجل عرضها، لذا جاءت فكرتي في محاولة لإظهار الأعمال الفلسطينية وتحديدًا الغزية”، وتابع: “أعمل والفريق على توفير سينما مفتوحة لمن حُرم من دور عرض السينما منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987”.
وأشار مهنا إلى أن مبادرته كانت مخصصة لـ 15 عرضًا، لكن بعدما وجد الإقبال الكبير ومطالبة الجمهور بالمزيد من العروض، واصل جولة ثانية تستهدف العائلات على شاطئ البحر، مبيّنًا أن طبيعة الأفلام المعروضة تصلح للمشاهدة العائلية، فهي ذات محتوى درامي عدا عن أفلام الرسوم المتحركة.
وعن اختياره لفكرة عرض الأفلام على شاطئ البحر، علّق: “البحر هو المتنفس الوحيد للغزيين الهاربين من انقطاع التيار الكهربائي، فهذه السينما تعزز من صمودهم وتخلق لهم مساحة من الفرح والتسلية”.
وذكر مهنا أن سينما البحر يمكن من خلالها تمرير الكثير من القيم، عبر الأفلام التي تتحدث عن شخصيات وطنية وشعراء، مثل فيلم يحكي عن الشاعر الفلسطيني معين بسيسو، مؤكدًا أن جميع الأفلام تعطي مساحة للعائلات بالحضور.
وبفعل إقبال الأهالي بصحبة صغارهم لحضور الأفلام، قرر مهنا وشركاؤه تحسين طريقة العرض وجودته عبر البحث عن مموّلين لتبقى المبادرة مستمرة، معقبًا: “السينما أداة مؤثرة ويجب أن يفكر صانعو القرار بإعادة النظر في توجيهها، وفتح دور السينما التي يمكن من خلالها الارتقاء بالمجتمع”.