يؤرخ عدد من المتخصصين للمؤتمر السابع لحركة فتح كمحطة استكملت فيها تحولها إلى حزب السلطة، أي باعتباره المؤتمر الأخير لحركة التحرر الوطني، والأول لحزب “فتح السلطة”. غير أن ذلك مرتبط بسيناريوهات ما بعد المؤتمر، ومعرفة ما إذا نجحت جماعات المصالح في استكمال مسار الانقلاب على فتح كحركة تحرر وطني، وإلى أين سيقود ذلك؟
من حيث الجوهر، يصعب استقراء مآلات التحولات في هوية ودور حركة فتح وتأثيراتها على الحالة الفلسطينية العامة، دون مراعاة ثلاثة عوامل مؤثرة:
الأول: سيناريوهات وديناميات تطور الصراع مع الاحتلال خلال الفترة القادمة، وما قد يفرضه من تغيير في استراتيجيات العمل الوطني الفلسطيني، بما فيه الاستراتيجية التي تعتمدها فتح ذاتها.
الثاني: أين تتموضع جماعات المصالح في حركة فتح فيما يتعلق بالقضايا الرئيسية التي تمتلك فتح التأثير الأكبر عليها باعتبارها الطرف القائد/ المهيمن على السلطة، والمنظمة، و”الدولة” بصفة مراقب في الأمم المتحدة، والموقف من الصراع مع الاحتلال، والعلاقة مع “إسرائيل”، وبالتالي بنية ودور ووظائف السلطة، وأهداف وأشكال النضال، والموقف من المصالحة الداخلية، بما في ذلك بنية ودور منظمة التحرير الفلسطينية.
الثالث: مواقف فصائل العمل الوطني والإسلامي ومنظمات العمل الأهلي والشعبي إزاء ما سبق، وخصوصاً قدرتها على بلورة رؤية واضحة بشأن إعادة بناء الوحدة الوطنية، وتفعيل المؤسسات التمثيلية الفلسطينية.
أولاً: فتح: نحو حزب للسلطة:
بالقدر الذي يُعدُّ فيه انعقاد المؤتمر العام السابع لحركة فتح انتصاراً للرئيس عباس، فإنه يُعدُّ أيضاً انتصاراً للموالين لخيارات الرئيس من أصحاب المصالح المرتبطة ببقاء السلطة التي يمسك الرئيس بزمامها. لذلك، جاءت مقدمات ونتائج المؤتمر تتويجاً لنجاحات الرئيس في توجيه مسارات الصراعات على مواقع القوة والنفوذ، بمهارة القادر على التحكم بخيوط دمى متحركة على مسرحي فتح والسلطة.
لم يشكل المؤتمر محطة للتجديد في الاستراتيجية المعتمدة، كما ضمت اللجنة المركزية الجديدة 12 عضواً من اللجنة القديمة من أصل 18 عضواً، وسوف ينضم إليهم 4 أعضاء بالتعيين
لقد بدا الرئيس كمن يسمو على كل الصراعات، بل ويخرج أكثر قوة كلما تفاقمت الخلافات والتصدعات، في مفارقة لا سابق لها تتحول فيها الشقاقات بدلاً من الوحدة إلى مصدر لتعزيز “الشرعية”، في إشارة إلى انحطاط السياسة ذاتها مع تفكك المبنى السياسي للحركة الوطنية ومؤسسات العمل الوطني عموماً. في وضع كهذا، كسب الرئيس عباس واحدة من أهم الجولات على مستوى تعزيز شرعية قيادته للحركة، وتمكن من بناء نقطة استقطاب يصبح فيها خصومه هم ذاتهم خصوم مجموعات المصالح في مؤسسات السلطة المدنية والأمنية بشكل خاص، ما مكنه من توجيه ضربة قوية لخصومه، سواء في تيار عضو اللجنة المركزية السابق محمد دحلان، أم المنتقدين لسياساته، أم بقايا المحسوبين على حقبة الرئيس الراحل ياسر عرفات.
كما تمكن الرئيس من الحصول على دعم لبرنامجه السياسي على حساب البرنامج السياسي الذي كان أعد ضمن وثائق المؤتمر، وانتخاب أغلبية موالية له في اللجنة المركزية والمجلس الثوري. وهو ما يجعل الرئيس في وضع أفضل استعداداً لخوض جولات أخرى في سياق إعادة ترتيب موازين القوى في الهيئات العليا للسلطة ومنظمة التحرير، بما يخدم إحكام قبضته على عملية صنع القرار على مختلف المستويات.
لا يعني ما سبق التسرع بإصدار أحكام قاطعة على مغادرة فتح موقع حركة التحرر الوطني، إذ ما تزال القواعد الواسعة المؤيدة للحركة تنخرط في مواقع النضال التي تفرضها طبيعة الصراع ذاته، إضافة إلى وجود تيار في الهيئات القيادية يؤمن بأن السمة الرئيسية للمرحلة ما تزال التحرر الوطني، على الرغم من تراجع دور ونفوذ هذا التيار الذي أسهم في انتخاب الأسير مروان البرغوثي بأعلى الأصوات. غير أنه يمكن القول إن الحركة باتت تقف أمام مفترق طرق من حيث خياراتها الاستراتيجية ذات العلاقة بهويتها ودورها كحركة تحرر وطني، أو حزب لسلطة حكم ذاتي، أو إبقاء قدم هنا وأخرى هناك، إضافة إلى مدى القدرة على استعادة وحدة صفوف الحركة وحمايتها من مخاطر الانقسام والتصدعات الداخلية.
في هذا السياق، يلخص د. إبراهيم أبراش، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر بغزة، الوزير السابق وعضو المجلس الاستشاري لحركة فتح، في مقالة له بعنوان “المؤتمر الأخير لحركة فتح الثورة، والأول لحزب فتح السلطة والدولة” (وكالة سما الإخبارية، 1/12/2016)، المآلات الاستراتيجية للتحولات في هوية ودور فتح، بعدة نقاط من أبرزها:
– تحويل حركة فتح لحزب السلطة والدولة سيغيّر من طبيعة الصراع مع العدو، وسيقطع الطريق على العودة لحالة التحرر الوطني في حالة فشل كل جهود التسوية السياسية، أو إقدام “إسرائيل” على ضمّ الضفة الغربية أو جزء منها.
– تحويل حركة فتح لحزب السلطة والدولة سيثير إشكالات حول علاقتها بمنظمة التحرير واستمرارها في قيادتها، مع أن حال كل فصائل منظمة التحرير ليس بأفضل من حال حركة فتح، وهي ليست بعيدة عن السلطة وفكرة “الدولة”. وسيكون الأمر أكثر تعقيداً بالنسبة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي فيما يتعلق بمطلب إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير. فإذا كان خيار أكبر فصيل في منظمة التحرير هو خيار “الدولة” والتخلي عن المقاومة، فهل سيتم تفعيل المنظمة على هذا الأساس؟
تحوّل المؤتمر إلى مهرجان لتجديد البيعة في بثّ مباشر عبر وسائل الإعلام، وخصوصاً عبر شاشة التلفاز الرسمي، على مدى يومين، قبل أن يلقي الرئيس خطاباً استمر نحو ثلاث ساعات
– تحويل حركة فتح لحزب السلطة والدولة، وخصوصاً إن استطاعت جرّ بقية الفصائل والأحزاب لهذا الخيار، سيؤدي لفراغ في ساحة العمل الوطني التحرري مما سيدفع آخرين لمحاولة ملئه، سواء كانوا من حركة فتح أم من خارجها، حسب أبراش.
ثانياً: محطة في سياق الصراع الداخلي:
في المحصلة النهائية، أخفق المؤتمر في أن يشكل محطة لاستنهاض الحركة ويقدم إجابات تتعلق بتحديات الهوية والدور واستراتيجيات العمل الوطني على أساس مراجعة التجربة الماضية، وخصوصاً منذ اتفاق أوسلو، وتحوّل إلى مؤتمر انتخابي بامتياز على حساب النقاش المتعلق بمتطلبات استنهاض الحركة، واختتم أعماله بإبقاء القديم على حاله. وفي كل ذلك، ربح الرئيس لكن فتح خرجت أكثر ضعفاً، وتواجه سيناريوهات مختلفة يتوقف تطور كل منها ليس على كيفية تصرف قيادة الحركة القديمة – الجديدة وحسب، بل والخطوات التي سوف يقدم عليها من استبعدوا من عضوية المؤتمر، سواء من باتوا مصنفين ضمن خانة “المتجنحين” من أنصار عضو اللجنة المركزية السابق محمد دحلان، أو مئات الساخطين على استبعادهم من عضوية مؤتمر يرون أنهم يستحقونها، بل وربما غيرهم من بين أكثر من أربعمئة عضو مؤتمر خسروا في بازار انتخابات الجنة المركزية والمجلس الثوري.
جاء كل ذلك منسجماً مع المقدمات دون مفاجآت تتجاوز حدود المتوقع. وهو أمر ينبغي قراءته ضمن السياق الذي حكم قرار عقد المؤتمر وما سبقه ورافقه من ترتيبات، بالرغم من تأخره عامين عن موعد استحقاقه منذ عقد المؤتمر السادس في آب/ أغسطس 2009 بمدينة بيت لحم. وفي تحليل السياق الذي عقد فيه المؤتمر، تبرز أولى المفارقات في غياب عامل مستوى تطور الصراع مع الاحتلال والتحولات الكبرى نحو تعمق الفاشية والعنصرية على مستوى الحكم والمجتمع في “إسرائيل” كعامل مقرر في التعامل مع المؤتمر كمحطة لاعتماد استراتيجيات عمل تنظيمي وسياسي وكفاحي ترتقي إلى مستوى التحديات التي يفرضها الصراع التحرري، مقابل حضور الصراعات الداخلية والحاجة إلى إعادة ترتيب موازين القوى بطريقة تخدم بقاء الوضع الراهن، بما في ذلك بقاء السلطة بشكلها ودورها ووظائفها الحالية.
إن السياق الأكثر تأثيراً في تحديد عضوية المؤتمر ونتائجه تمثل في تفاقم الصراع الداخلي مع تيار دحلان، والقلق من خطة اللجنة الرباعية العربية (مصر، والأردن، والسعودية، والإمارات) لفرض “مصالحات” فلسطينية داخلية تبدأ بعودة دحلان إلى موقعه في اللجنة المركزية، وتفتح عملياً السباق على خلافة الرئيس عباس قبل أوانه. وهو ما دفع للتعامل مع المؤتمر بصفته أداة لحسم الصراع الداخلي بالضربة القاضية، وليس بالنقاط؛ أي إقصاء وتحجيم مجمل التيار المحسوب على دحلان ونزع “الشرعية الفتحاوية” عنه، مقابل تعزيز شرعية الرئيس، والتفاف الحركة حوله، وانتخاب هيئات قيادية جديدة للحركة تخدم ذلك، بما يخفف من تأثير أي تدخلات خارجية لفرض خليفة للرئيس.
ومن شأن ذلك أن يسهل استخدام أدوات أخرى لاجتثاث حضور الموالين لتيار دحلان في الحياة السياسية برمتها، وخصوصاً في حال تقرر التوجه إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية، من خلال فتح “ملفات فساد” تقود إلى إصدار أحكام قضائية بحق منافسين محتملين في هذه الانتخابات، وخصوصاً بعد تمكن الرئيس من الحصول على صلاحيات مطلقة من المحكمة الدستورية تتيح له نزع الحصانة عن نواب منتخبين.
غلب على المؤتمر طابع الموظفين أو العاملين في أجهزة المنظمة والسلطة وفتح في السلكين الأمني والمدني، علماً أن هؤلاء احتلوا تلك المناصب بتعيين من القيادة ذاتها، ما يعني أن هذه حركة بات مسيطر عليها تماماً
يمكن ملاحظة بعض المؤشرات التي أثرت على التعجيل بعقد المؤتمر في الموعد المحدد يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وكذلك على المعايير التي حكمت اختيار أعضائه وعددهم، وفي مقدمتها مشاعر القلق من إطلاق مصر عملية “غير رسمية” للتعامل مع مختلف القطاعات والفئات الفلسطينية في قطاع غزة بشكل مباشر، وبالقفز عن أي تنسيق مع السلطة أو الفصائل الفلسطينية، من خلال تنظيم سلسلة مؤتمرات وندوات في “عين السخنة” بإشراف مركز بحثي.
وقد جاءت هذه التوجهات المصرية في أعقاب محاولات لعقد مؤتمر موسع في القاهرة من قبل أنصار دحلان، حيث لعبت السلطة وأجهزتها الأمنية والإعلامية دوراً في إحباط هذه المحاولات، التي ترافقت مع تحركات احتجاجية في قطاع غزة غضت حركة حماس الطرف عنها، ومنها مسيرة أحرقت خلالها صور الرئيس عباس في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي (موقع أمد الإخباري، 2016/10/6)، وأخرى في الضفة الغربية عُدَّت تحدياً مباشراً للسلطة، كما حدث في محاولة تنظيم لقاء فتحاوي تشاوري في مخيم الأمعري برام الله، حيث تدخلت الأجهزة الأمنية ومنعت استكمال عقده، وتلا ذلك اتخاذ إجراءات بالفصل والإعفاء من المهمات بحق عدد من المسؤولين عن محاولة تنظيم اللقاء (شبكة رؤية الإخبارية، 2016/10/23).
وعلى الرغم من أن إخفاق المصنفين ضمن “المتجنحين” من أنصار دحلان في تنظيم حراك قوي قادر على منع عقد المؤتمر السابع، أو تأجيله على الأقل، أظهر محدودية قدرة دحلان على التشويش على مسار تحكم الرئيس بمفاتيح وقواعد اللعبة في فتح والسلطة، إلا أن القلق كان بادياً من نار تحت رماد الشعور بالغضب والاستياء من أداء الرئيس واللجنة المركزية لدى أوساط واسعة داخل حركة فتح:
– ففي قطاع غزة، حالة من السخط بسبب إهمال متطلبات استنهاض تنظيم فتح في القطاع، والتقصير في معالجة مشكلات القطاع برمته، وضمن ذلك قضية عدم تثبيت آلاف الموظفين ضمن ملف “تفريغات 2005″، إلى جانب فشل جهود المصالحة مع حماس.
– وفي أقاليم فتح في الضفة، كانت تتردد انتقادات إزاء عدم قيادة فتح للحكومة بشكل مباشر، وكيفية التعامل مع ظاهرة انتشار السلاح في المخيمات والترتيبات المؤسسية المتعلقة بموضوع الخلافة، في حالة غياب الرئيس عن المشهد السياسي، ناهيك عن تحميل فتح مسؤولية أداء الحكومة حيال إضرابات المعلمين والتحركات الاحتجاجية، على خلفية قانون الضمان الاجتماعي ومظاهر التوترات الاجتماعية عموماً.
– وفي أقاليم فتح في الخارج، تسود مشاعر تتعلق بإهمال تجمعات الشتات، وإقصاء كوادر تنظيمية وعسكرية تاريخية عن التأثير والتفاعل في الحياة التنظيمية الداخلية وتبوء المناصب في السلطة والسفارات، مع تعالي الأصوات المنتقدة لأداء اللجنة المركزية والمجلس الثوري، وضعف دورهما لصالح تزايد صلاحيات الرئيس في اتخاذ القرار، إضافة إلى المطالبة بمراجعة الإخفاقات في معالجة ملفات المفاوضات ومسار أوسلو والمصالحة، وتراجع مكانة منظمة التحرير.
إن السياق الأكثر تأثيراً في تحديد عضوية المؤتمر ونتائجه تمثل في تفاقم الصراع الداخلي مع تيار دحلان، والقلق من خطة اللجنة الرباعية العربية (مصر، والأردن، والسعودية، والإمارات) لفرض “مصالحات” فلسطينية داخلية تبدأ بعودة دحلان إلى موقعه في اللجنة المركزية
ثالثاً: القيادة تنتخب/ تعيّن ناخبيها:
يعني ذلك أن دوائر المتضررين من استمرار الوضع على حاله كانت تتجه نحو التزايد في ظلّ تآكل شرعية مؤسسات فتح والسلطة والمنظمة. وقد كان للعديد من هؤلاء نصيبهم من الاستبعاد من عضوية المؤتمر السابع، التي تمّ تصميمها على مقاس النتائج المتوخاة؛ أي إعادة ترتيب موازين القوى داخل الهيئات القيادية للحركة بما يخدم تعزيز شرعية الرئيس ودعم السياسة التي يتبعها.
بهذا الصدد، كتب معين الطاهر، قائد الكتيبة الطلابية في لبنان قبل سنة 1982، في مقالة تحت عنوان “مؤتمر فتح نهاية مرحلة وبداية أخرى”: ضمّ المؤتمر نحو 1,400 عضو اختيروا على أساس تمثيلي ووظيفي، وخضعوا لمراحل تصفية متعددة، تحكمت بها التوازنات ورضى الرئيس والتقارير الأمنية، وغَلب عليها مقياس الولاء، واستثناء المعارضة والرأي الآخر، بحجة التخلص من المتجنحين (مجموعة محمد دحلان). كما تميزت بغياب حقيقي لقدامى المناضلين، وتهميش كبير لتمثيل الشتات الفلسطيني، بحيث يصدق عليه القول إنه مؤتمر للسلطة الفلسطينية وكوادرها العاملة. (صحيفة العربي الجديد، 2016/11/30).
أما الكاتب ماجد كيالي، وهو من الكوادر البارزة السابقة في فتح، فقد استعرض تحت عنوان: “ماذا بقي من فتح بعد مؤتمرها السابع؟” (الجزيرة نت، 2016/12/4)، عدة ملاحظات تتعلق بعضوية المؤتمر، ليستنتج أن الأمور وصلت إلى وضع “تقوم فيه قيادة فتح بانتخاب ناخبيها”! ومن أبرز هذه الملاحظات أن حجم تمثيل فلسطينيي الضفة والقطاع، أو تمثيل تنظيم فتح هناك، في المؤتمرين السادس والسابع، كان أكثر بكثير من حجم الفلسطينيين اللاجئين، أو تنظيم فتح في الخارج (بما في ذلك سورية، ولبنان، والأردن، وباقي الدول العربية والأجنبية)، الذي بلغ 128 عضواً من أصل 1,400 عضو، في حين كان حجم هؤلاء أكبر في المؤتمرات الخمس السابقة.
ونوّه إلى أن تمثيل تنظيم فتح في المؤتمر السابع كان ضعيفاً جداً، أي نحو 438 عضواً، يمثلون التنظيم في الداخل والخارج من أصل 1,400، أي أن حجم تمثيل العاملين في الأجهزة أكبر بكثير. كما أن حجم المنتخبين قليل جداً بالقياس لعدد المعينين من قبل القيادة الفتحاوية، إذ لا يزيد عددهم عن 546 عضواً من أصل 1,400 (اللجنة المركزية، المجلس الثوري، ممثلو الأقاليم في الداخل والخارج)، أي أن عدد المعينين نحو 850، مع التأكيد أن عدداً كبيراً من ممثلي الأقاليم يأتي بالتعيين أيضاً؛ وهذا يضمن إعادة تجديد انتخاب الطبقة السياسية المهيمنة في فتح.
وأضاف كيالي: غلب على المؤتمر طابع الموظفين أو العاملين في أجهزة المنظمة والسلطة وفتح في السلكين الأمني والمدني، علماً أن هؤلاء احتلوا تلك المناصب بتعيين من القيادة ذاتها، ما يعني أن هذه حركة بات مسيطر عليها تماماً، وأنها أضحت حزباً للسلطة بكل معنى الكلمة، منهية بذلك عهد الازدواجية بين المقاومة والتسوية، وحركة التحرر والسلطة، والتي كانت طبعت فتح بطابعها سابقاً، أي بعد قيام السلطة؛ في حقبة الرئيس الراحل ياسر عرفات.
جاءت مشاركة حماس في المؤتمر لتعبِّر عن إدراك الحركة للطابع الاستراتيجي للعلاقة مع حركة فتح بقيادة الرئيس عباس
ولفت الانتباه إلى أن حصة بلدان اللجوء (الأردن، ولبنان، وسورية) في المؤتمر هي نحو 3 إلى 4% (45 عضواً فقط)، ما يعكس هامشية مكانة مجتمعات اللاجئين في فتح، كانعكاس لتراجع دور الخارج، وتراجع أهمية قضية اللاجئين في سُلَّم الأولويات لمصلحة خيار الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، على الرغم من دور هذه المجتمعات في نهوض هذه الحركة ومجمل العمل الوطني الفلسطيني.
رابعاً: غطاء فلسطيني ودولي لتجديد “البيعة الفتحاوية”:
كانت عضوية المؤتمر المُشَكَّلة في معظمها من موظفين في السلطة، أو يتقاضون رواتب منها، أساساً في تكريس “مقياس الولاء”، الأمر الذي مكّن الرئيس من تحقيق ما يريد في نصف الساعة الأولى من أعمال المؤتمر، عبر تجديد مبايعته بالتصفيق رئيساً للحركة، وهو ما عُدَّ انتخاباً بالإجماع غابت عنه معايير العملية الانتخابية، إذ إن الرئيس لم يقدم استقالته أصلاً لكي يعاد انتخابه، ولم يفتح الباب للترشح أمام أعضاء المؤتمر، ولو شكلياً، وتمت المبايعة قبل أن يطرح الرئيس رؤيته التي يفترض انتخابه على أساسها. لقد حسم الرئيس شرعية بقائه في منصبه لسنوات قادمة منذ اللحظة الأولى، وأقفل باب التكهنات حول خلافته، في حين وفرت مشاركة نحو 60 وفداً من 28 بلداً عربياً وأجنبياً في افتتاح المؤتمر دعماً لشرعية عقد المؤتمر والنتائج التي ستخرج عنه.
الملفت هو الحرص على توفير الغطاء الفلسطيني لتجديد البيعة الفتحاوية للرئيس وسياسته، وخصوصاً من الطرف الذي يتعرض لأكبر حملة تشكيك من الرئيس ذاته في “شرعية” قيادته للسلطة أو سيطرته على قطاع غزة بعد انتخابات 2006، حيث كان الحضور الأبرز في افتتاح المؤتمر لوفد حركة حماس التي لبت الدعوة للمشاركة في جلسة الافتتاح، وألقى النائب الشيخ أحمد الحاج علي كلمة الحركة نيابة عن رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل، واستهلها بمخاطبة الرئيس عباس بصفاته الثلاث كرئيس لكل من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، والسلطة، وفتح. وأكد مشعل جاهزية حماس لكل مقتضيات الشراكة الوطنية مع فتح وجميع الفصائل والقوى والشخصيات الوطنية (وكالة الصحافة الفلسطينية صفا، 2016/11/29).
جاءت مشاركة حماس في المؤتمر لتعبِّر عن إدراك الحركة للطابع الاستراتيجي للعلاقة مع حركة فتح بقيادة الرئيس عباس، لا سيّما أن تحقيق المصالحة والانخراط في المؤسسات الشرعية الفلسطينية على مستوى المنظمة والسلطة غير متاح إلا بالحوار والتوافق مع فتح التي ما تزال تسيطر على هذه المؤسسات. أما العلاقة مع تيار دحلان، فهي ذات طابع تكتيكي ينطلق من التعامل بحكم الأمر الواقع مع ثقل لا يستهان به لهذا التيار في قطاع غزة، والحرص على استمرار تدفق المساعدات إلى قطاع غزة عبر قناة دحلان، والاستفادة مما قد تفتحه العلاقة معه من نافذة لحركة حماس باتجاه مصر.
في الواقع، مهّدت لمشاركة حماس في مؤتمر فتح، تفاهمات فتحاوية حمساوية تمّ التوصل إليها خلال زيارة قام بها الرئيس إلى كل من تركيا وقطر، وخصوصاً خلال لقائه مشعل، ورئيس الوزراء الأسبق إسماعيل هنية، في الدوحة، يوم 2016/10/27، في حراك كان من بين أهدافه ضمان مغادرة أعضاء المؤتمر السابع من قطاع غزة، والحصول على ضمانات بمنع أي فعاليات احتجاجية لخصوم الرئيس في غزة. وهو ما نجح الرئيس في تحقيقه خلال اللقاء على الرغم من الطابع السلبي الذي خيّم على بحث ملفات المصالحة التي لم يُبدِ الرئيس مرونة إزاءها، بل وعبّر عن تراجع عن تفاهمات سابقة بشأنها، مثل رفضه استئناف عمل المجلس التشريعي، أو التوافق على معايير لمعالجة قضية الموظفين المعينين منذ سنة 2007، والإصرار على التزام حكومة الوحدة الوطنية “بما تلتزم به منظمة التحرير”.
أخفق المؤتمر في أن يشكل محطة لاستنهاض الحركة ويقدم إجابات تتعلق بتحديات الهوية والدور واستراتيجيات العمل الوطني على أساس مراجعة التجربة الماضية، وخصوصاً منذ اتفاق أوسلو، وتحوّل إلى مؤتمر انتخابي بامتياز على حساب النقاش المتعلق بمتطلبات استنهاض الحركة
وبالرغم من الخلافات بشأن هذه الملفات، أكد أمين مقبول، أمين سر المجلس الثوري السابق لحركة فتح، وجود “تطمينات” بالسماح لأعضاء المؤتمر بالدخول والخروج، سواء من قطاع غزة أم الخارج (وكالة سوا الإخبارية، 2016/11/8). كما منعت حماس تنظيم سلسلة من الفعاليات الاحتجاجية التي كان أنصار دحلان يعتزمون تنظيمها بالتزامن مع انعقاد المؤتمر في مقر “المقاطعة” في رام الله (موقع أمد الإخباري، 2016/11/28).
خامساً: رؤية الرئيس والبرنامج السياسي:
تحوّل المؤتمر إلى مهرجان لتجديد البيعة في بثّ مباشر عبر وسائل الإعلام، وخصوصاً عبر شاشة التلفاز الرسمي، على مدى يومين، قبل أن يلقي الرئيس خطاباً استمر نحو ثلاث ساعات، دون أن يوزع جدول أعمال المؤتمر ووثائقه على الأعضاء، بما في ذلك البرنامج السياسي وبرنامج البناء الوطني وتقارير المفوضيات، التي قدمت بعد عرض رؤية الرئيس، واستغرق طرحها ونقاشها يوماً واحداً فقط، تلاه فتح باب الترشح في اليوم الرابع 3 كانون الأول/ ديسمبر، حيث وصل عدد المتنافسين على مقاعد اللجنة المركزية البالغة 18 مقعداً إلى 65 مرشحاً، إضافة إلى 436 متنافساً على مقاعد المجلس الثوري البالغة 80 مقعداً.
وعلى الرغم من عدد من المداخلات التي دعت إلى إحداث تغيير في السياسة المعتمدة، إلا أن ما عرض على المؤتمر، من الناحية العملية —الرؤية التي قدمها الرئيس في خطابه وليس البرنامج السياسي— تضمن مواقف ذات سقف أعلى مما طرحه الرئيس إزاء عدد من القضايا، مثل المفاوضات، وأشكال النضال، والعلاقة مع دولة الاحتلال، ودور السلطة. كما تماهت في الخطاب إنجازات حركة فتح مع إنجازات السلطة، مثل الحديث عن إقامة المستشفيات، وعدد عقارات السفارات المملوكة للسلطة (انظر نصّ خطاب الرئيس، صحيفة الأيام الفلسطينية، 2016/12/1)، في حين خلا الخطاب من أيّ مراجعة نقدية للإخفاقات والمسار السابق.
لقد كان الرئيس انتقائياً في عرض ما يتفق في البرنامج السياسي المقدم للمؤتمر مع سياسته الرامية للحفاظ على الوضع القائم، ويمكن ملاحظة ذلك في قضيتين أساسيتين لا تعكسان تغييراً في سياسة الرئيس، خلافاً لما ورد في البرنامج السياسي، وهما:
1. تأكيد الرئيس الالتزام بعملية السلام والمفاوضات، في حين تضمن البرنامج السياسي محددات ملزمة لأي عملية تفاوضية، وفي مقدمتها التأكيد على أنه “لا يمكن العودة إلى نمط المفاوضات الثنائية الانتقالية تحت الهيمنة الأميركية التي استمرت تحت عباءة اتفاق أوسلو”، إضافة إلى “مواصلة العمل لانعقاد مؤتمر دولي جديد للسلام يضم الطرفين، والعرب، وممثلين عن أوروبا، وممثلين عن دول البركس، يثبت حقوقنا، ويدفع باتجاه مفاوضات سريعة تنتج اتفاقاً للسلام يحقق أهدافنا، واستمرار المفاوضات بعدها برعاية دولية ورفض الرعاية الأحادية الأميركية”، وهي محددات تجاهلتها رؤية الرئيس.
تمكن الرئيس من الحصول على دعم لبرنامجه السياسي على حساب البرنامج السياسي الذي كان أعد ضمن وثائق المؤتمر، وانتخاب أغلبية موالية له في اللجنة المركزية والمجلس الثوري
2. تنويه الرئيس إلى الالتزام بالمقاومة الشعبية ورفض أشكال النضال الأخرى التي يكفلها القانون الدولي للشعوب الخاضعة للاحتلال. وينوه أبراش في مقاله المشار إليه أعلاه إلى أنه “مع أن الرئيس أبو مازن اعترف بفشل عملية التسوية حسب الاتفاقات الموقعة، إلا أنه استمر متمسكاً بنهج السلام والمراهنة على الشرعية الدولية والعامل الخارجي كأساس لقيام دولة فلسطينية. كان الرئيس أبو مازن أكثر وضوحاً وحاسماً دون مواربة في رفضه لنهج المقاومة المسلحة، محذراً من أن تؤدي ممارستها لفوضى شبيهة بفوضى ما يسمى الربيع العربي، وهو في ذلك لم يفرق بين عنف وإرهاب الجماعات المتطرفة التي تقاتل في البلدان العربية، وحقّ الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، وهو حقّ تقره حتى الشرعية الدولية. قطع الرئيس الطريق حتى على المقاومة السلمية مُسَخِّفاً بكل مَن يقول بها، رابطاً بطريقة غير مباشرة بينها وبين الانفلات الأمني” (مصدر سبق ذكره).
في المقابل، أكد البرنامج السياسي على أن “حقّ الشعب الفلسـطيني في ممارسـة الكفاح المسـلح ضدّ الاحتلال لأرضه يبقى حقاً ثابتاً أكدته الشـرائع والقانون الدولي. لكن اختيار أسلوب الكفاح في الزمان والمكان يعتمد على القدرات الذاتية والجماهيرية، وعلى الأوضاع الداخلية والخارجية، وحسـاب معادلات القوى وضرورات الحفاظ على الوطن، وعلى قدرة الشـعب على الثورة والصمود، والاسـتمرار في الكفاح والتصدي”.
شكلت رؤية الرئيس امتداداً للسياسة المعتمدة دون تجديد ذي شأن، أو حتى الاقتراب من قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير الصادرة في آذار/ مارس 2015، والتي أقرت وجوب إعادة النظر في العلاقة مع دولة الاحتلال، ووقف التنسيق الأمني، وإعادة النظر في الاتفاقات الموقعة. وكان واضحاً أن من يصوت لتجديد البيعة لرئيس الحركة بالتصفيق، قبل أن يطرح برنامجه وتصوره السياسي، يصعب عليه الاعتراض لاحقاً على هذا البرنامج، إلى الحد الذي لم يذكر فيه الكفاح المسلح، حتى كمجرد حقّ في ممارسة أشكال المقاومة، في أي من كلمات ومداخلات أعضاء المؤتمر!
سادساً: سيناريوهات ما بعد المؤتمر:
لم يشكل المؤتمر محطة للتجديد في الاستراتيجية المعتمدة، كما ضمت اللجنة المركزية الجديدة 12 عضواً من اللجنة القديمة من أصل 18 عضواً، وسوف ينضم إليهم 4 أعضاء بالتعيين، في حين يتوقع استرضاء بعض الغاضبين بسبب تدني تمثيل قطاع غزة، والقدس، وبعض أقاليم الشتات، بتعيينات مدروسة في المجلس الثوري.
ومع ذلك، نجح الرئيس في توجيه ضربة قوية لتيار دحلان، تمهد لاستكمال بعض الإجراءات لإقصاء بعض المحسوبين على هذا التيار من الحياة السياسية، باللجوء إلى تجهيز “ملفات فساد” مصممة لاستبعادهم، وتقديمها إلى المحاكم. كما استبعد العديد من المناوئين والمنتقدين لسياساته، وخصوصاً المحسوبين على حقبة الرئيس عرفات. ولم يبقَ في قيادة الحركة من الجيل المؤسس سوى الرئيس نفسه، بعد منح زملائه المؤسسين الثلاثة محمد غنيم (أبو ماهر)، وسليم الزعنون (أبو الأديب)، وفاروق القدومي (أبو اللطف)، عضوية فخرية في اللجنة المركزية.
بدا الرئيس كمن يسمو على كل الصراعات، بل ويخرج أكثر قوة كلما تفاقمت الخلافات والتصدعات، في مفارقة لا سابق لها تتحول فيها الشقاقات بدلاً من الوحدة إلى مصدر لتعزيز “الشرعية”
لكن حركة فتح التي بات يطلق عليها “حزب السلطة” أو “حزب الموظفين” ذوي المصلحة في بقاء الوضع القائم على حاله، بما في ذلك السلطة وشكلها ووظائفها الحالية، باتت أكثر ضعفاً في مواجهة التحديات الكبرى التي تنتظرها على مستوى مدى القدرة على صيانة تماسك صفوفها، وعلى مستوى الصراع مع الاحتلال في ظلّ اندفاع حكومة اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو في تعميق الاحتلال والاستيطان، والقضاء على أيّ فرصة لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود سنة 1967 وعاصمتها القدس، إضافة إلى سعي “إسرائيل” لتوظيف المتغيرات الإقليمية لصالح تهميش القضية الفلسطينية، والرهان على الاستفادة من فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة لخدمة الاندفاع في توسيع الاستيطان وتبني المقاربة الإسرائيلية للحل القائم على الضمّ الزاحف والمعلن لأجزاء واسعة من المنطقة المصنفة ج.
ثمة عوامل مؤثرة في السيناريوهات المحتملة بالنسبة لأوضاع حركة فتح الداخلية، إذ باتت هناك ثلاث كتل يتوقف على طريقة تصرفها مدى النجاح في رصّ صفوف الحركة أو توسيع الخلافات والتصدعات الداخلية:
الكتلة الأولى: هي فتح بهيئاتها المنتخبة، وخصوصاً اللجنة المركزية، التي لا يعرف ما إذا كانت سوف تعتمد نهجاً قائماً على التجميع وليس التفريق، من حيث إعادة الانفتاح على عشرات القادة والكوادر ممن اتخذت بحقهم إجراءات على خلفية “التجنح”، وكذلك الغاضبين من استبعادهم من عضوية المؤتمر. وعلى الرغم من أن الرئيس عزّز من موقعه بصفته “المايسترو” القادر على التحكم بإيقاع ومنسوب الصراعات الداخلية على مواقع القوة والنفوذ، ومن ضمنها التنافس على موقعي نائب رئيس الحركة، وأمين السر، إلا أن ذلك لا يلغي إمكانية استمرار الاستقطابات الداخلية على خلفية التنافس على هذه المواقع، وتوزيع المسؤوليات والمهمات داخل اللجنة المركزية، بما يضعف مستوى تماسك أداء اللجنة، دون أن تشهد تأزماً يهدد وحدتها في المدى المنظور، طالما أن موضوع الخلافة بات مؤجلاً إلى حين.
الكتلة الثانية: هي المئات من المصنفين ضمن الجيلين الثاني والثالث في الحركة اللذين لم يعودا ضمن الهيئات القيادية، وربما خارج المجلس الاستشاري للحركة، لكن معظم هؤلاء يفضلون البقاء ضمن صفوف الحركة، وانتظار الترتيبات المحتملة لإعادة توزيع وتدوير المناصب على مستوى السلطة، وعضوية فتح في المجلس الوطني، والمجلس المركزي، واللجنة التنفيذية، في حالة نجاح الرئيس بعقد المجلس الوطني. ويمكن أن يشكل جزء كبير من الكوادر التاريخية ضمن هذه الكتلة عامل ضغط إيجابياً للدفع باتجاه الحفاظ على طابع فتح كحركة تحرر وطني في مواجهة مجموعات المصالح المرتبطة ببقاء السلطة على حالها.
ثمة دينامية للصراع يفرضها اندفاع اليمين الصهيوني في تعميق الاحتلال والاستيطان والرهان على دعم غير مسبوق من إدارة ترامب، وهو ما يبقي الباب مفتوحاً باتجاه فرض متغيرات على السياسة التي يمكن أن تعتمدها حركة فتح والقيادة الفلسطينية عموماً
الكتلة الثالثة: تيار دحلان الذي يطلق على نفسه “التيار الإصلاحي الديمقراطي”، ويحظى بدعم من أطراف عربية، ويستعد لمواصلة خطواته انطلاقاً من رفض التسليم بشرعية المؤتمر السابع ونتائجه. صحيح أن هذا التيار تلقى ضربة قوية بانعقاد المؤتمر ونتائجه، لكنها لم تكن قاضية، وهو يقف اليوم أمام خيارين: استمرار العمل تحت اسم فتح في حالة أقرب إلى الانشقاق بعد استبعاده من صفوف الحركة، ما يعني إيجاد حالة من التنازع على الشرعية والخلافة على الرغم من صعوبة تحقيقه نجاحات تذكر على صعيد التشكيك بنتائج المؤتمر وشرعية الرئيس، أو العمل ضمن إطار سياسي جديد، مما يقضي على فرص استمرار استقطاب عدد كبير ممن يعدُّون أنفسهم أبناء لحركة فتح تاريخياً، وكذلك صعوبة التأثير في الحياة السياسية الفلسطينية طالما أن هذا التيار لا يطرح برنامجاً سياسياً يختلف عما تتبناه فتح ورئيسها.
كما أن هذا التيار يعتاش على دعم خارجي تحفزه المخاوف من اليوم التالي لغياب الرئيس، لكن تشكيل حركة سياسية جديدة يضعف هذا الدعم، لأنه يعني أن دحلان بات خارج فتح التي توفر المنظومة اللازمة لفتح الطريق أمام رئاسة منظمة التحرير، وربما السلطة.
هناك خيار آخر أمام هذا التيار يدعو له بعض أقطابه، وهو الاستعداد منذ اللحظة الراهنة لتشكيل قوائم انتخابية قادرة على منافسة قوائم فتح الرسمية في أي انتخابات قادمة، سواء للرئاسة والمجلس التشريعي، أم للانتخابات المحلية. وهو احتمال مثير لقلق الرئيس ويستعد لمواجهته بتوجيه ”ضربات استباقية“ لشخصيات فتحاوية تخرجها من حلبة المنافسة في حال إجراء الانتخابات.
يصعب تقدير السيناريو المرجح الآن، لا سيّما أن تيار دحلان الذي تراجع عن فكرة عقد مؤتمر سابع مواز، ما يزال يفكر بعقد لقاء تشاوري موسع للبحث في الخطوات اللاحقة. غير أن ما يبدو واضحاً أن قدرة هذا التيار على مناهضة الرئيس وفتح، ما بعد المؤتمر السابع انطلاقاً من ذات البرنامج السياسي، سوف تُضيّق هامش الاستقطاب المحتمل لمزيد من المناصرين، وخصوصاً أن مسودة الوثيقة المعدة للنقاش في هذا اللقاء التشاوري تحت عنوان “الرؤية الوطنية والسياسية .. التيار الإصلاحي الديمقراطي”، والتي أتيحت للكاتب فرصة الاطلاع عليها، لا تشير إلى طرح رؤية جديدة “لتصحيح مسارات الصراع”، و”إعادة ترتيب الأولويات الفلسطينية” كما يرد في نصها، بل إن سقفها السياسي في نقاط أساسية أدنى من البرنامج السياسي للمؤتمر السابع، وكذلك من الرؤية التي طرحها الرئيس نفسه.
وعلى الرغم من أن الوثيقة تدعو إلى “مؤتمر إنقاذ وطني فلسطيني للمصارحة والمصالحة والاتفاق”، بمشاركة كافة الفصائل، والمنظمات الأهلية، والنقابات، وتجمعات المستقلين، والكفاءات الوطنية، “على أن يكون برعاية عربية وتكون نتائجه ملزمة لجميع الأطراف”، إلا أنه من المشكوك فيه أن تشكل الرؤية التي تتضمنها أساساً لمؤتمر وطني تُوافق هذه المكونات على المشاركة فيه.
سابعاً: استنتاجات وتوصيات:
1. ثمة دينامية للصراع يفرضها اندفاع اليمين الصهيوني في تعميق الاحتلال والاستيطان والرهان على دعم غير مسبوق من إدارة ترامب، وهو ما يبقي الباب مفتوحاً باتجاه فرض متغيرات على السياسة التي يمكن أن تعتمدها حركة فتح والقيادة الفلسطينية عموماً، وبشكل خاص من حيث فرض مسار من المواجهة السياسية والميدانية مع قوات الاحتلال والمستوطنين، والحاجة إلى توفير متطلبات هذا التحول في الاستراتيجية الفلسطينية، وفي مقدمتها إعادة بناء الوحدة الوطنية على مستوى المنظمة والسلطة.
بالقدر الذي يُعدُّ فيه انعقاد المؤتمر العام السابع لحركة فتح انتصاراً للرئيس عباس، فإنه يُعدُّ أيضاً انتصاراً للموالين لخيارات الرئيس من أصحاب المصالح المرتبطة ببقاء السلطة التي يمسك الرئيس بزمامها
2. لذلك، يبقى سيناريو التغيير في سياسة حركة فتح باتجاه استعادة إطار التحرر الوطني قائماً، بطريقة قد تعلي من وزن الدور الذي قد يدفع باتجاهه عدد من المناضلين المؤمنين باستعادة مكانة فتح كحركة تحرر وطني، سواء من بين أعضاء اللجنة المركزية الجديدة والمجلس الثوري، أم مئات الكوادر من مناضلي الحركة في الوطن والشتات، ممن يمتلكون رؤية نقدية للمسار السابق ومتطلبات الخروج من المأزق الراهن.
3. إن ترجيح التحول باتجاه هذا السيناريو لا يمكن أن يبقى مرهوناً بانتظار ردود أفعال الاحتلال ومستوى تطور الصراع على الأرض، بل يتطلب المبادرة من فصائل العمل الوطني والإسلامي، والمناضلين من قادة فتح، إلى الدعوة للانخراط في ورشة عمل وطنية لتصحيح المسار الاستراتيجي، عبر حوار وطني شامل، قبل عقد المجلس الوطني، يركز على أسس ومتطلبات إعادة بناء الوحدة الوطنية في إطار منظمة التحرير على أساس برنامج سياسي توافقي، وتشكيل قيادة واحدة، والتوافق على أسس الشراكة الوطنية، بمشاركة الجميع دون إقصاء، وإعادة توحيد المؤسسات المدنية والأمنية للسلطة على قاعدة تحديد العلاقة مع دولة الاحتلال والخروج التدريجي من اتفاق أوسلو وملاحقه، وإعادة النظر في دورها ووظائفها وتصحيح علاقتها بالمنظمة لتصبح سلطة معنية بتقديم الخدمات للمواطنين، وبحيث تكون الانتخابات تتويجاً للتوافق الوطني على ما سبق.
4. إن ما سبق يتطلب من اللجنة المركزية لحركة فتح الارتقاء إلى مستوى المسؤوليات التي يفرضها استمرار هيمنة الحركة على المؤسسات الوطنية، وفي مقدمتها تغليب متطلبات الصراع مع الاحتلال على الصراع على مواقع القوة والنفوذ في سلطة يسعى الاحتلال لتكريس دورها كوكيل أمني وإداري واقتصادي لسلطة الاحتلال.
5. وهو ما يتطلب التركيز على تبني برنامج عمل لإعادة استنهاض فتح كحركة تحرر وطني وتصحيح مسار الصراع مع الاحتلال، ووقف تماهي الحركة مع السلطة، وإحياء دور المؤسسات الوطنية في ضمان انتقال الخلافة ما بعد غياب الرئيس عن المشهد السياسي لسبب أو لآخر، واعتماد سياسة الانفتاح على جميع أعضاء الحركة بما يصون وحدتها وتعدديتها، ويقطع الطريق على أي تدخلات في شؤونها الداخلية، ويعزز دورها في الحفاظ على القرار الفلسطيني المستقل.