لا تزال أصداء التقرير الصادم الصادر عن منظمة “هيومن رايتس ووتش” الإثنين 21 أغسطس/آب 2023، الذي يتهم قوات الحرس السعودية بارتكاب انتهاكات جسيمة وجرائم قتل ممنهج بحق مئات المهاجرين الإثيوبين الراغبين في عبور الحدود اليمنية باتجاه الأراضي السعودية، تلقي بظلالها على المشهد وسط تفاعل دولي واضح.
وتجاهلت الرياض ما جاء في التقرير الصادر في أكثر من 70 صفحة، واستند إلى مقابلات أجرتها المنظمة مع 42 مهاجرًا وطالب لجوء إثيوبي، وتحليل أكثر من 350 مقطع فيديو وصورة تم نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، فضلًا عن صور الأقمار الصناعية، مكتفية بتصريح مقتضب على لسان أحد المسؤولين الحكوميين لوكالة الصحافة الفرنسية ينفي ما جاء في التقرير، واصفًا الاتهامات التي تضمنها بأنها لا أساس لها من الصحة ولا تستند إلى مصادر موثوقة.
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تواجه فيها المملكة مثل هذه النوعية من الاتهامات، ففي العام الماضي قال مسؤولون في الأمم المتحدة إن قوات حرس الحدود في المملكة قتلت مهاجرين بطريقة ممنهجة خلال 2022، مستندة في ذلك إلى تقارير حقوقية موثقة بالصوت والصورة، لكن السلطات السعودية نفتها وشككت فيها بشكل كامل، متهمة مثل تلك التقارير بـ”التسييس”.
وأعلنت أديس أبابا عن فتح تحقيق مشترك مع الجانب السعودي فيما تضمنه التقرير، لافتة في بيان لوزارة خارجيتها نشر على منصة “إكس”، بأن “الحكومة الإثيوبية ستحقق سريعًا في الحادث بالتعاون مع السلطات السعودية”، داعية إلى “إظهار أقصى درجات ضبط النفس وعدم الإدلاء بتصريحات غير ضرورية، إلى أن ينتهي التحقيق”.
وأضافت الخارجية الإثيوبية في بيانها “لفت انتباه وزارة الخارجية الإثيوبية التقرير الذي صدر مؤخرًا عن منظمة هيومن رايتس ووتش، بشأن إعدام جماعي مزعوم لمواطنين إثيوبيين على الحدود السعودية اليمنية، كانوا يحاولون العبور إلى المملكة العربية السعودية”، لكنها سرعان ما استدركت بالتنويه أنه: “وعلى الرغم من هذه المأساة المؤسفة، يتمتع البلدان بعلاقات ممتازة طويلة الأمد”.
الأرقام التي أوردها تقرير المنظمة الحقوقية بشأن أعداد القتلى والأساليب التي استخدمتها قوات حرس الحدود السعودية في التعامل مع المهاجرين الإثيوبيين أثارت قلق الكثير من حكومات العالم ومنظمات المجتمع الدولي، فهل من الممكن أن تؤثر على مستقبل العلاقات السعودية الإثيوبية في ظل المصالح المشتركة بين البلدين؟
تشكيك سعودي معتاد
كعادة الرياض في تعاطيها مع مثل تلك التقارير الحقوقية فإن النفي والتشكيك هو رد الفعل الثابت على مدار السنوات الأخيرة التي فضحت فيها العديد من التقارير الموثقة عشرات الانتهاكات التي ترتكبها المملكة في الداخل والخارج، لكن استباق النفي كان الموقف الأكثر حضورًا في تلك المواجهات، دون محاولة دحضها أو إثبات عكسها.
الكاتب والمحلل السياسي السعودي منيف عماش الحربي، واتفاقًا مع تصريحات المسؤول الحكومي، شكك في مضامين التقرير، لافتًا إلى أن البراهين والأدلة غير مقنعة وغير منطقية، واصفًا شهادات المهاجرين الإثيوبيين التي استندت إليها المنظمة بأنها انتقام ورد فعل لعدم السماح لهم بدخول الحدود السعودية.
الحربي في مداخلة متلفزة له مع قناة “DWعربي” قال إن المنهجية التي اعتمدت عليها “هيومن رايتس ووتش” غير موثوق فيها وأنها تفتقد للمعايير الحقوقية المطلوبة، وفي رده على احتمالية أن تفتح المملكة تحقيقًا في تلك الاتهامات قال إن كانت صحيحة لفعلت لكنها لم تكن صحيحة.
وألقى الكاتب السعودي بالكرة في ملعب الحوثيين، لافتًا إلى أنهم يستخدمون المهاجرين واللاجئين كورقة ضغط ضد السعودية، ويدفعون بالآلاف منهم إلى الأراضي السعودية حتى يصطدموا بالأمن السعودي، ما قد ينجم عنه مناوشات يستخدمها لتشويه صورة المملكة، مضيفًا “كثير من تجاربنا مع هيومن رايتس ووتش ومنظمة أمنستي غير جيدة، فتقاريرهم غير موثقة”.
وفي المقابل رفضت الباحثة في قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المختصة في التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية والإمارات في منظمة “هيومن رايتس ووتش”، جوي شيا، اتهامات الكاتب السعودي، مؤكدة أن المنظمة تستند إلى معايير غاية في الدقة للوصول إلى أقصى درجات المصداقية.
وأضافت أن التقرير الأخير اعتمد على التحليلات الجنائية والتشريحية وصور موثقة ودقيقة من الأقمار الصناعية وشهادات ذات درجة عالية من المصداقية، منوهة أن المنظمة تواصلت مع الجانب السعودي ومع جماعة الحوثي للرد على ما جاء في التقرير، لكنها لم تتلق أي إجابة من الطرفين حتى اليوم.
وختمت الباحثة في انتهاكات حقوق الإنسان أن كل ردود فعل المملكة على التقارير التي تدينها وتكشف الانتهاكات المرتكبة سواء في الداخل أم في الخارج، دومًا ما تكون بالتشكيك والنفي دون دحض تلك الاتهامات أو الرد عليها بشكل عملي وهو ما يرجح مصداقيتها ويضع السلطات السعودية في مأزق.
الرياض – أديس أبابا.. علاقات تشابكية
تربط السعودية بإثيوبيا شبكة مصالح قوية، سياسية واقتصادية وأمنية، من الصعب التضحية بها أو التخلي عنها تحت أي سبب كان، إذ تنظر المملكة لأديس أبابا ومنطقة القرن الإفريقي بأكملها على أنها امتداد لأمنها القومي، وتبذل الكثير من الجهود الدبلوماسية للحفاظ على استقرار تلك المنطقة، كما حدث بشأن الوساطة بين إثيوبيا وإريتريا، بجانب الحفاظ على أمن الممرات المائية اللوجستية المهمة التي تشرف عليها خاصة باب المندب ومضيق هرمز حيث يمر منهما بجانب قناة السويس الغالبية العظمى من حجم التجارة العالمية.
ويرى الزميل الباحث في دراسات الأمن بالشرق الأوسط في “المعهد الملكي للخدمات المتحدة للدراسات الدفاعية والأمنية” في بريطانيا، توبياس بورك، أن السعودية تعتبر منطقة القرن الإفريقي أولوية قصوى لها في السنوات المقبلة، مضيفًا في تصريحاته لموقع “مصر 360” أن “المملكة تركز بشدة وبشكل مركزي على هذه المنطقة لأنها مرتبطة بأجندتها الاقتصادية مثل مشروع نيوم (الواقع على البحر الأحمر) وهو ما يترابط مع رؤية 2030 في الإطار الأوسع للمشاريع الاقتصادية”.
وفي دراسة لـ”مركز الخليج للأبحاث” فإن السعودية لن تدخر جهدًا للحفاظ على استقرار الممرات البحرية التي تطل عليها منطقة القرن الإفريقي ومنها إثيوبيا، وذلك من أجل حرية حركة البضائع التي تمثل مكونًا رئيسيًا للأمن القومي السعودي “فالمملكة بلد لا يمكنه الوصول إلى البحار المفتوحة”.
ومن هنا جاء اهتمام الرياض ببلدان تلك المنطقة اللوجستية، حيث بلغ حجم الاستثمارات السعودية بالمنطقة نحو 5 مليارات دولار، فمنذ عام 1975 قدمت قرابة 1.6 مليار دولار أمريكي كمساعدات إنمائية رسمية إلى السودان، و764 مليون دولار لإثيوبيا منذ 2005 وحتى اليوم، كذلك الصومال بقيمة 281 مليون دولار منذ عام 1977، وإريتريا 63 مليون دولار منذ 1995.
ومنذ الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/شباط 2022 زادت أهمية بلدان القرن الإفريقي للسعودية، حيث موقعها المطل على المحيطات وطرق التجارة العالمية والمضيق المتجه من دول الخليج إلى أوروبا والولايات المتحدة، بحسب دراسة أخرى استعرضت جهود المملكة في دعم حضورها ونفوذها في تلك البلدان من خلال استثمار نحو مليوني هكتار (5 ملايين فدان)، فيما أصبحت جيبوتي، مركزًا لوجستيًا لحركة التجارة الزراعية بين المملكة وشرق إفريقيا نظرًا لموقعها المتميز على مضيق باب المندب.
وتساهم السعودية بشكل كبير في إنعاش الاقتصاد الإثيوبي المنهك، ففي خلال السنوات العشرة الأخيرة حصل نحو 305 مستثمرين سعوديين على تراخيص لتنفيذ 141 مشروعًا في مجال الإنتاج الزراعي والحيواني و64 مشروعًا آخر في القطاع الصناعي تقدر قيمتها بعشرات المليارات.
تفاعل دولي
العديد من الدول أبدت تحفظها مما تضمنه هذا التقرير، حيث أعربت الولايات المتحدة عن قلقها مما جاء فيه، فيما قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية “أبلغنا الحكومة السعودية قلقنا حيال هذه الاتهامات”، وأضاف “نطالب السلطات السعودية بإجراء تحقيق معمق وشفاف، وبأن تفي بالتزاماتها بموجب القانون الدولي”، كما حاولت واشنطن النأي بنفسها عن التورط فيما حدث، مؤكدة أن حرس الحدود السعودي المتهم بارتكاب تلك الجرائم لم يتلق أي تمويل أو تدريب من الحكومة الأمريكية.
وفي السياق ذاته طالبت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، الحكومة السعودية، بالرد على ما جاء في تقرير هيومن رايتس ووتش، مضيفة في تصريحات لها أول أمس الإثنين “لذلك أوضحنا كوزارة خارجية أننا نعتبر أن من المهم للغاية بالنسبة لتعاوننا أن نحصل على رد من الحكومة السعودية على تقرير الأمم المتحدة هذا”.
من جانب أكد المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، أن التقرير “يثير قلقًا كبيرًا”، وأنه يتضمن “اتهامات بالغة الخطورة”، مضيفًا “أعلم أن مكتبنا لحقوق الإنسان على علم بالوضع وأجرى اتصالات، لكن من الصعوبة بمكان بالنسبة إليهم أن يؤكدوا الوضع على الحدود”.
فيما قالت المتحدثة باسم المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة ليز تروسيل: “استخدام قوة قد تكون فتاكة بغرض حفظ الأمن هو إجراء مفرط لا يجوز اللجوء إليه إلا في حال الضرورة القصوى”، مضيفًا في تصريحاتها لوكالة الأنباء الفرنسية “محاولة عبور حدود ما، حتى لو كانت غير قانونية استنادًا إلى القانون الوطني، لا تفي بهذا الشرط”.
هل يؤثر التقرير؟
رغم وحشية ما تضمنه التقرير الحقوقي بشأن الانتهاكات الفظيعة التي مورست بحق المهاجرين الإثيوبيين، فإن الذهاب بعيدًا بشأن تأثير ذلك على مستوى العلاقات بين الرياض وأديس أبابا أمر مستبعد في ظل الاحتياج الإثيوبي المستمر للمال والاستثمارات السعودية.
كما تعي حكومة آبي جيدًا حجم النفوذ السياسي والإقليمي للرياض الذي تعاظم مؤخرًا بفعل أزمات الطاقة العالمية الناجمة عن المستجدات التي شهدتها الساحة الدولية خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يجعلها حريصة كل الحرص على تجنب توتير الأجواء مع المملكة، الأمر الذي يكشفه بشكل واضح البيان الصادر عن الخارجية الإثيوبية الذي أكد أنه “وعلى الرغم من هذه المأساة المؤسفة، يتمتع البلدان بعلاقات ممتازة طويلة الأمد”.
على الجانب الآخر فإن نفي السعودية لما تضمنه التقرير لا يعني أنها ستتجاهل القضية برمتها، فهي الأخرى حريصة على إبقاء العلاقات مع أديس أبابا في سياقها الدافئ، حفاظًا على مصالحها اللوجستية هناك، خاصة في ظل التنافس الدولي على تلك المنطقة الحيوية بين القوى الدولية والإقليمية على حد سواء.
ومن هنا ستحاول السلطات السعودية التعاون مع نظيرتها الإثيوبية في إجراء تحقيق نظري لما جاء في التقرير، تغازل به المجتمع الدولي وتخفف الضغوط الداخلية على حكومة آبي أحمد، وفي الغالب لن يفضي إلى شيء، وقد يعقبه لقاءات ثنائية تقدم من خلالها المملكة ترضيات اقتصادية في صورة حزم استثمارية للإثيوبيين، بما يدفعهم لطي تلك الصفحة وغض الطرف عن أي مسائل من شأنها تعكير الأجواء، وهو ما حدث ويحدث مع العديد من الانتهاكات والاتهامات التي تواجهها السعودية في أكثر من منطقة، وتنجح في وأدها من خلال نفوذها المالي.