للمرة الأولى منذ ابتعاده عن الحياة السياسية عقب استقالته من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية في 2013، ها هو الدكتور محمد البرادعي، يعود للأضواء من جديد، لكن هذه المرة عبر شاشات الفضائيات وليس مواقع التواصل الاجتماعي كما هو معروف عنه.
لقاء البرادعي على شاشة التلفزيون العربي، والذي يأتي قبل أيام قليلة من الذكرى السادسة لثورة الخامس والعشرين من يناير، أثار ضجة غير مسبوقة داخل الوسط السياسي المصري، وأزعج المقربين من النظام الحاكم بصورة دفعتهم إلى التخطيط لإجهاض هذا اللقاء من خلال بث تسريب صوتي له مع بعض الشخصيات العامة والقيادات العسكرية، في محاولة لتشويه صورته والتقليل من مضمون ما يقوله.
رد الفعل حيال لقاء البرادعي التلفزيوني عكس العديد من المؤشرات عن القلق من ذكرى الثورة لا سيما في ظل دعوات التظاهر المقرر لها 11 من يناير الحالي دعمًا لمصرية جزيرتي تيران وصنافير، كما أنه في نفس الوقت يفرض العديد من التساؤلات عن منهج النظام في التعامل مع المغردين خارج السرب حتى وإن كانوا من الوجوه التي شاركت وخططت لإنجاح انقلاب الثالث من يوليو، إضافة إلى التساؤل عن مراقبة اتصالات ومكالمات القيادات العليا بالقوات المسلحة، واعتماد سياسة تسريب المكالمات المسجلة كأسلوب عقابي رادع لكل من يخرج عن عباءة هذا النظام.
بعد صمت 3 سنوات.. البرادعي يتحدث
منذ تقديم استقالته عقب مجزرة فض رابعة في أغسطس 2013، ومغادرته مصر، آثر الدكتور محمد البرادعي الصمت طيلة السنوات الثلاثة الماضية، اللهم إلا بعض المشاركات المتباعدة عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنه وفجأة عاد للمشهد من جديد عبر شاشة التلفزيون العربي من خلال المشاركة في برنامج “في رواية أخرى”، للإدلاء بشهادته عما حدث في مصر عقب ثورة يناير، إضافة إلى الحديث عن الملفات الشائكة التي عايشها حين كان مديرًا عامًا لوكالة الطاقة الذرية.
استهل البرادعي حلقته الأولى من البرنامج المقرر له خمس حلقات متتالية، بالحديث عن سيرته الذاتية، ورؤيته بصورة عامة لما أطلق عليهم “النخبة”، فضلاً عن موقفه ابتداءً من تولي العسكر قيادة أمور الوطن.
البرادعي: إن خريج القوات المسلحة يمكن أن يكون قائدًا عظيمًا، لكنه لا يستطيع أن يدير وزارة التربية والتعليم
البرادعي برر غيابه 3 سنوات عن الظهور الإعلامي بقوله: “فضلت الابتعاد لأنني فعلت ما بوسعي وقررت انتظار نتائج ما سيحدث”، مفسرًا سر عودته المفاجأة بقوله: “وصلت إلى قناعة أن كل واحد اليوم لازم يتكلم من وجهة نظره وخبرته ولو يساعد 1% لأننا الآن في مرحلة أن العالم العربي في مأساة ويدمر نفسه، وقيمنا اختفت، وأصبحنا ندمر بعضنا البعض”.
كما وجه البرادعي سهام نقده إلى الحكم العسكري في مصر، قائلاً: “خريج القوات المسلحة يمكن أن يكون قائدًا عظيمًا، لكنه لا يستطيع أن يدير وزارة التربية والتعليم”، مشددًا على أن نتيجة هذا التسلسل المنطقي هو أن ينتهي الحكم السلطوي بجماعة متطرفة.
ومن المقرر أن يروي البرادعي في الحلقة الثانية من البرنامج، كواليس عمله بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتعامله بالملف العراقي والإيراني والليبي، ويسرد شهادته بخصوص لقاءات متعددة بزعماء العالم في تلك الفترة، أما في الحلقة الثالثة فيعود للحديث عن مصر، وإرهاصات الثورة الأولى، وتأسيسه للجمعية الوطنية للتغيير، ثم موقفه من المجلس العسكري والإخوان بالمرحلة الانتقالية، وسبب عدم ترشحه لرئاسة الجمهورية، وموقفه من نتيجة الانتخابات، ثم ينتقل إلى شرح تقييمه لحكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، وأسباب معارضته له، ويكشف كواليس عمله بالرئاسة بعد انقلاب الثالث من يوليو، وذلك في الحلقة الرابعة، مختتمًا حلقاته بالحديث عن رؤيته لمستقبل مصر، ويطرح حلولاً للأزمة، وكذلك يستعرض الواقع العربي والعالمي، ورؤيته لأزمات الدول العربية وعلى رأسها سوريا وفلسطين.
التشويه.. عرض مستمر
في نفس توقيت عرض برنامج “في رواية أخرى” على التلفزيون العربي، كان الإعلامي أحمد موسى – المقرب من نظام السيسي – يبث مقاطع صوتية للبرادعي، وجه من خلالها الشتائم والإهانات لبعض الشخصيات العامة السياسية في مقدمتها المرشح الرئاسي الخاسر حمدين صباحي، والبرلماني السابق مصطفى النجار، والوزير الراحل يحيى الجمل، وبعض شباب ائتلافات الثورة، وذلك خلال اتصال هاتفي مسرب له مع الفريق سامي عنان، رئيس أركان حرب الجيش المصري حينها، وهو ما أثار التساؤل كما سيرد ذكره لاحقًا.
موسى وبعض الإعلاميين المحسوبين على السيسي سخروا آلتهم الإعلامية لتشويه صورة البرادعي، سواء من خلال هذه التسريبات التي أثارت العديد من علامات الاستفهام، أو عبر الهاشتاج الذي تم إطلاقه تحت مسمى #افضح_البرادعي_سليط_اللسان، لتوجيه سهام النقد له قبل الوقوف على مضمون ما سيقوله على شاشة التلفزيون العربي.
وفي أول رد فعل له، عقَّب البرادعي على تسريب موسى مكالماته الهاتفية، واصفًا ذلك بإنه “إنجاز فاشي”، قائلاً عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”: تسجيل وتحريف وبث المكالمات الشخصية “إنجاز” فاشي مبهر للعالم، أشفق عليك يا وطني.
تسجيل وتحريف وبث المكالمات الشخصية " انجاز" فاشى مبهر للعالم. أشفق عليك ياوطني
— Mohamed ElBaradei (@ElBaradei) January 7, 2017
ليست الأولى
وبالعودة قليلاً للوراء، يلاحظ أن هذا التسريب ضد الدكتور البرادعي ليس الأول، فقد سبقه موجات عدة من التسريبات التي استهدفت الرجل منذ تقديم استقالته من منصبه اعتراضًا منه على الطريقة التي تم بها فض اعتصامي “رابعة” و”النهضة”.
مارس 2014: أذاع الصحفي والبرلماني المقرب من النظام عبد الرحيم علي، في برنامجه الصندوق الأسود الذي كان يقدمه على قناة “القاهرة والناس” المملوكة لرجل الأعمال الداعم للسيسي طارق نور، تسريبًا لمحمد البرادعي مع شقيقه، اتهمه فيه بسب وقذف بعض الشخصيات العامة كعمرو موسى وحمدين صباحي وأيمن نور.
مايو2015: بث الإعلامي نفسه تسجيلًا صوتيًا لمكالمات هاتفية بين البرادعي والإعلامي إبراهيم عيسى، ويبدو من التسجيل الصوتي، أن المكالمات جرت عقب ثورة يناير، إبان المشاورات على دستور 19 من مارس وكذلك تتضمن بعض آراء “البرادعي” عن الانتخابات البرلمانية والرئاسية حينها.
أكتوبر 2015: تم تسريب مكالمة بين محمد البرادعي وضابط مخابرات أمريكية يدعى “دان”، ويكشف البرادعي، خلال المكالمة عما دار خلال اجتماعه مع قيادات المجلس العسكري وكل من نجيب ساويرس وعمرو موسى، مطالبًا أمريكا بمساعدة مصر أمنيًا واقتصاديًا طالما ينفذ المجلس العسكري ما تطلبه النخبة السياسية.
خلال مشاركة البرادعي في بيان انقلاب الثالث من يوليو
قيادات الجيش.. تحت المراقبة
على الرغم من تأكيد المادة (57 ) من الدستور المصري على أن الحياة الخاصة لها حرمتها ومصونة لا يمكن المساس بها، بما في ذلك المرسلات البريدية والإلكترونية وغيرها من وسائل الاتصال، حيث جاء في نصها: “للحياة الخاصة حرمة، وهى مصونة لا تمس، وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة، وفي الأحوال التي يبينها القانون”، إلا أن الواقع يقول عكس ذلك تمامًا وهو ما تفنده التسريبات الصوتية التي يتم بثها عبر وسائل الإعلام ما بين الحين والآخر.
إذا كانت قيادات الجيش في مصر لا تأمن على نفسها من التسريبات والتجسس على هواتفها فمن بمصر يُخيل إليه أنه بمنأى عن هذا؟
الملفت للنظر أن التسريبات هذه المرة لا تتعلق بمواطن عادٍ، بل جاءت للرجل الثاني في الجيش المصري حينها، الفريق سامي عنان، رئيس أركان حرب الجيش المصري السابق، حيث تطرقت إلى اتصال دار بين البرادعي وعنان تحدثا خلاله عن مطالب الثوار بإقالة حكومة الفريق أحمد شفيق، مما يضع العديد من التساؤلات عن خصوصية قيادات الجيش المصري، والهدف منها، خاصة أنها ليست الأولى، فقد سبقها تسريبات أخرى بثتها قناة “مكملين” و”الجزيرة” لقائد القوات البحرية الأسبق أسامة الجندي، الذي قيل إنه احتجز الرئيس الأسبق محمد مرسي في قاعدة بحرية بالإسكندرية، إضافة إلى تسريبات أخرى داخل مكتب اللواء عباس كامل، الذراع الأيمن لعبد الفتاح السيسي ومدير مكتبه، ليبقى السؤال قائمًا: إذا كانت قيادات الجيش في مصر لا تأمن على نفسها من التسريبات والتجسس على هواتفها فمن بمصر يُخيل إليه أنه بمنأى عن هذا؟
البرادعي وانقلاب الثالث من يوليو
جدير بالذكر أن حديث البرادعي مؤخرًا عن كواليس انقلاب الثالث من يوليو، ومحاولة تبرئة ساحته من الدماء التي أريقت، لم يعفه في وجهة نظر البعض من التورط فيما حدث، خاصة أنه كان واحدًا من أبرز الوجوه التي دعمت هذا الانقلاب بمشاركة تيارات الأخرى مثلت الذراع المدني لانقلاب عبد الفتاح السيسي حتى تمت الإطاحة بهم جميعًا تدريجيًا.
كما أن استقالة البرادعي باتت محل خلاف، وذلك اعتراضًا على مجزرتي “رابعة” و”النهضة” ، والتي راح ضحيتها وفق تقرير وزارة الصحة المصرية 670 شخصًا ونحو 4400 مصاب وهو أقل التقديرات، ووصفتها منظمة “هيومن رايتس ووتش” بأن ما حدث وقتها بأنه على الأرجح جرائم ضد الإنسانية، وأخطر حوادث القتل الجماعي غير المشروع في التاريخ المصري الحديث، ما دفع البعض للتساؤل عن بقائه في السلطة على الرغم من وقوع أكثر من حادثة – قبل رابعة – راح ضحيتها العشرات من الشباب والنساء، فضلاً عن الآلاف من المصابين.
من مجزرة الحرس الجمهوري والتي راح ضحيتها 61 شخصًا
التجسس والتسريب.. مصير المغردين خارج السرب
من الواضح طيلة السنوات الثلاثة التي تلت انقلاب الثالث من يوليو، وبحسب المشاهد والأحداث المتلاحقة، أن النظام الحالي لا يقبل بأنصاف الولاء، فإما الولاء له كلية، والبراء من كل ما هو دونه، وإما فشاشات الفضائيات ومواقع الصحف والمجلات جاهزة لبث المكالمات الصوتية والمرئية المسيئة سياسيًا أو أخلاقيًا، والتي تلجأ إليها الأجهزة المعنية لتشويه صورة وسمعة كل من يفكر ولو قليلاً أن يغرد خارج السرب.
ويمكن الوقوف على هذه الحقيقة من خلال استدعاء بعض المشاهد التي برزت على الساحة منذ ترسيخ أركان النظام الحالي، فلم تكن مساعي تشويه صورة البرادعي هي الأولى، ولن تكون الأخيرة، فقد سبقتها مساعٍ عدة، كانت كرسالة تهديد وإنذار لمن يسعى إلى الخروج عن المسار المرسوم له، وهو ما حدث مع كل من الإعلاميين: يوسف الحسيني، عبدالحليم قنديل، وآخرهم، إبراهيم عيسى.
أما على المستوى السياسي، فقط انقلب النظام على العديد من الأسماء التي مهدت الطريق لإسقاط حكم الإخوان المسلمين، وساعدت على تأجيج الشارع ضد الرئيس السابق محمد مرسي، وفي مقدمتهم، شخصيات مثل حمدين صباحي، حازم عبدالعظيم، جورج إسحاق، إضافة إلى شباب ائتلافات الثورة، والذي يقبع بعضهم داخل السجون الآن، مثل أحمد دومة، علاء عبد الفتاح.
ومن ثم يمكن القول إن منهج بث التسريبات – الصوتية والمرئية – باتت السياسة الجديدة التي يسعى النظام من خلالها إلى تقليم أظافر كل من يسعى للتحليق بعيدًا عن السقف المرسوم له، حتى وإن كانت لرفقاء الأمس، لكن يبقى توقيت بث هذه التسريبات، والهدف من ورائها، والجهة التي تقف خلفها، أبرز التساؤلات التي تحدد جدواها، ومدى تأثيرها في قناعات الشارع.