لا يخسر المرء وظيفته بسبب تكاسل منه في القيام بكامل مهامها فحسب، أو بسبب سوء بيئة العمل وتأثيرها السلبي عليه أو العكس، بل هناك أسباب أخرى لم يلتفت إليها الناس بعد، إلا أنها من الممكن جدًا أن تجعلنا نخسر 47% من الوظائف التي اعتدنا عليها خلال الـ25 عامًا القادمة.
“الحكومات لم تستعد بعد” هو عنوان تقرير لصحيفة “الإيكونوميست” يشير إلى أن التكنولوجيا ومعها الإبداع كانا ولا يزالا عاملين مهمين جدًا في التأثير على الوظائف التي يقوم بها الفرد، لتحل محله الماكينة منذ الثورة الصناعية وتستمر بشكل متزايد وغير متوقف مع استمرار زيادة الإبداع وتطور التكنولوجيا.
إذا قمنا بالتدقيق، سنجد أنه خلال الثلاثين عامًا الماضية، خسرت البشرية العديد من الوظائف التي كانت هناك للعديد من القرون، هل ما زال هناك من يعملون خلف الآلة الكاتبة؟ هل ما زالت هناك آلة كاتبة أصلًا؟ ماذا عن ساعي البريد؟ هل ما زال هناك فلاحين يعملون بالمفهوم والطريقة التي كانوا يعملون بها منذ عشرين عامًا؟
كلما زاد تطور الاقتصاد واندماجه في العمليات التجارية المعقدة وكذلك كونه جزءًا من الاقتصاد العالمي، سمح ذلك للتكنولوجيا أن تقضي على بعض الوظائف، وليس فقط أن تغيرها أو تطورها أو تُحسن منها، ربما لم يعد هناك فريق كامل للشركات يعمل على تنظيم سير العمل أو يدقق الحضور والغياب، ولكن بالطبع هناك برامج كاملة مصممة لذلك تعمل في سهولة وكذلك في سرعة شديدة.
بحسب دراسة في جامعة أكسفورد، فإننا سنخسر 47% من الوظائف التي نعرفها ويقوم بها الكثير منا الآن خلال الـ25 عامًا القادمة
حيث ستقوم التكنولوجيا ومعها الذكاء الاصطناعي “artificial intelligence” وكذلك الاجتماعي “social intelligence” باستبدال كل من هم عديمي الموهبة وغير القادرين على مواكبة التطورات السريعة في مجال العمل، وكذلك غير القادرين على مواكبة المنافسين.
يشير تقرير صحيفة “الإيكونوميست” أن على الأطباء والمحاسبين والمحامين والمحللين الماليين الحذر، فوظائفهم في خطر كذلك، حيث يقوم الذكاء الاصطناعي بالتهديد الأكبر هنا، ألا وهو احتمالية أن يحل بالفعل الذكاء الاصطناعي محل هؤلاء الأشخاص، وربما يؤدي وظيفتهم بشكل أفضل كذلك، لتقل نسبة الخطأ فيه، فلا نشهد بعد ذلك محاولات للتزوير في الدفاتر المالية، أو تشخيص خاطئ لطبيب مما قد يؤدي لوفاة المريض.
لا يقضي التطور السريع للتكنولوجيا على بعض الوظائف فحسب، ولا بتطوير البعض الآخر فقط، بل يقدم العديد من الوظائف الجديدة التي لم نسمع عنها من قبل، وتكون فقط ولادة العصر الحديث، واختراع التكنولوجيا الذي تقدمه للجيل الجديد، اختراع يلائم صفات هذا الجيل وطباعه وقدرات ذكائه.
لا نغفل هنا أن طباع جيل الألفية الحديثة تشكل عاملًا لا يقل أهمية عن عامل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في دورهم في تغيير بيئة وظروف العمل، بل وتغيير طبيعة العمل الكلية واختراع وظائف جديدة تمامًا، حيث إن جيل الألفية الحديثة، وهو الجيل المولود ما بين 1980 وحتى 1996، الذي يشكل الأغلبية من السكان في كثير من دول العالم، له طباعه الخاصة بالنسبة لظروف العمل، فهم لا يقتنصون الفرص للبقاء أطول مدة في وظيفة واحدة طول حياتهم، وفي سياق آخر لا يبحثون ليكون لديهم سيرة مهنية طويلة لنفس الوظيفة، بل يجدون راحتهم في التنقل ما بين وظيفة وأخرى حتى ولو كانت وظائف مختلفة تمامًا عن بعضها البعض.
لذا فإن عامل التغيّر السريع على ميزاني التكنولوجيا وصفات جيل الألفية الحديثة لهم الفضل الأكبر في إمكانية أن تفقد البشرية 47% من وظائفها المعروفة لنا حاليًا، دعنا نلقي نظرة على ما جد على مجالات العمل من وظائف لم تكن موجودة منذ عقود قليلة مضت.
الصحافة الإلكترونية
شهد الإعلام العربي على مستوى تكنولوجيات الإعلام والاتصال تحولات كبيرة خلال العقدين الماضيين، وكان من أبرز ملامحها ظهور شبكة الإنترنت كوسيلة اتصال تفاعلية أتاحت الفرصة أمام الأفراد والمؤسسات للوصول إلى المعلومات بحجم هائل وبسرعة فائقة، أو إرسالها ونشرها على نطاق واسع لم يسبق له مثيل في التاريخ، كان من بين تلك التحولات “الصحافة الإلكترونية” أو صحافة الإنترنت وما تتضمنه من البوابات الإخبارية والصحف الإلكترونية والمدونات الإعلامية التي شكلت منافسًا قويًا للصحافة الورقية، لا سيما أنها الشكل الأنسب لقراء الأجيال الجديدة وتناسب ما يستخدمونه من وسائل للوصول للمعلومة أو للخبر.
جاءت الصحافة الإلكترونية أيضًا مع غيرها من الكثير من الوظائف الجديدة بمفهوم العمل عن بعد، أي العمل من خلال جهاز الحاسوب دون الحاجة للوجود في مكان للعمل كما هو الحال في الصحافة الورقية التي تلزم الصحفي بدوام محدد وصارم، ليكون العمل عن بعد من أهم سمات الوظائف الجديدة في العصر الواحد والعشرين، والذي ما زال لا يفهمه الكثير من أفراد الأجيال السابقة، فمن الصعب أن تقنع جدك أو جدتك بأنك تعمل وقتما تجلس في المنزل أمام حاسوبك!
مدراء مواقع التواصل الاجتماعي
هل تخيلت نفسك قبل عشرة سنوات مديرًا لصفحة شركتك على الفيس بوك، ماذا عن كونك وسيطًا بينك وبين المؤسسة التي تعمل فيها على “سناب شات”، هل تخليت نفسك تصور مقاطع ولقطات سريعة لتطبيق على هاتف المحمول “Snapchat Moderator”؟ هذا يعني أنه يمكنك العمل من كل مكان، وأن التقييد بمكتب للعمل ليس من بين مواصفات مهمتك!
التسويق المؤثر “influencer marketing”
في عالم مليء بالعلاقات الرقمية، يصعب على المرء أن يثق بتوصية الإعلانات له الموجودة في كل مكان وعلى كل موقع يقوم بالولوج إليه، لذا ما زال الناس يركنون للاعتماد على توصية الآخرين إليهم، ومن هنا جاءت فكرة “التسويق المؤثر”، حيث أشار هذا التقرير من شركة تويتر بأن نسبة تصل إلى
49% من العملاء والزبائن يشترون المنتجات عن طريق توصية هؤلاء المسوقيين الرقميين، وليس من إعلانات الشركة صاحبة المنتج نفسه.
لا عجب أن نجد هؤلاء المسوقين من أصحاب ملايين المتابعين على حساباتهم الشخصية على فيس بوك وتويتر وإنستغرام وسناب شات وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، التي بدأت بكونها طريقة للتواصل والاستمتاع بوقت الفراغ، إلى عالم مليء بالعلاقات الرقمية الذي تحول إلى ساحة افتراضية مليئة بوظائف العمل التي تحتاجك أن تملك الموهبة، الحضور، مهارات جذب الجمهور، ولا تنسى هاتفك المحمول أو جهاز الكمبيوتر الخاص بك.
لا تتوقف وظائف العصر الحديث عند هؤلاء فحسب، بل عددهم لا يعد ولا يحصى، لأنهم ببساطة في حالة متجددة ومستمرة طوال الوقت، لا سيما أنه عالم سريع، ولا يجد المتكاسل أو التقليدي مكانًا فيه على الإطلاق، فما هو رأيك في العمل عن بعد بإحدى تلك الوظائف؟ هل ستواكب التغيير أم ستلزم منطقة الأمان؟