من جميل الأمثال المصرية الشهيرة “كلام الليل مدهون بزبد.. فإذا طلع النهار عليه ساح”، والمعنى أن الحديث في الليل يجعل صاحبه في منأى عن التبعة والمسؤولية، إذ يجلس مع النسيم الطلق، في ظل من الراحة، ليتمكن من ادعاء فعل ما لا يمكن لسواه أن يفعله إذا ما جاء النهار، وهو إذ يُشهد الناس على ما سيفعل، بل يتفاخر بأنه مع بريق أول أشعة النهار سيكون في مقدمة صفوف الفرسان الشجعان، فإن قوله والعدم سواء، إذ إن حديثه لا يعدو أن يكون دهنًا لليل بزبد أو سمن سريع الذوبان، وما هو إلا أن تشرق أشعة النهار، فتتم إزالته عبر “تسييحه” وتبخره في الهواء!
يناير/ كانون الثاني 2015 كان فارقًا لكاتب هذه السطور، بين معطيات كان الصف الإخواني يرددها بقوة من أن نصر الله بالغ القرب، يوشك أن يظل الشرفاء بظله، وأنه إذ يجئ لا يطرق بابًا، وإنما يدخل إلى الواقع بلا استئذان ومن حيث لا يحتسب كل ثائر مناضل، وكنتُ إذ أعجب من تغير الخطاب، من التنديد بكل الذين يتعرضون إلى الجيش عقب يناير/ كانون الثاني 2011م، مرورًا بأحداث محمد محمود الدامية الأولى والثانية في نوفمبر/ تشرين الثاني، وديسمبر/ كانون الأول من عام الحُلم الثوري، وصولًا إلى نشر صور أفراد الجيش، وهم يحملون المُسنين والمرضى الراغبين في المشاركة في انتخابات مجلس الشعب آنذاك، إلى البراءة الشديدة منه عقب الانقلاب في 3 من يوليو/ تموز 2013م، ونشر صور عنفه وقتل المُسالمين في رابعة وميادين مصر، أي خلال سنتين ونصف السنة فحسب تغير موقف الإخوان من النقيض إلى الآخر، ومع احترامي لداوفع الموقف الثاني، إلا أن الاستراتيجية والتكتيك غابا عن الموقفين، وإلا لما جاءا على هذا النحو المؤسف!
جرت أول انتخابات بعد 25 من يناير/ كانون الثاني 2011م، بداية من 28 من نوفمبر/ تشرين الثاني من نفس العام، وحتى 11 من يناير/ كانون أول من العام التالي، أي أنها كانت في مثل هذا التوقيت، ومن آسف كانت أول مسمار في نعش التوحد لإتمام حلم الثورة إذ ظهر إصرار الإخوان على الثقة في العسكر رغم ما بدا منهم عقب “توهم” نجاح الثورة من خيانات أولها كشوف العذرية، وقد أشرف عليها قائد الانقلاب بنفسه في أعقاب انفضاض ميدان التحرير، وقيل إنها امتدت حتى نهاية عام 2011م، وكان من أسباب بدء فقدان الثقة أحداث محمد محمود بشقيّها، وقراءة بعض الشباب الثوري للموقف على أنه معوق لانتقال السلطة، وهو ما لم يره الإخوان أو رأوه وقصروا دون فهمه!
في الفترة الأولى راقبتُ انفعالات أصدقاء تنظيميين كانوا يصرون أن الجيش العظيم لا يخطئ، وليس السياق هنا دفاعي أو هجومي، ولكنه مُناقشًا لكيفية تكوين القناعات ثم نقضها بسهولة، لأنها لم تبنَ على أساس صحيح منذ البداية، فلدينا طائفة من الجماعة قادت الصف إلى التهلكة بالسير في خضم الأماني والأوهام والحرص على المصالح والمنافع الشخصية، وعقد التحالفات المُعلنة أو غيرها، وبالتالي الخسارة غير المتوقعة، وعقب الانقلاب وفي الفترة الثانية عايشت كم النقمة التي صبها الإخوان على الجيش، وإنني إذ أعذر لهم موقفهم الأخير أتعجب من عدم قراءة جماعة في حجم إخوان مصر للواقع على أي نحو، مع تساؤلات أخرى مريرة عن كيفية اتخاذ القرار، سابقًا، فيها.
في الفترة الأولى راقبتُ انفعالات أصدقاء تنظيميين كانوا يصرون أن الجيش العظيم لا يخطئ، وليس السياق هنا دفاعي أو هجومي، ولكنه مُناقشًا لكيفية تكوين القناعات ثم نقضها بسهولة، لأنها لم تبنَ على أساس صحيح منذ البداية
شهد صاحب هذه الكلمات مظاهرات يناير/ كانون الثاني 2014 الحاشدة، التي صارت من أنحاء الجيزة كلها حتى صبت قريبًا من مستشفى القصر العيني قبيل ميدان التحرير، وتفرقت نتيجة الغاز الشديد والخرطوش وحذر الثوار من الرصاص الحي، لأن درس 6 من أكتوبر/ تشرين الأول 2013 كان ناجعًا، والشهداء الذين سقطوا والدماء التي سالت بخاصة قرب كوبري الدقي.
كان الأمر في إجماله مريرًا، ويومها مات قرابة 60 من زهرة شباب مصر، فيما وزير سابق من الشباب في حكومة الدكتور هشام قنديل قال في حلقتين من “بلا حدود” مع “أحمد منصور” على شاشة الجزيرة قبلها إن 6 من أكتوبر/ تشرين الأول 2013م سيكون مختلفًا عن المظاهرات الحاشدة التي عمت مصر قبله، عقب مجزرة رابعة بالتحديد، لأن هناك استراتيجية وخطة هذه المرة، ولا أنسى مشهد الوزير الأسبق، والمذيع يدقق في الأسئلة، وهو (الوزير) يصر على رأيه محاولًا فك رابطة عنقه من حول رقبته قليلًا فلا يستطيع، وثاني يوم كانت المذبحة مريرة والدماء شديدة، ولا أنسى إن نسيت سيدة متوسطة العمر ركبت إلى جواري في مواصلة عامة، وهي تنوح إثر رؤيتها “مخ” الشهيد هاني المنشاوي” محمولًا في يد فيما آخرون يحملون جسده!
ولكن الآمال المفتعلة في تحقيق “نصر” مُدعي عقب الانقلاب كانت أشبه بالآمال المفتعلة أيضًا في ثبات وعود الجيش بعد حلم ثورة يناير، وفي الحالتين لم يحكم الإخوان خطة، ولم يحسنوا السير وفق منهج، وإنما أطلقوا العنان للخيال دون رؤية أو مجرد دراسة أكاديمية واعية لما حدث ويحدث في بلادهم!
يناير/ كانون الأول 2015م كان على صاحب هذه الكلمات مغادرة مصر قبلها بأشهر، وفي الغربة الجديدة رحت أرقب فريقًا من العاملين في قناة منسوبة إلى الشرعية في نسختها الأولى، ويوم افتتاحها في أبريل/نيسان 2014م كان رئيسها يُصرح للحاضرين أن آماله أكبر بكثير من رئيس مجلس إدارة قناة، بل إنها تتمثل في إدارة بلد، في إشارة إلى رئاسة الجمهورية، فقال البعض إنه يجتهد.
وما حدث للقناة في نسختها الأولى جدير بالدراسة، إذ كادت تتوقف بعد افتتاحها بأشهر، ثم جاء يناير/ كانون الثاني التالي لتستوي لديَّ فكرة أن الخارجين إلى التظاهر إنما هم مدفعون من قبل آخرين، لا رؤية لهم ولا خطة، وإنما يعتمدون على مجرد محض الخيال لا أكثر.
وكان ما كان من رئيس نسخة القناة الأولى، من وعده الثوار دخول مصر في 25 من يناير/ كانون الثاني 2015م، وإعداده خطة متكاملة لفك أسر مصر، وأن ثوارًا من مختلف المحافظات سيخرجون مع الجمع، وأن ضباطًا للجيش والشرطة سوف يخرجون معهم، وأن الدبابات سوف يتم إيقاف عملها، وأن هناك 70 استراتيجية لذلك، وغرفة العمليات تنتظر (القائد) الذي تحدث عبر سلسلة من الحلقات، وأذكر أن زميلة مذيعة ذات شعور بالمسؤولية أدارت الحلقة الأولى التي تم إعادة تسجيلها مع الرجل، فلما ضيقت عليه في الأسئلة تم استبعادها واستبدالها بآخر، ولم يسفر الأمر في النهاية عن شيء، كما لم يُحاسب أحد القائل!
وسبق سياق القناة المشهورة في يناير/ كانون الثاني 2015م كيان لمجلس ثوري، ثم قيل إن كيانًا آخر سيجعل الكيانات الخاصة بالشعوب الغربية بخاصة الأوربية، ترفض الانقلاب المصري، وقيل إن كيانًا ثالثًا سيجمع أطياف العمل الثوري الحقيقيين، ثم أضيف كيان رابع، قال عنه أحد نواب الإخوان في برلمان 2012م إنه مخابراتي قبل الإعلان عنه ثم اعتذر، ثم في النهاية وقبل أشهر تم الإعلان عن كيان خامس من أحد العاملين في القناة المذكورة بعد انتقاله إلى النسخة الثانية منها، إذ انتقلت الراية من رئيس القناة السابق الذي لم يستمر في رئاستها أو تحقيق حلم رئاسة الجمهورية والخطط اللازمة، بعد أن ساعد في تأزيم حياة المئات في مصر بالتسبب في قتل واعتقال ومطاردة المزيد من الثوار، علاوة على آخرين كانوا يعملون في نسخة المحطة الأولى المُنتقلة إلى مرشح رئاسي وبرلماني أسبق شهير.
إنني أغني للأمل حينما يكون وردة طالعة من رحم الأرض.. لكنني أخجل من إيهامكم بالورود المزيفة!
وانفضت الكيانات عن استقالات من الأولى ثم عدم تحقيق شيء، ثم استمرار للثاني البرلماني بعد استقالة رئيسه وانتخاب غيره، لإنه لم يقبل كما أعلن أن يكون تابعًا، ولم يفد استمرار الكيان في شيء، وانفض الكيان الثالث، وقبل الإعلان عن الرابع ثارت كلمات ضده، ثم فشل الكيان الأخير فشلًا ذريعًا في 11 من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
وبعد أن قارب الحس الثوري على الخفوت في مصر انبرى صاحب “المحطة” الجديد، المُوعود أصحابها برئاسة الجمهورية، معلنًا عن كيان جديد، تم الاتفاق بين أعضائه عبر تطبيق “الوات سآب”، وصلت مسودة خطيّة بأعضائه إلى صاحب الكلمات بطريقة أو بأخرى، بإضافات وشطب، وأمام كل موافق اسم المُتصل به، في محاولة تأكيد حتى لا ينفي أحد صلته بالكيان بعد الإعلان عنه!
والمُحصلة أن أناس فيهم حسنو النيّة، وفيهم الراغبون في الظهور أو البقاء في الصدارة، وفيهم المؤمل، وهم في النهاية لم يجلسوا مع بعضهم قبل الإعلان بوقت كافٍ، وصلت المسودة إلى صاحب الكلمات الأحد الأول من يناير/ كانون الثاني الماضي، وتم الإعلان عن الكيان الثلاثاء التالي له، ومن المفترض أن يقودوا جميعًا، كيانًا ثوريًا اصطفافيًا لإنقاذ بلد، وقد وقع على البيان صاحب المحطة الأول ورئيس تحريرها الشاب وآخرون لم يحضروا الإعلان من الأصل.
ورحم الله الشاعر أحمد مطر لما قال: “إنني أغني للأمل حينما يكون وردة طالعة من رحم الأرض.. لكنني أخجل من إيهامكم بالورود المزيفة”.
رحمنا الله من التخبط في صوره المختلفة، والورود المزيفة، وزبد كلام الليل التي لا تغني ولا تسمن من جوع ثوري!