حلّقت أسهم البنوك التركية عند أعلى مستوياتها على الإطلاق خلال شهر أغسطس/آب الحاليّ، بعدما رفعت وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني نظرتها للقطاع المصرفي في البلاد، من سلبية إلى مستقرة، وعوّض مؤشر القطاع المصرفي في بورصة إسطنبول (يتتبع أسهم البنوك المدرجة في تركيا) جميع خسائره، مرتفعًا لأعلى مستوى إغلاق.
كان لهذه الخطوة ما يبررها، عندما قالت وكالة “موديز” إن: “السياسات النقدية التركية التي تم تطبيقها بعد الانتخابات العامة – الرئاسية والتشريعية – في مايو/أيار الماضي، كانت إيجابية، وتنعكس على أعمال البنوك، رغم أن التضخم المرتفع والليرة الضعيفة قد يبطئان النمو الاقتصادي من 5.6% في العام الماضي إلى 4.2% في نهاية العام الحاليّ”.
قبل ساعات من إعلان تصنيف “موديز”، كشف وزير المالية والخزانة التركي محمد شيمشك، عن “تحول الموازنة العامة من العجز إلى تحقيق فائض في شهر يوليو/تموز الماضي، مع نمو الدخل القومي بنسبة 156% خلال الشهر نفسه، ما أتاح للحكومة تسجيل فائض قدره 48.6 مليار ليرة، تعادل 1.8 مليار دولار، مقارنة بعجز يناهز 220 مليار ليرة في الشهر السابق”.
لكن منذ 20 أغسطس/آب الحاليّ، تراجع مؤشر بورصة إسطنبول للبنوك، عقب القرار الجديد بإنهاء آلية الودائع المحمية، وهي أداة معمول بها منذ نحو 17 شهرًا، لدعم الليرة التركية، بالتزامن مع مواصلة رفع أسعار الفائدة، ما تسبب في انخفاض قيمة الليرة بنسبة 0.2% أمام الدولار وانخفاض عائد السندات الحكومية التركية لأجل 10 سنوات!
الودائع المحمية
الودائع المحمية (KKM) آلية يُعمل بها منذ نهاية عام 2021، بهدف حماية العملة المحلية (الليرة) من تقلبات الأسعار في أسواق صرف العملات، عبر توفير الحماية المصرفية من خلال البنك المركزي التركي، للمودعين، وحصولهم على فائدة معلنة، مع فرق سعر الدولار بين وقتي الإيداع والسحب.
تزايد الطلب على حسابات الليرة المؤمنة بسبب المحفزات المالية حينها خاصة مع الفائدة الممنوحة
بدأ مسلسل تراجع سعر صرف الليرة التركية منذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، ولمواجهة هذا التحدي وما يتبعه من انعكاسات سلبية، فكرت الحكومة في خطة الودائع المحمية بهدف تعزيز الثقة في الليرة، عن طريق دفع جموع المدخرين لفتح حسابات بالعملة المحلية أو تحويل ودائعهم بالدولار إلى الليرة.
تزايد الطلب بسبب المحفزات المالية، حينها، على حسابات الليرة المؤمنة، خاصة مع الفائدة الممنوحة، ما أدى إلى ارتفاع إجمالي هذا النوع من الحسابات المصرفية، ووفق وكالة التنظيم والرقابة المصرفية التركية “تجاوزت الودائع المؤمنة حاجز الـ3 تريليونات ليرة تركية” قبل أن تعادل الـ116 مليار دولار أمريكي.
عززت التطورات المتلاحقة، في بداية تطبيق خطة الودائع المحمية، إجمالي الودائع في النظام المصرفي التركي، إذ بلغت 12.5 تريليون ليرة، مع ارتفاع قيمة القروض التي قدمتها المصارف المحلية، وحينها قال وزير الخزانة والمالية التركي، نور الدين نباتي: “الودائع المحمية أثرت إيجابًا على الموازنة الاقتصادية الكلية، ولعبت دورًا مهمًا في نمو الاقتصاد الوطني”.
شكلت عائدات الودائع المحمية عبئًا على الخزانة بشكل متزايد، بسبب فروق سعر الصرف وتلبية حقوق الشركات والأفراد أصحاب هذا النوع من الودائع
ونبه الوزير السابق إلى “النتائج الإيجابية للنموذج الاقتصادي القائم على: الاستثمار، الإنتاج، التوظيف، التصدير، ،النمو، في التراجع النسبي لمعدلات التضخم، وزيادة معدلات النمو” بالتزامن مع تقديرات تقول إن قيمة الودائع المحمية، نحو ربع إجمالي الودائع المصرفية في تركيا.
تداعيات اقتصادية
كانت خطة الودائع المحمية التي لجأت إليها الجهات المعنية في تركيا جزءًا من سياسة حماية الليرة وكبح ظاهرة “دولرة الاقتصاد”، لكن كانت لها تداعيات كالالتزام بفوائد سنوية (تتراوح من 14 إلى 17%) وتعويض المدخرين إذا كان العائد أقل من المكاسب التي كان بإمكانهم تحقيقها بمجرد شراء وبيع العملات الأجنبية، بدلًا منها.
طبقًا لخطة الودائع المحمية، فإنه في حال انخفاض قيمة الليرة بأكثر من معدل الفائدة على الوديعة، تدفع الخزانة العامة التركية الفرق للمجموعة الأولى، على أن يتكفل البنك المركزي بتعويض المجموعة الثانية، بمعنى آخر، سداد البنوك فارق سعر صرف الدولار خلال مدة الوديعة، كل 3 أو 6 أو 12 شهرًا.
كان 22 يونيو/حزيران الماضي، يومًا فاصلًا بين مرحلتين اقتصاديتين، خلال الـ5 سنوات الماضية، بعدما كشف البنك المركزي التركي عن بدء التشديد النقدي
لكن كانت هناك إشكالية تتمثل في تغطية تكاليف (فوائد) الودائع المحمية، خاصة مع ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الليرة، وزيادة التكاليف المستحقة على الخزانة العامة، والتزام البنك المركزي بتغطية الفجوة، فإذا كان معدل الفائدة السنوي للوديعة 20%، فإن وزارة الخزانة تتحمل نحو 200 مليار ليرة كـ”أعباء مالية”.
شكلت عائدات الودائع المحمية عبئًا على الخزانة بشكل متزايد، بسبب فروق سعر الصرف وتلبية حقوق الشركات والأفراد أصحاب هذا النوع من الودائع، حيث تم رفع مخصصات موازنة الإدارة الحكومة من تريليون و750 مليار ليرة إلى 1.08 مليار ليرة، وتخصيص 40 مليار ليرة، منها لسداد مستحقات المودعين.
تدخلات غير متوقعة
لم يكن متوقعًا قبل انتخابات مايو/أيار أن يُقدم البنك المركزي التركي على السياسات الاقتصادية الجديدة التي طبقها بعد الانتخابات، لا سيما رفع معدلات الفائدة، كون الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومته كانوا على قناعة بأن “خفض سعر الفائدة سيعالج معدلات التضخم المرتفعة وينشط الصادرات التركية وينهي الأزمة الاقتصادية”.
لكن خلال خطاب التنصيب قال أردوغان: “المسألة الأهم في الأيام المقبلة تتمثل في حل مشكلات زيادة الأسعار الناجمة عن التضخم، وأن الحكومة ستسخر جميع إمكاناتها في الفترة المقبلة لنهضة الاقتصاد وتأهيل مناطق الزلزال”، كون تركيا تحتاج إلى استثمارات أجنبية مباشرة لتعزيز النمو.
فور تشكيل الحكومة، حدد وزير الخزانة والمالية محمد شيمشك “الأولوية للاستقرار المالي الكلي، وأن الأهداف الرئيسية: إرساء الانضباط المالي وضمان استقرار الأسعار، لتحقيق نمو مرتفع مستدام، وخفض التضخم على المدى المتوسط، لزيادة القدرة على التنبؤ في جميع المجالات وتسريع التحول الهيكلي الذي سيقلل عجز الحساب الجاري”.
لم يخف الوزير شيمشك أيضًا، انحيازه لـ”المسار القائم على أدوات السياسة التقليدية، كتحرير سعر الصرف، وجعله مرنًا، لمكافحة التضخم، واستعادة ثقة المستثمرين الأجانب، من خلال تسريع التحول الهيكلي، للحد من عجز الحساب الجاري، في ظل التحديات العالمية والتوترات الجيوسياسية”.
تحمل البنك المركزي التركي نحو 11 مليار دولار، خلال الشهرين الماضيين، فقط، لتغطية تكاليف فروق سعر صرف الليرة
كان 22 يونيو/حزيران الماضي، يومًا فاصلًا كذلك بين مرحلتين اقتصاديتين، خلال الـ5 سنوات الماضية، بعدما كشف البنك المركزي التركي عن آفاق “سياساته النقدية” التي ستتبعها البلاد مستقبلًا، عبر بدء التشديد النقدي من خلال رفع أسعار الفائدة، بهدف “سد الفجوة بين السعر الأساسي بالبنك، ومتوسط سعر الفائدة على الودائع”.
بادر البنك المركزي، أولًا، برفع أسعار الفائدة بنسبة 650 نقطة أساس (رفعها بنسبة 250 نقطة أساس، لاحقًا) ووعد بمواصلة سياسة التشديد النقدي، حتى يحدث تحسن كبير في توقعات التضخم، بعد سنوات من سياسة الفائدة المنخفضة التي استهدفت رفع معدلات النمو وزيادة الاستثمارات.
شكلت الخطوات الجديدة إنهاءً لسياسة خفض أسعار الفائدة من 19 إلى 8.5% التي أقرتها الحكومة التركية خلال الـ3 سنوات الماضية، بهدف “تعزيز النمو والاستثمار” بالتزامن مع دعم سعر صرف الليرة بعشرات المليارات من احتياطي تركيا من الدولارات، وسط اضطرابات اقتصادية إقليمية ودولية، انعكست على ماليات جميع الدول.
تبسيط الاقتصاد
يعد إنهاء خطة الودائع المحمية جزءًا من عملية التبسيط الجديدة طبقًا لقرار لجنة السياسات المالية، في يوليو/تموز الماضي، وتعزيزًا للاستقرار المالي، وتفعيل آليات السوق بشكل تدريجي، ومن ثم تقرر إنهاء إجراءات تحويل الودائع الأجنبية لودائع الليرة المؤمنة وتجديد الحسابات المؤمنة بنسبة معينة التي يتبناها البنك المركزي التركي، بعد الانتخابات.
أعلن البنك المركزي التركي تفاصيل “إجراءات تبسيط سياسته النقدية” في 25 يوليو/تموز الماضي، محددًا “السقف الشهري لنمو القروض التجارية بالليرة عند 2.5%، انخفاضًا من 3%، مع استثناء قروض التصدير والاستثمار والزراعة والقروض الموجهة للمنطقة المتضررة من الزلزال من إجراءات التشديد النقدي”.
تعهد البنك المركزي أيضًا باستمرار عملية التبسيط، تدريجيًا، مع قرارات أخرى لدعم التشديد النقدي، فيما تم رفع الحد الأقصى للفائدة الشهرية على السحب النقدي من بطاقات الائتمان وحسابات السحب على المكشوف إلى 2.89%، للسيطرة على التضخم وتحقيق التوازن في الطلب المحلي.
انحازت الحكومة لرفع سعر الفائدة، لأن حجم الاختلالات التي حصلت في الاقتصاد التركي يستحيل أن يتم السير فيها دون إعادة التوازن للسياسة النقدية
جاءت هذه الخطوات متوافقة مع أهداف البنك المركزي التركي لزيادة فاعلية آليات السوق، بعد رفع أسعار الفائدة، وتم خفض معدل صيانة الأوراق المالية التي يتعين على البنوك التركية تخصيصها لودائعها بالعملات الأجنبية من 10% إلى 5%، بحيث لا تقل ودائعها بالليرة عن 57% من إجمالي الودائع.
وهامش الصيانة هو الحد الأدنى لمساهمة العميل في القيمة السوقية للأوراق المالية في حساب التمويل على الهامش في أي وقت بعد تاريخ الشراء، بمعنى آخر هو الحد الأدنى من قيمة الأصول (أوراق مالية ونقدية) الواجب المحافظة عليها في حساب التمويل بالهامش، بحسب التعريف الاقتصادي المبسط.
إشكاليات اقتصادية
وجدت المجموعة الاقتصادية الجديدة في تركيا نفسها أمام مشكلات هيكلية وتحديات عدة ترتبط بالسياسات غير التقليدية التي تطبقها تركيا، منذ نحو 5 سنوات، مع صدمات خارجية مثل جائحة كورونا وتداعياتها ونتائج الحرب الروسية الأوكرانية وزلزال 6 فبراير/شباط وخسائره التي تقدر بنحو 34.2 مليار دولار.
لم تتأخر المؤسسات المعنية في تبني تغييرات وإصلاحات جوهرية اقتصادية وتشريعية، حتى تعالج الاختلالات الهيكلية السابقة، وتحقيق استقرار سعر صرف العملة المحلية (الليرة) ومواجهة تحديات أخرى، لا سيما العمل على إيجاد موارد كافية لسداد الدين الخارجي وتمويل عجز الحساب الجاري وتعويم الاقتصاد.
شكل النهوض بالاقتصاد أحد أهم القضايا الحيوية التي تواجه الفريق الاقتصادي الجديد بعد الانتخابات العامة، خاصة الحد من التضخم وإعادة تعويم الليرة والاقتصاد التركي عمومًا، وزيادة معدلات النمو وتوطين التكنولوجيا وتعزيز الإنتاج المحلي وزيادة الصادرات.
كان نظام الوديعة المحمية بالليرة التركية، على رأس الملفات الأكثر حساسية، أمام المجموعة الاقتصادية الجديدة في البلاد، خاصة بعدما تحمل البنك المركزي التركي نحو 11 مليار دولار، خلال الشهرين الماضيين، فقط، لتغطية تكاليف فروق سعر صرف الليرة، ومن ثم، أقدم البنك على إنهاء حسابات الودائع المحمية.
انتقال تدريجي
كخطوة أولى للخروج من سياسات الوديعة المحمية، طلب البنك المركزي التركي من البنوك المحلية “عدم قبول ودائع الليرة المحمية والتركيز على ودائع الليرة العادية، لكن ستبقى الودائع القديمة مستمرة حتى تاريخ الاستحقاق، لكنها ستجدد كوديعة عادية، وزيادة الودائع بالليرة التركية مع تقليل الودائع المتمتعة بالحماية وتوجيه المستثمرين للودائع بالعملة المحلية”.
يرغب البنك المركزي (بحسب مصادر) في “إقدام البنوك على تحويل الودائع بالليرة المحمية إلى ودائع عادية بالعملة المحلية، عبر إقناع الشركات والأفراد بالتخلي عن الودائع المحمية القديمة، بالتزامن مع رفع نسب الاحتياطيات التي ينبغي على البنوك الاحتفاظ بها، عبر تحفيز الإقبال على الودائع العادية بالليرة”.
وطلب البنك المركزي من البنوك “عدم تقديم مبالغ نقدية بحسب أسعار الصرف للودائع الجديدة، وعدم دفع مثل هذه العلاوات مقدمًا”، بعدما كانت البنوك تعرض العلاوات للعملاء لجذب المزيد من عمليات التحويل إلى برنامج الادخار بالليرة التركية، من خلال خطة “الودائع المحمية” قبل الحد منها.
ووجه البنك المركزي المصارف التجارية لزيادة حجم الاحتياطات المطلوبة لحماية الودائع بالنقد الأجنبي، حيث تجبر الإجراءات الجديدة البنوك التي تفشل في تحقيق أهداف التحويل المحددة إلى حسابات عادية بالليرة، على شراء سندات حكومية إضافية، ومن ثم زيادة أسعار الفائدة على ودائع الليرة، لتصبح أكثر جاذبية.
ودعا وزير الخزانة والمالية التركي، محمد شيمشك، البنوك التجارية إلى “إعطاء اهتمام أكبر للنمو عند منح قروض الشركات، كون تركيا تحتاج إلى خفض الإنفاق الاستهلاكي، بهدف إعادة التوازن الاقتصادي، ووضع ملف دعم الصادرات على رأس الأولويات، على حساب القروض الاستهلاكية”.
ويدعم الوزير “زيادة أسعار الفائدة من أجل إبطاء الطلب المحلي وترويض التضخم، وأن التشديد النقدي سيستمر، لكنه يحتاج إلى دعم أكبر من خلال تغيير أولويات القروض الجديدة في القطاع المصرفي”، ويتوقع “نمو الاقتصاد المحلي بنحو 4.5% هذا العام، مع سعي الجهات المعنية لتدبير موارد خارجية بتكاليف معقولة”.
ويرى مختصون في السياسات النقدية أن رفع البنك المركزي الاحتياطي الإلزامي للبنوك من العملات الأجنبية بعد قرار إلغاء وديعة الليرة المحمية يقطع الطريق على أي هبوط محتمل في الليرة، حتى لا يضطر البنك المركزي لتعويض الفجوة من رصيد الاحتياطي النقدي.
مبررات التحول
قبل التحول الاقتصادي في تركيا، خلال الشهور الأخيرة، كان هناك خلاف بشأن التمسك بالإستراتيجية الاقتصادية المطبقة (خفض أسعار الفائدة) أو التحول إلى سياسات تقليدية، عبر تحرير سعر الصرف (يخضع لقوة العرض والطلب) وتخفيف التدخل في حماية الليرة، لوقف تآكل الاحتياطي النقدي.
وأوضح أنصار الرأي الثاني أن “انخفاض الليرة التركية أمام الدولار، سيكون نتيجة طبيعية للانتقال الناعم للسوق الحرة، حتى يعود سعر الصرف إلى قيمته الطبيعية وتتوقف الخسائر الاحتياطية للبنك المركزي، بعدها لن تكون هناك خسارة في الاحتياطيات، بل ستكون هناك حركة صعودية”.
قام أردوغان بجولة خليجية (السعودية والإمارات وقطر) ووقع صفقات تزيد قيمتها على 50 مليار دولار، وسمح الإعلان عن هذه الاتفاقات بتحسن نسبي لسعر صرف الليرة
المصدرون، كانوا أيضًا، مع خفض قيمة الليرة أمام الدولار، لأنه “سيعزز تنافسية المنتجات التركية، المقوّمةً بأعلى من قيمتها، والأغلى نسبيًا من منتجات دول منافسة” على حد وصفهم، وأن “هذه الخطوة لا يجب التعامل معها باعتبارها تدهورًا للعملة، بل خطوة إيجابية تدعم الصادرات وتعزز القيمة المضافة للاقتصاد التركي”.
وتمثل الصادرات التركية أحد أهم القطاعات التي تساعد على جلب العملة الأجنبية، بالإضافة إلى دورها في تحسين الوضع المعيشي، وتوفير فرص عمل جديدة وزيادة الإنتاج، ومن ثم تعمل الحكومة التركية على تنمية هذا القطاع بشكل كبير ليحقق كل عام أرقامًا تتجاوز العام الذي يسبقه.
ويظهر الحرص على قطاع الصادرات من واقع تأكيدات أردوغان، إذ قال: “تسعى تركيا لزيادة صادراتها إلى 265 مليار دولار خلال العام الحاليّ، وإلى 285 مليار دولار العام المقبل، وأن تتجاوز 400 مليار دولار عام 2028” بحكم البنية التحتية القوية للقطاع، في نمو الصادرات.
من هنا، انحازت الحكومة لرفع سعر الفائدة، لأن حجم الاختلالات التي حصلت في الاقتصاد التركي يستحيل أن يتم السير فيها بهذه الطريقة، من دون إعادة التوازن للسياسة النقدية، وأن تعاد استقلالية المصرف المركزي، بعيدًا عن التأثير السياسي الذي تسبب بهروب الاستثمار الأجنبي.
مستقبل الليرة
يواصل الفريق الجديد قيادة تحول السياسة النقدية، لضمان رفع أسعار الفائدة 900 نقطة أساس، سواء عبر التخلي عن الودائع المحمية، وخطط أخرى كانت مطبقة، ضمن جهود جديدة لكبح التضخم وتقليل العجز التجاري وتحسين المالية العامة للدولة، بعدما عانت البلاد من اتساع فجوة الموازنة.
تبدى ذلك بعد مضاعفة الضرائب المحصلة على الوقود ثلاث مرات، ورفع ضريبة القيمة المضافة، وسط تأكيدات من وزير المالية التركي محمد شيمشك، بأن التضخم السنوي سيبدأ في الانخفاض، منذ منتصف عام 2024، في ظلّ التأثير الإيجابي لموقف السياسات النقدية الجديدة في تركيا.
كما تحاول الحكومة الحد من استيراد الطاقة (بترول وغاز طبيعي) كونها تثقل كاهل الميزانية وتسبب عجزًا في الميزان التجاري، وتشمل المحاولات التوسع في الطاقة البديلة والمحلية (غاز البحر الأسود) لا سيما أن تركيا تستورد، سنويًا، من 40 إلى 50 مليار دولار بالعملة الأجنبية.
لم تلجأ الحكومة إلى إجراءات مباشرة لفرض قيود على حيازة واستخدام العملات الأجنبية، حتى لا تدفع الشركات أو الأفراد إلى سحب العملات الأجنبية من النظام المالي أو تحويلها إلى الخارج
يؤدي تخفيض سعر الفائدة إلى تقليل معدلات التضخم، وينعكس بشكل إيجابي على تخفيض تكلفة الاقتراض من البنوك، لصالح مشروعات تنموية وإنتاجية، تؤثر بشكل إيجابي على الصادرات، فيما تعزز المواسم السياحية القوية الاحتياطيات، مجددًا، على المدى القصير، مع تدفقات مالية خارجية، خاصة من دول خليجية.
يتوقع المركزي أيضًا على المدى المتوسط، أن “يبلغ تباطؤ التضخم ذروته في الربع الثاني من العام المقبل” بالتزامن مع التواصل التدريجي لزيادة أسعار الفائدة، ويأتي ذلك بالتزامن مع بدء الرئيس التركي زيارة لدول الخليج، استهدفت جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية قدرتها التقارير بنحو 25 مليار دولار، من الخليج.
وفي محاولة لإنعاش اقتصاد بلاده، قام أردوغان بجولة خليجية (السعودية والإمارات وقطر) ووقع صفقات تزيد قيمتها على 50 مليار دولار، وسمح الإعلان عن هذه الاتفاقات بتحسن نسبي لسعر صرف الليرة التركية أمام الدولار، لكنها لم تصل بعد لمرحلة الاستقرار المطلوب.
تفسر وكالة بلومبيرغ الأمريكية انخفاض الليرة باعتباره “علامة على أن المعدل يتم تحريره تدريجيًا” في إشارة إلى عودة تركيا إلى مسار قائم على أدوات السياسة التقليدية المطبقة، عالميًا، لمكافحة التضخم والعمل على استعادة ثقة المستثمر الأجنبي في تركيا وستتم تلبية الحاجة إلى الموارد الأجنبية.
وعن الهبوط النسبي لليرة التركية، يرى الوزير محمد شيمشك، أنه “لا خيار أمام تركيا إلا العودة إلى أسس عقلانية. إرساء الانضباط المالي وضمان استقرار الأسعار لتحقيق نمو مرتفع مستدام سيكون من بين أهدافنا الرئيسية، إلى جانب خفض التضخم إلى خانة الآحاد على المستوى المتوسط”.
صعوبات.. ولكن
مهما كانت صعوبة الخيارات الاقتصادية المرتقبة التي تواجه الفريق الاقتصادي لأردوغان، فإن اللجوء إليها لم يعد رفاهية، ليس فقط لتصحيح المسار، و”بناء اقتصاد صناعي مُوجّه للاستثمار والتوظيف، مع إدارة مالية ذات سمعة عالمية” كما يتعهد أردوغان، لكن للإسراع بحماية الليرة من التآكل، ووقف معدلات التضخم.
تعي تركيا جيدًا، تداعيات ارتفاع تكلفة مقايضات التخلف عن سداد الديون المستحقة وانعكاسه على قدرة البلاد على الاستمرار في خدمة ديونها الخارجية، خاصة على المدى الطويل، فقد راجعت الحكومة إستراتيجيتها الاقتصادية المالية، في أجواء التضخم وتباطؤ الطلب العالمي، نتيجة الصراعات الدولية المفتوحة.
لذلك لم تلجأ الحكومة إلى إجراءات مباشرة لفرض قيود على حيازة واستخدام العملات الأجنبية، حتى لا تدفع الشركات أو الأفراد إلى سحب العملات الأجنبية من النظام المالي أو تحويلها إلى الخارج، وهي تدابير متسقة لتهدئة الاقتصاد وتعزيز قطاعاته (خاصة السياحة والصادرات) وتحفيز النمو.
يبقى أن إنهاء حسابات الودائع المحمية واتباع سياسات اقتصادية تقليدية ورفع أسعار الفائدة، كانت خطوات ضرورية، بعد مراجعة تلك السياسات ودراسة حسابات الربح والخسارة، خاصة التي لا يمكن التنبؤ بها، وقطع الطريق على أي مخاطر، في ظل الأجواء العالمية المضطربة.