ترجمة وتحرير نون بوست
أصبح من الواضح في السنتين الأخيرتين، أن الجهود التي بذلتها المملكة العربية السعودية طيلة نصف قرن لتكريس نظرة جديدة لها، باعتبارها قوة رئيسية بين الدول العربية والإسلامية، كادت تحقق أهدافها، ولعل هذا ما أشار إليه التقرير التابع لوزارة الخارجية الأمريكية الذي أرسلته وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون سنة 2014، حيث أشار إلى أن السلطات السعودية والقطرية تتنافسان” للسيطرة على العالم السني”.
وفي كانون الأول/ ديسمبر سنة 2015، أعربت دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية عن قلقها الشديد بسبب تنامي نفوذ المملكة العربية السعودية الذي بلغ درجة خطيرة، وأصدرت مذكرة أشارت فيها إلى “الموقف الدبلوماسي المتحفظ في المملكة السعودية الذي تبناه كبار المسؤولين في العائلة الحاكمة، قبل أن يتم تعويضه اليوم بسياسة تدخل مندفعة”.
أجبرت الحكومة الألمانية، التي وجدت نفسها في موقف محرج، دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية على التراجع عن موقفها، لكن السنة الماضية شهدت تحقق هواجس السياسات العدوانية للسعودية، التي أدت إلى تهديد استقرار المنطقة، وكانت السرعة التي تراجعت بها طموحات المملكة العربية السعودية على مختلف الجبهات أمرًا مفاجئًا، لم تتوقع حدوثه الاستخبارات الخارجية الألمانية.
وفي السنة الماضية، شهدت المملكة العربية السعودية هزيمة حلفائها في الحرب السورية، وخسارتهم لأكبر تجمع للمعارضة في شرق حلب، وتجدر الإشارة إلى أن هزيمة السعودية في سوريا حدثت بصفة غير مباشرة، وهو ما لم يحدث في حرب اليمن الذي تخوض فيه المملكة السعودية حربًا عسكرية مباشرة، كلفتها خسائر بشرية ومادية، وإن دلّ هذا على شيء، فهو يدل على أن السعودية استثمرت جهودها وخططها الأمنية في وجهة أخرى بدل توظيفها في الحد من تنامي النفوذ الإيراني في المنطقة.
أدى القصف المستمر الذي قادته أغنى دولة في الخليج العربي ضد أفقر دولة في العالم العربي إلى وقوع كارثة إنسانية، عمّقت معاناة نحو 60% من سكان اليمن
أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد سمح الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته باراك أوباما الذي يمثل الضامن الوحيد لتواصل حكم آل سعود، بتداول روايات عن تجاهله للعلاقة التي تقوم على الصداقة والتحالف بين واشنطن والرياض، أما على المستوى الشعبي، فهناك دلالات على تزايد العدوانية تجاه السعودية، وهو ما ينعكس في وجود شبه إجماع داخل الكونغرس للسماح لعائلات ضحايا أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر بمقاضاة الحكومة السعودية، وتحميلها مسؤولية الهجمات الإرهابية في نيويورك وواشنطن.
أصبحت السياسة الخارجية السعودية تحت إشراف ولي ولي العهد ووزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي يُعتبر من أبرز الشخصيات السياسية في المملكة السعودية ومن أصحاب القرار السياسي، ترتكز أكثر على المبادئ العسكرية والقومية بعد وصول والده للحكم يوم 23 من كانون الثاني/ يناير سنة 2015، ولعل هذا ما يفسر التدخل العسكري السعودي في اليمن الذي تلاه تزايد الدعم للمعارضة المسلحة في سوريا، حيث تُعتبر جبهة النصرة من أقوى الأطراف المتدخلة فيها.
وعلى الرغم من الجهود العسكرية للسعودية في كل من اليمن وسوريا، فإن الأمور لم تحدث كما خطط لها المسؤولون في الرياض، وكان السعوديون يعتقدون أنهم قادرون على هزيمة القوات الحوثية بسهولة خلال الحرب اليمنية، لكن بعد مرور 15 شهرًا من الغارات الجوية تمكن الحوثيون بدعم من الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح من الحفاظ على تفوقهم في العاصمة اليمنية صنعاء، وشمال البلاد.
وقد أدى القصف المستمر الذي قادته أغنى دولة في الخليج العربي ضد أفقر دولة في العالم العربي إلى وقوع كارثة إنسانية، عمّقت معاناة نحو 60% من سكان اليمن، الذي يضم 25 مليون نسمة، بالإضافة إلى انتشار الجفاف ونقص الإمدادات الغذائية.
ومن جهة أخرى، أدى التدخل السعودي في سوريا سنة 2015 بهدف مساندة المعارضة السورية إلى عواقب وخيمة لم تكن في الحسبان، وقد أقدم السعوديون على هذه الخطوة اقتداءً بقطر التي تُعتبر من الحلفاء الرئيسيين للمعارضة، ولذلك راهنت المملكة السعودية على المعارضة السورية لهزيمة نظام بشار الأسد أو استدراج الولايات المتحدة إلى الوقوف في صفها، لكن ذلك أدى إلى نتائج عكسية، فقد دفع الضغط العسكري الذي مارسته المملكة السعودية إلى جانب حلفائها ببشار الأسد إلى الاستنجاد بكل من روسيا وإيران، وهو ما أدى إلى تدخل عسكري روسي سريع في أيلول/ سبتمبر سنة 2015، الأمر الذي لم تتوقعه الولايات المتحدة الأمريكية.
أصبح من الواضح في السنتين الأخيرتين، أن الجهود التي بذلتها المملكة العربية السعودية طيلة نصف قرن لتكريس نظرة جديدة لها، باعتبارها قوة رئيسية بين الدول العربية والإسلامية، كادت تحقق أهدافها
وعلى ضوء هذه الأحداث، تعرض الأمير محمد بن سلمان إلى انتقادات من داخل المملكة وخارجها، بسبب سوء التقدير والتسرع في اتخاذ القرار، مما أدى إلى تعقيد الأزمة، بدل حلها، وعلى الصعيد الاقتصادي، قاد الأمير محمد بن سلمان برنامجًا تنمويًا طموحًا إلى حدود سنة 2030، وراهن من خلاله على جعل الاقتصاد السعودي أقل اعتمادًا على عائدات النفط، لكن تعرض هذا المخطط لانتقادات واسعة، شككت في نجاعته وواقعيته، وتمثل المحسوبية أهم العوائق الرئيسية أمام تحقيق هذا البرنامج، حيث تنفق الحكومة السعودية نسبة كبيرة من عائدات النفط لتوظيف السعوديين بغض النظر عن مؤهلاتهم المهنية، ومع بداية تطبيق هذه الخطة، تظاهر ما يقارب عشرة ملايين موظف حكومي، بسبب عدم حصولهم على مستحقاتهم الشهرية، لكن السلطات السعودية ليست على استعداد لتقديم تنازلات عن طموحاتها بسبب مطالب القوة العاملة.
يكمن الخطر الأكبر بالنسبة للقادة في المملكة العربية السعودية وقطر وغيرها من دول الخليج في غياب قراءة واقعية لحقيقة القدرات العسكرية والسياسية التي يمكن أن تمتلكها هذه الدول، لكن القوة المتزايدة لدول الخليج لا تُعتبر أمرًا جديدًا منذ أن تزايد نفوذها في العالمين العربي والإسلامي، بعد الهزيمة التي لحقت بالأنظمة القومية في مصر وسوريا والأردن من قِبل إسرائيل في سنة 1967، ولعل هذا ما توصل إليه الباحثون في السابق، ولم تتوصل إليه المملكة العربية السعودية سوى في الفترة الأخيرة، فقد أدرك الجميع أن القومية العسكرية تعمل بشكل فعال على تعزيز مركز الحكام الذين يعيشون تحت الضغط، طالما أن وجودهم يرتبط بتحقيق النصر العسكري، لكنهم سرعان ما يفقدون نفوذهم، بعد خسارتهم لأحد الحروب، فتتلاشى بذلك كل آمالهم.
تمكنت المملكة العربية السعودية ودول الخليج من الحفاظ على قوة أنظمتها السياسية من خلال سياسة التحالف والوكالة، لكن هذه السياسة انتهت مع اندلاع الثورات الشعبية في الدول العربية سنة 2011، ودفع هذا المعطى السياسي الجديد قطر والمملكة العربية السعودية إلى الدعوة لتغيير الأنظمة التقليدية، وأفرزت بعض الثورات العربية ثورات مضادة، خاصة في البلدان التي تشهد خلافات طائفية حادة، في العراق وسوريا واليمن والبحرين التي تحتضن العديد من الطوائف السنية وغير السنية.
ويلجأ بعض المعارضين لسياسات السعودية والقطر في الكثير من الأحيان إلى شيطنة هذه الأنظمة ووصفها بالمكر، وقد يكون ذلك أمرًا غير منطقي، لكنه لا ينفي حقيقة أن الفوضى والجهل بطبيعة المعطيات الميدانية والعالمية تبقى الصفة الطاغية على سياسات هذه الأنظمة، فقد اعتقدت قطر في سنة 2011 أن في استطاعتها الإطاحة بنظام الأسد بنفس السرعة التي سقط بها معمر القذافي في ليبيا، لكن عندما فشل مخططها، لجأت إلى ضخ المال والسلاح في سوريا لدعم المعارضة المسلحة، بينما كانت تسعى لإقناع الولايات المتحدة بالتدخل عسكريًا لإسقاط الأسد، كما فعلت قوات حلف شمال الأطلسي ضد القذافي في ليبيا.
على الرغم من الجهود العسكرية للسعودية في كل من اليمن وسوريا، فإن الأمور لم تحدث كما خطط لها المسؤولون في الرياض،
ويتساءل الخبراء في سوريا عن المعطيات التي يمتلكها السعوديون والقطريون بخصوص مسألة تمويل تنظيم الدولة ومختلف الجماعات المتطرفة التابعة لتنظيم القاعدة، ويبدو أن الإجابة الأكثر إقناعًا هي أنهم لا يعرفون مصادر هذه الأموال، أو مصيرها، وربما لا يكترثون بوجهتها، طالما يساهم فيها أثرياء خليجيون دون مشاركة الأطراف الحكومية أو المخابرات السعودية.
شرحت كارلوتا غال في تقرير نشرته في صحيفة “نيويورك تايمز” في كانون الأول/ ديسمبر الماضي آلية تمويل السعودية للجماعات المتطرفة، ووضحت فيه كيفية تمويل السعوديين لحركة طالبان بعد هزيمتها سنة 2001، واستحضرت الكاتبة في هذا المقال تصريحات وزير المالية السابق لطالبان أغا جان معتصم، الذي ذكر لجوؤهم إلى المملكة العربية السعودية لجمع مبالغ مالية كبيرة من بعض الأطراف المجهولة، ثم نقلها سرًا إلى أفغانستان.
أثبتت محاولات المملكة العربية السعودية ودول الخليج النفطية التي تسعى إلى بسط نفوذها على العالمين العربي الإسلامي فشلها، ولعل هذا ما أدى إلى نجاح الجيش السوري في محاصرة شرق حلب، وبالتالي، فإن المصير الذي ستواجهه هذه الشعوب تحت وطأة الحكومات الاستبدادية سيكون حتمًا نتيجة لسوء تدخل الحكومات الخليجية.
المصدر: الإندبندنت