عن عمر يناهز 83 عامًا غادر رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام والرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الحياة، مساء أمس الأحد، داخل أحد مستشفيات طهران، إثر تعرضه لسكتة قلبية مفاجئة.
صانع الملوك، وملك الفستق، والصندوق الأسود للدولة الإسلامية، هكذا كان يلقب رفسنجاني الأب الروحي لتيار الاعتدال في إيران، والذي يضم أبرز الوجوه المعتدلة من كلا التيارين المحافظ والإصلاحي، حيث تسببت وفاته في إحداث زلزال مدوٍ داخل الأوساط السياسية الوسطية الإيرانية، لا سيما الرئيس الحالي حسن روحاني.
نشأته
ولد علي أكبر بهرماني، والملقب بعلي أكبر هاشمي رفسنجاني، في الخامس والعشرين من شهر أغسطس 1934م، لأب ميسور الحال، وأحد أبرز تجار الفستق في إيران، بقرية بهرمان، إحدى ضواحي مدينة رفسنجان – التي نُسب إليها – بمحافظة كرمان، جنوب شرق البلاد.
بدأ رفسنجاني حياته الدراسية بالالتحاق بمدرسة دينية محلية في قريته، إلى أن أتم عامه الرابع عشر، ليغادرها متوجهًا إلى مدينة “قم” ذات المكانة المقدسة لدى الإيرانيين، لإكمال دراسته في الحوزة الدينية للمدينة على أيدي كبار العلماء آنذاك مثل آية الله حسين البروجردي، وقائد الثورة الإسلامية الراحل الخميني، حتى تخرج في نهاية الخمسينيات برتبة “حجة الإسلام” وهو مستوى أقل من “آية الله” بدرجة واحدة.
بداياته السياسية.. الخميني كلمة السر
في السابعة والعشرين من عمره، بدأت إرهاصات الشغف السياسي عند رفسنجاني، ويعد عام 1961 هو البداية الحقيقية لانخراطه في العمل السياسي الجاد، حين تقرب بشكل ملحوظ من أستاذه الخميني، ليصبح في وقت قصير أحد أنصاره المقربين، فضلاً عن قدرته على نيل ثقته، وهو ما تمثل في رأي الخميني فيه أكثر من مرة، حيث اعتبره أحد أعمدة الثورة المركزية، “الثورة حية ما دام رفسنجاني حيًا”، و”الثورة بخير ما دام رفسنجاني بخير”.
ظل رفسنجاني ظل الخميني أينما ذهب لفترات طويلة، إلى أن أُجبر الأخير على مغادرة البلاد بعد تأزم الموقف بينه وبين الشاة محمد رضا بهلوي، ليتولى بعدها رفسنجاني القوى المؤيدة للخميني في إيران، وصوته في الداخل، وهو ما تسبب في اعتقاله 7 مرات من قبل جهاز الاستخبارات الإيراني (السافاك)، حُبس خلالها 4 سنوات وخمسة أشهر.
بعد وفاة الخميني في 1989 دفعت الخبرات السياسية والقيادية لرفسنجاني في تقلد العديد من المناصب الهامة في الدولة
وبعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران 1979، والإطاحة بالشاة، وعودة الخميني إلى البلاد كزعيم روحي للبلاد عقب الاستفتاء الذي حول إيران من دولة ملكية إلى جمهورية إسلامية، بات رفسنجاني اللاعب الأبرز على الساحة السياسية حينها، وساعده قربه من قائد الثورة على تقلد العديد من المناصب تقديرًا لدوره في إنجاح الثورة على مدار سنوات عدة.
وبعد وفاة الخميني في 1989 دفعت الخبرات السياسية والقيادية لرفسنجاني في تقلد العديد من المناصب الهامة في الدولة، بدءًا برئاسة البرلمان دورتين متتاليتين من عام 1980 إلى عام 1988، ليتولى بعدها مباشرة رئاسة البلاد خلال الفترة من 1989 وحتى 1997م، كما تولى رئاسة مجلس خبراء القيادة، الذي يتمتع بنفوذ قوي في قيادة العملية السياسية في إيران، وذلك في أعوام 1982، 1990، 1998، 2006، 2016.
رفسنجاني مع الخميني
إيران من الثورة إلى الدولة
خلال الثماني سنوات التي تقلد فيها رفسنجاني منصب الرئيس، نجح في عبور الدولة من مفهوم (إيران الثورة) إلى (إيران الدولة)، داخليًا وخارجيًا، حيث رفع شعار البناء والتعمير، وضرورة إعادة النظر في مسائل التنمية الاقتصادية المتبعة، ومحاولة النهوض بالدولة الإسلامية اقتصاديًا وسياسيًا، لكن جاءت هذه المحاولة بخطوات بطيئة في ظل انخفاض منسوب الحريات وحقوق الإنسان حينها، وهو ما تسبب في شن العديد من الحملات ضده.
وخارجيًا، سعى إلى إعادة انفتاح إيران على العالم من جديد، ومحاولة البحث عن دور إقليمي يتناسب وطموحاته الشخصية، فبدأ بالتودد إلى الخارج من خلال تعليق فكرة تصدير الثورة الإيرانية، وعلى الرغم من الهجوم الذي تعرض له بسبب هذه السياسة الجديدة، واتهامات “دفن الثورة”، أصر على المضي في هذا التوجه من أجل إعادة بناء وصياغة دور إقليمي ودولي مناسب لإيران.
وكانت زيارته إلى موسكو بعد أقل من شهر من وفاة الخميني محاولة للانفتاح على أكثر من جهة، رغم ما قيل آنذاك من أن وصية الإمام الخميني تضمنت هجومًا عنيفًا على موسكو، هذا بالإضافة إلى إعلانه أن الثورة “ليست للتصدير”.
خلال الثماني سنوات التي تقلد فيها رفسنجاني منصب الرئيس، نجح في عبور الدولة من مفهوم (إيران الثورة) إلى (إيران الدولة)، داخليًا وخارجيًا
الحرب العراقية الإيرانية.. جواز سفر للعالمية
كانت الحرب العراقية الإيرانية جواز سفر علي أكبر هاشمي رفسنجاني للتعريف به دوليًا، حيث كان له الدور المحوري في إنهاء هذه الحرب المستعرة بين الدولتين طيلة ثماني سنوات، حين عيًنه الخميني أواخر تلك الحرب التي انتهت في 1988 قائمًا بأعمال قائد القوات المسلحة.
ينظر لرفسنجاني كونه القوة المحركة التي أدت إلى قبول إيران لقرار مجلس الأمن الدولي الذي أنهى الحرب مع العراق، نظرًا لما قدمه من مقترحات سياسية حينها، وكما يقول المؤرخون إنه أقنع الخميني بإنهاء هذه الحرب، ومحاولة العمل على إيجاد دور إقليمي لإيران، والبحث عن شراكات دولية جديدة.
رسالة من صدام حسين لرفسنجاني عقب انتهاء الحرب العراقية الإيرانية
العلاقات مع السعودية وأمريكا
سعى رفسنجاني إلى التمرد على بعض ثوابت ومعتقدات الثورة الإيرانية فيما يتعلق بنظرتها لبعض الدول الخارجية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية، حيث عمل منذ الوهلة الاولى لتوليه أمور الرئاسة على فتح قنوات اتصال مع الدولتين.
وقد عرف عنه صفة البراجماتية في عمله، فشعارات الثورة الإسلامية التي يعد رفسنجاني أحد أبنائها تنعت أمريكا بـ”الشيطان الأكبر”، غير أن من أوائل القرارات التي اتخذها عندما انتخب رئيسًا، هي التفاوض من تحت الطاولة مع الولايات المتحدة، بهدف فتح الطريق أمام عودة العلاقات ومن ثم السماح بتبادل الاستثمارات بين البلدين، وتعد فضيحة “إيران جيت” حين قامت إدارة رونالد ريغان سرًا ببيع أسلحة لإيران لقاء الإفراج عن رهائن غربيين في لبنان، أكبر تجسيد على هذه السياسة الانفتاحية الجديدة.
أما على المستوى السعودي، فقد كانت علاقات رفسنجاني مع السعودية شخصية ومميزة أيضًا، فهو الذي قام بزيارة تاريخية إلى المملكة خلال دورته الرئاسية، كما زار الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، منزل رفسنجاني لدى زيارته التاريخية لإيران عندما كان وليًا للعهد.
يذكر أن أكبر رفسنجاني قد دعا في تصريحات له عام 2013، حكومة الرئيس حسن روحاني إلى المسارعة في تحسين العلاقات مع السعودية، وأكد أنه مستعد للعب دور مهم في ذلك، انطلاقًا من علاقاته المميزة مع الرياض، ملفتًا أن بذل هذه الجهود رهن بقرار من قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بشأن إزالة التوتر وكيفية التعامل مع السعودية على أساس سياسة “الربح لكلا الطرفين”.
أما على المستوى السعودي، فقد كانت علاقات رفسنجاني مع السعودية شخصية ومميزة أيضًا، فهو الذي قام بزيارة تاريخية إلى المملكة خلال دورته الرئاسية، كما زار الملك السعودي الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، منزل رفسنجاني لدى زيارته التاريخية لإيران عندما كان وليًا للعهد
وقال معلقًا على الاتفاق النووي الذي توصلت إليه بلاده مع القوى الكبرى في جنيف: “إن هذا الاتفاق غير موجه ضد دول المنطقة، وستكون نتائجه مفيدة للجميع، ويجب على حكومة الرئيس حسن روحاني المسارعة إلى طمأنة الرياض وإزالة أي شكل من أشكال التوتر معها”.
وسبق لرفسنجاني أن قال في مناسبة سابقة: “لو كانت علاقاتنا جيدة مع السعودية لما كان في وسع الغرب أن يفرض علينا عقوبات نفطية”، مضيفًا: “وحدها السعودية تستطيع أن تحل مكاننا، وإذا كانت تنتج النفط طبقًا لحصتها (وليس أكثر من حصتها)، لا يستطيع أحد في العالم أن يعتدي علينا”، وتابع: “لا نريد من السعودية فعل أي شيء إلا إنتاج حصتها من النفط في أوبك، حينها لا يستطيع أحد الاعتداء علينا، لأن العالم لا يمكنه التخلي عن إنتاجنا النفطي، أتصور أننا ما زلنا نستطيع بناء علاقات معها”، وتابع: “لكن كما ترون هنالك من لا يرغب في إيران في ذلك”.
خلال استقبال العاهل السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز لرفسنجاني في السعودية
الموقف من سوريا والتغريد خارج السرب
على عكس الموقف الإيراني الداعم لسياسات بشار الأسد وجرائمه في حق السوريين، غرد رفسنجاني خارج السرب، حين اتهم النظام السوري بضرب شعبه بالكيماوي، وهي المرة الأولى التي يتهم فيها مسؤول إيراني رفيع المستوى نظام بشار الأسد الحليف الأول لطهران باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد شعبه.
وقد صرح قائلاً: “منذ عامين والشعب السوري يتلقى الأضرار والسجون مليئة بالناس، وتم تحويل الملاعب إلى سجون وقُتل ما يزيد على 100 ألف شخص وتشرد الملايين، الأمر الذي يظهر الوضع المأساوي في سوريا”، مؤكدًا أن الشعب تعرّض إلى هجوم كيماوي من قبل حكومته التي عليها أن تنتظر الهجوم الخارجي.
على عكس الموقف الإيراني الداعم لسياسات بشار الأسد وجرائمه في حق السوريين، غرد رفسنجاني خارج السرب، حين اتهم النظام السوري بضرب شعبه بالكيماوي
ورغم تصريحاته المتهجمة على النظام السوري فإن علي أكبر هاشمي رفسنجاني بدا رافضًا لفكرة الضربة العسكرية ضد سوريا مبررًا ذلك من إمكانية إدخالها المنطقة بأسرها في صراع، وأضاف مدافعًا عن موقفه: “يبدو أن الهدف الرئيس من المغامرة الأمريكية في المنطقة لا تقتصر على سوريا وإنما ستشمل المنطقة بأسرها، وأن لعبة الولايات المتحدة في إثارة الحروب قد تشمل الجميع، وواشنطن لن تكون قادرة على إنهائها كما تعتقد”.
مؤسس تيار الاعتدال
“القران الكريم يؤكد أن لا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم إلا أننا تجاهلنا هذه الآية وقمنا بإثارة الخلافات بين المسلمين الشيعة والسنة” بهذه الكلمات استهل علي أكبر رفسنجاني، حديثه معلقًا على احتفال الإيرانيين بيوم مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، حيث انتقد سب الصحابة والتطاول عليهم، لافتًا إلى أن ذلك قاد إلى ظهور تنظيمات إرهابية كـ”القاعدة” و”تنظيم الدولة الإسلامية” المعروف بداعش.
يعد رفسنجاني أحد أبرز مؤسسي تيار الاعتدال والوسطية في إيران، كما أنه من الصعب أن يُحسب على تيار معين داخل الدولة الإسلامية، فتجربته ومواقفه السياسية لا تسمحان بتصنيفه كمحافظ أو إصلاحي
وأضاف رفسنجاني: نحن أمة المليار و700 مليون مسلم نمتلك ستين دولة مستقلة، يمكنها أن تكون أعتى قوة في العالم، لكن هذه الأعمال أضعفتها أمام الدول الأخرى، مطالبًا بنبذ التطرف ومحاولات الفرقة بين السنة والشيعة، وضرورة فتح قنوات تواصل على أسس مشتركة من أجل وحدة المسلمين.
يعد رفسنجاني أحد أبرز مؤسسي تيار الاعتدال والوسطية في إيران، كما أنه من الصعب أن يُحسب على تيار معين داخل الدولة الإسلامية، فتجربته ومواقفه السياسية لا تسمحان بتصنيفه كمحافظ أو إصلاحي، لهذا، بات الرجل ظاهرة تلتف حولها شخصيات من كل التيارات السياسية الإيرانية، إذ إنّه يمثل خط الاعتدال في السياسة والدين على حدّ سواء.
صانع الملوك وعرّاب التفاوض
كان لمكانة رفسنجاني السياسية والقيادية في إيران، وما تمخض عنها من شعبية وتأثير قوي في الشارع السياسي الإيراني، دور بارز في دعم بعض الوجوه على حساب آخرى، لذا فقد لقب بـ”صانع الملوك”، نظرًا للدور البارز له في وصول المرشد العام علي خامنئي إلى منصبه بعد وفاة الخميني عام 1989 وتبوأ الإصلاحي محمد خاتمي الرئاسة في العام 1997، إضافة إلى دوره في تعيين مناصب رئيس فيلق القدس ورئيس أركان الحرب ورئيس الاستخبارات.
وينظر البعض له كونه واجهة إيران المعتدلة، القادرة على تحقيق الثنائية المتناقضة بامتياز، ففي الوقت الذي رفعت فيه الثورة الإسلامية الذي هو أحد أبنائها شعاري “الثورة الإسلامية الدائمة وضرورة تصديرها” و”مواجهة الشيطان الأكبر بالجهاد الأكبر”، كان رفسنجاني عراب التفاوض مع الأمريكان من تحت الطاولة، فضلاً عن تحفظه على فكرة تصدير الثورة في محاولة لطمأنة دول الجوار وفتح قنوات اتصال معهم بما يحقق المصلحة الإيرانية إقليميًا ودوليًا.
مع الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني
الفساد.. أبرز التهم
تعرض رفسنجاني للعديد من التهم التي تسببت في عزلته سياسيًا لعدة سنوات، كان أبرزها اتهامه بالتورط في قضايا فساد، واستغلال نفوذه من أجل التربح الشخصي، وهو ما تسبب بحسب خبراء في خسارته للانتخابات الرئاسية عام 2005 أمام خصمه محمود أحمدي نجاد، كما اتهم بمحاولة تأجيج الأوضاع الداخلية وإثارة القلاقل في البلاد.
وفي عام 2012، اعتقلت ابنته فائزة رفسنجاني بتهمة “ترويج دعاية معادية للحكومة” خلال حملة 2009 الانتخابية، وحكم عليها بالسجن لمدة 6 شهور، ويقول محللون إن سجنها كان يهدف إلى الضغط على رفسنجاني، وفي نفس العام تم اعتقال ابنه مهدي لدى عودته إلى إيران بعد غياب دام 3 سنوات، وحكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات بتهم تتعلق بالفساد والخروقات الأمنية، وفي عام 2013، قرر مجلس صيانة الدستور إقصاء رفسنجاني من الترشح للانتخابات الرئاسية.
تعرض رفسنجاني للعديد من التهم التي تسببت في عزلته سياسيًا لعدة سنوات، كان أبرزها اتهامه بالتورط في قضايا فساد، واستغلال نفوذه من أجل التربح الشخصي
حسن روحاني..الخاسر الأكبر
على الرغم من الخسارة التي قد تسببها وفاة رفسنجاني للتيار المعتدل داخل إيران بصورة عامة، فإن الخسارة الأكبر ستكون من نصيب الرئيس الحالي حسن روحاني، فهو الذي منحه الدعم المطلق منذ انتخابات 2013، فضلاً عن مؤازرته له في إبرام الاتفاق النووي مع القوى الدولية في العام الماضي، مما يجعل من وفاته ضربة قوية لروحاني، وهو الذي يعد نفسه للترشح لفترة رئاسية ثانية في مايو المقبل، حيث خسر حليفًا ثمينًا، وداعمًا كان بمقدوره أن يبقيه في منصبه لفترة جديدة.
التقارب بين رفسنجاني وروحاني تجسد في العديد من الصور والمشاهد، حيث كان الأخير أول مسؤول بارز داخل البلاد يصل إلى المستشفى التي توفى فيه رفسنجاني حين علم بالخبر، وتقول بعض التقارير أن روحاني أجهش بالبكاء حزنًا على حليفه السياسي.