في خطوة مفاجئة أعلنت روسيا سحب جزء مهم من أسطولها المرابط أمام سواحل اللاذقية وطرطوس على البحر الأبيض المتوسط، حيث أعلن الجنرال فاليري غيراسيموف، بدء تقليص مجموعة القوات الروسية في سورية، مشيرًا إلى أن حاملة الطائرات “أدميرال كوزنيتسوف” والطراد “بيتر فيليكي” النووي والمدمرة “سيفيرومورسك” والسفن المرافقة لها، سيكونون أول المغادرين.
حاملة الطائرات الروسية “كوزنيتسوف” كانت قد وصلت إلى المياه الإقليمية السورية في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لكنها وخلال رحلتها تعرضت لسلسلة حوادث محرجة دفعت محللين عسكريين ووسائل إعلام للتشكيك في القدرة العملياتية لحاملة الطائرات التي يعود تاريخ بنائها إلى الحقبة السوفياتية، فقد انزلقت إحدى الطائرات من على مدرجها وغرقت في البحر، كما أنها تعرضت لحريق، وعانت من نقص وقود الديزل الذي رفضت عدة دول تزويدها به وكادت تتقطع بها الأسباب لولا أن الجزائر أنقذت الموقف وزودتها بالوقود اللازم لتكمل رحلتها باتجاه شواطئ سورية، الأمر الذي مكنها وبحسب الجنرال “غيراسيموف” على تنفيذ أكثر من 420 طلعة جوية، تركز معظمها على أحياء حلب، إضافة لأهداف عسكرية للمعارضة السورية.
تحتفظ روسيا بأكثر من 33 قطعة بحرية عسكرية ما بين حاملة طائرات ومدمرة وطراد وغواصة وسفن دعم وإسناد ودفاع جوي، وهي بهذه الخطوة تكون قد تخلت عن أهم قطعها البحرية الضاربة، لكن الإعلان الروسي عن سحب أو تقليص حجم القوات الروسية لم يكن الأول من نوعه، فقد سبق وأعلن الرئيس الروسي بوتين سحب قواته من سورية في مارس/ آذار من العام الماضي، لكنه ما لبث أن عزز قواته، لتستأنف أكبر هجوم عسكري ضد فصائل المعارضة السورية والمدنيين على حد سواء.
القوة البحرية الضخمة التي أعلن سحبها من شرق البحر المتوسط ربما تكون زائفة، وذلك وفقًا لتقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” قبل نحو الشهرين، حيث ذكرت فيه أن حاملة الطائرات الروسية وطراد “بطرس الأكبر” كلاهما لم يكن يتحرك في مهام عسكرية خارجية، منذ 26 عامًا، دون جرار بحري تحسبًا لأي مشاكل فنية قد توقف محركاتهما عن العمل، يكفي أن نعلم أن 13 سفينة ترافق حاملة الطائرات كوزنيتسوف، من ضمنها 7 سفن مسلحة بصواريخ كروز مضادة للسفن، إضافة لسفن مضادة للغواصات، و4 سفن دعم وإمداد.
الفرقاطة “الأميرال غريغوروفيتش” المزودة بصواريخ “كاليبر” المجنحة كانت قد عادت إلى قاعدتها البحرية في مدينة سيفاستوبل بشبه جزيرة القرم التي تحتلها روسيا، أواخر شهر ديسمبر/ كانون الأول بعد شهر ونصف من وجودها قبالة السواحل السورية حيث انخرطت في عمليات القصف المركز على أرياف حمص وإدلب.
لكن لماذا تم سحب الأسطول البحري الروسي؟
من المهم أن نعلم أن إرسال روسيا لأسطولها البحري إلى المتوسط جاء على إثر القطيعة مع تركيا، التي سببتها عملية إسقاط تركيا لطائرة حربية روسية، وما خلفته من توتر مع الغرب وحلف الناتو، حيث زجت روسيا كذلك بمنظومات الدفاع الجوي إس 300 و400 وقامت بتعزيز قواتها في قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية، وهي بهذا هدفت استعراض عضلاتها وترميم سمعتها، فكان إرسال الأسطول جزءًا من عدة خطوات اتخذتها روسيا، التي بدا رئيسها كثور هائج لم يجد سوى الشعب السوري كي يصب جام غضبه عليه، فدفع وحده ثمن إسقاط الطائرة الروسية.
تبدو روسيا اليوم في أفضل حالاتها، وبالتالي فإن جملة عوامل دفعت بوتين لاتخاذ هذه الخطوة أهمها:
– عودة العلاقات مع تركيا إلى سابق عهدها بل وتحولها إلى شبه تحالف وفر على روسيا الكثير من الجهد والوقت والمال.
– النصر الذي حققته روسيا في حلب وما أفرزه من هدنة ستفضي إلى مفاوضات ربما تخرج بنتائج إيجابية لروسيا، التي حققت ما لم تكن تحلم به، فسيطرت على مدينة حلب، وأجبرت فصائل المعارضة المسلحة على الرضوخ للحل السياسي وبشروطها بعد أن وضعها تحت الأمر الواقع، وبمساعدة إيرانية تركية.
– قرب تنصيب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، وما يعنيه هذا الأمر بالنسبة لروسيا، التي يأتي سحب قطع بحريتها كبادرة حسن نية تجاه ترامب، المنافح عن روسيا ضد الاتهامات بضلوعها بقرصنة إلكترونية أثرت على نتائج الانتخابات الأمريكية.
– عملياتيا فإن روسيا ستتخلص من مشاكل أسطولها المتهالك وكلفة تشغيله وصيانته العالية، خاصة أن وجوده كان لغاية استعراض العضلات ليس إلا.
جملة هذه الأسباب هي ما يقف خلف القرار الروسي بسحب معظم القطع الحربية البحرية من شواطئ المتوسط وعودتها لمواني شبه جزيرة القرم، فروسيا ليست بحاجة لمزيد من الأعباء المالية مع امتلاكها لقاعدة طرطوس البحرية وحميميم الجوية، وجيش من الحلفاء والأصدقاء، إنها اليوم سيدة الموقف وصانعة الحدث وإن إلى حين.