لعلي أعطي نفسي فرصة إرشاد القارئ المهتم إلى جهد الأستاذ مهند الحبيل الفكري، بوصفي أحد المتابعين النهمين لهذا المشروع منذ بداياته مع كتاب “فكر السيرة.. قراءة ثقافية معاصرة للسيرة النبوية”، وصولًا لكتابه الصادر حديثًا “طاولة مستديرة”.
فلا ألزمه بضرورة اتباعه بالكتب السابقة – وإن كان مهمًا الغوص فيها – لكني أقول: اجعل تركيزك عاليًا لالتقاط الفكرة، حتى تفهم ما يحاول أن يقودك له الكاتب، أيها المهتم بكيفية نهضة (حاضر العالم الإسلامي) والعربي خصوصًا، في ظل هذه الفوضى السياسية والمجتمعية والبث الفكري الجدلي مع محاولات طمس مرعبة للقيم التاريخية الفارقة للمنطقة.
اختار الأستاذ مهنا الحبيل، عنوان “طاولة مستديرة” لكتابه الصادر من دار خواطر في تركيا، مطلع العام الحاليّ 2023، ويقع في 148 صفحة، ليناقش فيه سِيَر بعض الشخصيات، مع ربطها ببعض القضايا الجدلية المطروحة على ساحة الفكر العربي.
دعونا نلبي دعوته في الجلوس معه، محاولين بسط وفهم رؤيته التي يحاول إرسالها من خلال انتقاء الشخصيات والقضايا، وكيف يمكنها مساعدتنا في تجميع خيوط المشروع الذي يعمل عليه من أول إصدار له “فكر السيرة” وصولًا للكتاب السادس الذي بين أيدينا، ومن خلاله يحاول رفد القارئ العربي المهتم بمسارات النهضة، بمحتوى نوعي يمهد الطريق – خاصة لجيل الشباب المؤمن بفارق رسالة الإسلام – في معنى الإنسانية.
أو حتى الشباب الواقف في مرحلة الشك بعد العواصف السياسية الأخيرة للوطن العربي وتبعاتها الاجتماعية والثقافية، لتمكينه معرفيًا من دلالات الفكر الإسلامي المعرفي في جدل القياس الفلسفي لقيم الحياة ومدى صلاحيتها للإنسان.
الوجودية الغربية في ميزان العقل والأخلاق
الفصل الأول من الكتاب، يعكس معنا الحبيل الطريق من نهاية الوجودية إلى بداية فطرة الخلق، متخذًا هنا من سيرة وأفكار نبي الوجودية سارتر مثالاً مركبًا يخدم من خلاله أكثر من قضية، التي تعد من أكثر القضايا المعاصرة عصفًا بالشرق والغرب – الوجودية والراديكالية النسوية – في ميزان دقيق بين علاقة سارتر مع نبيّة النسوية سيمون دي بفوار البذيئة والشائنة، مع علاقاتهما الجنسية المتعددة الأخرى، وبين مرجعيتهما الفكرية المعتمدة من البعض، كبديل لما فُطر عليه الناس من اختيارات تحفظ كرامة الإنسان عمومًا، وكرامة وإنسانية المرأة خصوصًا.
وكتعليق من دفتري، أرجع مع الأستاذ الحبيل إلى دراسته لفكر السيرة، كأني به يقول: “كيف بمن كانت سيرة سيدات بيت النبوة، مرجعيتها التاريخية، تقبل بأن تتخذ من دي بفوار قدوة لها في مسيرة إصلاح أو تأسيس جديد؟! وأحسن الفرضيات، أنه من الكسل الفكري.
ففطرة الإسلام، المتمثلة في قمة تزاوجه بين الروح وأخلاقياتها والذات البشرية والطبيعة من حولها، لا يمكن لعقلٍ سليم أن ينكر أنها سبيل طمأنينة وراحة نفسية.
يستفتح الأستاذ الحبيل فصل الكتاب الثاني “تصحيح المفاهيم” بالحديث عن ثقافة الحوار الغائبة في الأوساط الثقافية، والمؤسف حتى الإسلامية – الإسلامية.
والحوار نهج أورده القرآن الكريم ومارسه النبي عليه الصلاة والسلام وصحبه الكريم، وإقرار الحوار دليل على صحة وتعافي أي مجتمع، بعكس نظرية إسقاط المخطئ المستحدثة في مجتمعات المسلمين، التي بدورها أدت إلى الضعف الفكري والثقافي، بسبب الخوف وكبت الحريات، فالثقافة تتنفس بالحرية!
وهذا الحديث لا يعني عدم تقييم الوارد من الأفكار، بل تفعيل الجدل بشأنها لتفكيكها ومن ثم القبول أو الرفض.
فغياب الحوار الذي يحفّزه ما وصفه بـ”تقديس آباء الفكرة”، وهي حالة تجتاح الأوساط الفكرية العربية من كل التيارات، وتُنتج لنا أجيالًا أقرب للتحجّر، لا يدفعون للأمام بل يُدافعون عن الماضي فقط.
هنا يتخذ الأستاذ الحبيل من المفكر جودت سعيد نموذج السيرة في مقتطفات عن حياته ومبادئه وأفكاره، والأهم مساحة الخسارة من تهميشه التي ارتدت على المشرق العربي وعلى سوريا بالأخص، حيث يفرد الكاتب مساحة لمدرسة (اللاعنف) في منهج جودت سعيد، بين بداية الثورة وما خطط له النظام بالزج في دوامة القتال، في جولة تساؤلات، هادفًا من خلالها بداية نقد للمسار.
في “رحلة مع مصطفى محمود”، يُبحر معنا الأستاذ الحبيل، خلال الفصل الثالث، في لقطات من سيرته منذ الطفولة وحتى نهاياته في “العلم والإيمان”، باحثًا عن الأسباب الخفيّة وراء التحولات الكبرى في حياة الرجل، من التأسيس الأسري الفطري الذي قد يكون أكبر أسباب العودة إلى الرشد بعد التوهان، إلى نباهة الدكتور محمود وتفكيره في الحياة الذي ولّد لديه أسئلة المعرفة ابتداءً، ومرورًا بشخصيات في حياته كان لها الأثر في الانعطافات، ولا ننسى دور المؤسسة الدينية أو السياسية عندما تُمارس الاحتكار أو تفرض الوصاية المطلقة وأثرها.
الفصل الرابع ننتقل مع الكاتب من مسار الشك والإيمان، إلى مسار الثقافة والسياسة مع الأديب السياسي صاحب “حياة في الإدارة”، الدكتور غازي القصيبي ليعكس لنا صورة من صور “المثقف العضوي”.
غازي العروبي القومي فكرةً ومبدأً، السياسي الذي اختار الفاعلية من خلال طواقم الحكم في الخليج، في نموذج ذكي نفهم من خلاله الشعرة المتأرجحة بين العروبي الآخر والعروبي الثورجي، في معنى الإصلاح الميداني لمواطنه أو قوميته من خلال قضية العرب الأولى – فلسطين – وما ثبّته خلال مسيرته من الحياة الدراسية في الغرب وحتى مواقفه الرسمية وهو فاعل في نظام الحكم، وبقلمه حيث تشهد له أبيات قصيدته في الشهيدة آيات الأخرس.
هذا الفصل يحمل سؤالًا نقديًا مستحقًا في مسيرة الرجل، فبعد أن ثبّت له الأستاذ الحبيل دوره في الإصلاح الإداري للمواطن، تساءل عن دوره في إصلاح الإرث الحقوقي، وهل له جهود مخفية؟
كما تطرق -في هذا الفصل- لملف حرب الخليج والحرب الوظيفية بينه وبين الصحوة.
الفصل الخامس.. ماليزيا وتجربتها في الدولة المدنية المطبوعة بهوية الإسلام الروحية الأخلاقية، وهي فكرة عميقة وراسخة قادها تحالف وطني، وتشهد انسجامًا كبيرًا في المجتمع بين البُعد القومي للدولة وبقية عناصر المجتمع، وقد فصّل فيها الأستاذ الحبيل باستفاضة في كتابه “زمن اليقظة”.
ويستدعيها هنا بغرض طرحها في المقابل مع الدولة الصينية وقضية الإيغور، وأيضًا حملات كراهية الحزب الهندي الحاكم ضد المسلمين.
الفصل حمل فكرة أخرى من خلال الصراع الباكستاني الهندي، وهي فكرة أيضًا يرصدها المتابع لمشروع الأستاذ الحبيل، تتمثل في حرصه على تفعيل مفهوم الكفاح المدني بدلًا عن المواجهة الدينية في مثل هذه القضية وغيرها، فتصعيد المواجهة الدينية يعجل بوأد القضايا.
ونستمر مع شرق آسيا في الفصل السادس، وهذه المرة إلى سنغافورة وملاحظات على قصة نجاح زعيمها لي كوان.
حيث حمل الكتاب قصصًا ورؤى في ميزان النقد التشريحي والإنصاف معًا، لمسيرة لي كوان في جوانب عدة، منها علاقته مع حركة إمنو الماليزية، بل مع الأمة المالاوية ككل، وأيضًا تقاطعه مع الغرب الكولونيالي والصين الشيوعية، فهل بالغ الحبيل بوصفه بالنرجسية، في علاقته بالإسلام والمسلمين المالايويين، وهو يفرض عليهم التخلي عن قيمهم ووجودهم مقابل مصالح ليبرالية ومعيشية؟
الفصل السابع، عودة على ما بدأ به، القضايا المهدِّدة للإنسانية، فيحمل هذا الجزء عنوان “المثلية.. مشروع الكولونيالية الأخير”.
الأخير، بمعنى استبدال الاستعمار التقليدي، بالقهر الثقافي في صورة برنامج ضخم تديره الرأسمالية وتروّج له بالضخ الإعلامي والتوظيف الدولي للظاهرة وفرض التشريعات الغربية.
هنا يستعرض الأستاذ الحبيل موقف اللاعب السنغالي إدريس غي الرافض لدعم المثلية والهجوم الغربي عليه، مع التضامن الإفريقي الواسع معه، في صورة أراد من خلالها لفت النظر لشركاء القيم للمسلمين وكيف يمكن تقوية هذه العلاقة ودعمها حتى تصبح قوة في مواجهة غزو (اللاقيم) القهري تجاه الإنسان، وتفعيلها في ميادين الثقافة والرياضة.
نختم مع مهنا الحبيل الكتاب بخواطر عكستها زيارة له لأمريكا، غرق فيها بتفاصيل نيويورك وتعدديتها، واصفًا لها بـ”الضِفف الأمريكية المتعددة”.
والعنوان يشرح خواطر الكاتب، خاصة في سرده لمنظر تأمين المدينة بواسطة مجندين ومجندات مسلمين، مقابل ضِفة المخدرات وانعدام الأمن من غيرهم، مع استرجاع تصعيد تنميط الإرهاب رسميًا من الغرب بوصفه فعلًا مسلمًا!
في هذه الرحلة نصطحبه في جولة داخل أروقة الأمم المتحدة، وأيضًا متزامنة مع مراجعة له عن تأريخ التأسيس وأداء هذه المنظمات. فتتفتح لنا جلسة تأمل عميقة في حي هارلم، وكفاح مالكوم إكس وسيرته، وعودته في صور أخرى، يجمع بينها التعطش الكبير لنداء الروح في عالم أغرقته المادية وجرفته تجريفًا.
ورغم صغر الكتاب وتفرّق جزره الموضوعية، فإنه يحتاج لإعادة قراءته لاقتباس أفكاره.