للمرة الثانية يُخدع الملايين من السوريين بهدنةٍ مُذلة هدفها المُعلن وقف إطلاق نار لا يشمل كامل الأراضي السورية، والعودة إلى المسار السياسي للبدء بحل سياسي ترعاه موسكو وتركيا في العاصمة الكازاخستانية الأستانة ينفصل بجوهره عما جرى سابقًا في مباحثات جنيف الأولى والثانية.
أي حل سياسي للحرب في سوريا لا يمكن أن يُبنى إلا إذا سبقه وقف كامل لكل الأعمال العسكرية
من حيث الشكل يبدو منطقيًا أن أي حل سياسي للحرب في سوريا لا يمكن أن يُبنى إلا إذا سبقه وقف كامل لكل الأعمال العسكرية، أي بما يُعرف بتحول كامل لمسار الحرب من العسكرة إلى السياسية.
فعلى مدار خمس سنوات جميع الأطراف الفاعلة في الملف السوري وحتى السوريين أنفسهم يعلمون جيدًا أن جميع المفاوضات من جنيف إلى فيينا أُجهضت لأنها عُقدت في ظل استمرار الأعمال العسكرية، وقد يُعزى السبب لعدم وجود رغبة جدية من قبل المؤثرين لوضع نهاية مُحقة للأزمة.
وما يدفعنا اليوم للتساؤل في الهدنة الأخيرة عن الهدف الباطني لها وعماهية وقف إطلاق النار، وهل فعلًا وبعد مرور ست سنوات من صراع استنزاف كل الأطراف المسببة لشلال الدماء صادقة اليوم في وضع حدٍ لمأساة القرن الواحد والعشرين، وإن كانت كذلك فما شكل هذا الحل وهل سيصب في صالح السوريين المطالبين بالعيش الكريم تحت سقف الحرية أم أنها تسوية مفروضة على الجميع تقتضي تحويل سوريا إلى مناطق نفوذ دائمة تُنهي بشكل نهائي أي وحدة جغرافية لسوريا الحضارة؟
المفارقة الواضحة في اتفاق وقف النار والتي لعبت عليها روسيا أنها استطاعت أن تُقنع الفصائل العسكرية الموقعة على الاتفاق أن حملتها العسكرية توقفت على أبواب حلب بعدما حققت انتصارًا استثمرته بشكل فوري في ارتدائها لباس السلام والسعي قدمًا تجاه تركيا الراعية والداعمة لتلك الفصائل للعمل سوية لحلٍ سياسي غير واضح المعالم ومخترق بجملةٍ من التناقضات بسبب تضارب المصالح بين روسيا وإيران وتركيا.
فكل طرف من الأطراف ينظر للاتفاق بما يتناسب مع مصالحه وضمان لحماية أمنه القومي، وما يضيف غرابة للمشهد هو عدم صمود وقف إطلاق النار واختراقه من قبل إيران ومليشيات حزب الله اللبناني، حيث كانت الخروقات أكثر من 33 خرقًا كفيلة لإعادة النظر بهذا الاتفاق، إذ كيف للقاتل أن يظهر كراعٍ للسلام وكيف يمكن وضع الثقة بأطراف لم تطبق التزاماتها بتطبيق ضماناتها في حماية الاتفاق ولماذا على الجميع أن يُصدق أن حلب هي المعركة الأخيرة للحرب في سوريا؟
تبادل الأدوار بين النظام وإيران في تكثيف الحملة العسكرية على قرى وادي بردى لقتل روح الثورة فيها وضمها للمحمية الإيرانية بعد تهجير أهلها يخبرنا أن إيران تسعى لتأمين الخط الواصل بيت دمشق ولبنان
إن ما يفقد الثقة في الهدنة المزمعة ظهور أكثر من وثيقة واستثناء لبعض المناطق من وقف النار واكتفاء رُعاة الهدنة بتبادل الاتهامات على وسائل الإعلام بإحداث خروقات من دون التوجه إلى مجلس الأمن لإصدار قرار مُلزم تحت البند السابع، كما أن تبادل الأدوار بين النظام وإيران في تكثيف الحملة العسكرية على قرى وادي بردى لقتل روح الثورة فيها وضمها للمحمية الإيرانية بعد تهجير أهلها يخبرنا أن إيران تسعى لتأمين الخط الواصل بيت دمشق ولبنان.
إذًا لماذا لا تُجبر موسكو إيران على وقف النار أم أنها لا تريد ذلك أم أن ما يهمها الآن فقط غسل العار إعلاميًا ورمي كل الكرات في الملعب الإيراني وحزب الله لتُنسينا جرائمها في سوريا على مدار أكثر من عام؟ مما يفسر هنا أن نقاط التفاهمات بين موسكو وإيران هي أكثر من نقاط الخلاف، فروسيا لم تكن لتحسم معركة حلب لولا استعانتها بالمليشيات الإيرانية وعندما أنهت المليشيات المهمة توجهت لفتح معركة جديدة في ريف دمشق يحقق لها توسيع النفوذ في المنطقة ريثما تعد موسكو على المدى البطيء مفاوضات السلام، مع العلم أن روسيا وتركيا كانتا قد أعربتا عن رغبتهما في إنهاء الوجود الإيراني في سوريا وخروج كامل لمليشيا حزب الله إلا أن التصريحات الإيرانية الأخيرة التي جاءت على لسان مستشار الخامنئي تدل وبشكل قاطع أن إيران تعلم مسبقًا أن لا حل قريب قادم لسوريا لا سيما بعد أن قال إن إيران لن تخرج من سوريا ولن تُوقف حملتها العسكرية وبنفس الوتيرة تغنًّى حزب الله ببقاء وجوده في سوريا.
روسيا التي ترغب في عقد مفاوضات الأستانة عاجزة اليوم عن تحقيق ثبات لوقف إطلاق النار، كما أن المحادثات لا يوجد لها أجندات واضحة وعلى الطريق المقابل يحق لنا أن نسأل المعارضة: على ماذا ستفاوضون بعد تحويل زمام القوة بشكل كامل لصالح النظام وحلفائه؟ فربما يكون ما يُحضر له اليوم هو فخ وصك استسلام أخير للفصائل العسكرية للقضاء عليها بشكل نهائيـ وربما تكون إدلب نهاية المطاف لروح الثورة السورية والتوجه بعدها لمرحلة جديدة من الصراع متعلقة بنتائج الأستانة وقبول كل من وقع على الاتفاق بالتوجه لمحاربة الإرهاب (داعش والنصرة) والذي من شأنه أن يفضي إلى تصفية كل من لم تتم تصفيته من الفصائل التي رهنت قرارها للخارج.
قد تبدو الصورة سوداوية بالمدى المنظور إلا أنه لا يُخفى على أحد أن خيار النار لم يكن خيار السورين من تلقاء أنفسهم لولا أن النظام استجلب شذاذ الأرض لقتل شعبه.
فلا يزال السوريون راغبين بوقف حقيقي للعمل العسكري والانتقال إلى مفاوضات جدية تحت مظلمة الأمم المتحدة تسهم بشكل أو بآخر في تحقيق الحد الأدنى من مطالبهم برحيل الأسد والانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية تعددية.
روسيا التي ترغب في عقد مفاوضات الأستانة عاجزة اليوم عن تحقيق ثبات لوقف إطلاق النار
من المؤسف جدًا أن نرى اليوم بعض الأطراف المحسوبة على الشعب السوري والداعمة له تضع يدها بيد القاتل وتدعي أنها تؤيد حرية السوريين وهي بذات الوقت لا تعمل إلا لصالح أمنها القومي وتتاجر بدمائنا وتجعلها سلعة رخيصة متداولة بين أيدي الجميع.
ومن الصعب جدًا أن نتوقع اليوم نهاية لسوريا على أنها موحدة ونحن نراها تتهاوى بشكل متسارع نحو تقسيم مناطقي للنفوذ ولا نستبعد أيضًا الخيار البعيد في الرغبة الأمريكية للمنطقة ككل في رسم سايكس بيكو جديد يحدد فعلًا معالم المنطقة من غير أن تكون لشعوبها أي يد فيها، فعندما نرى مفاوضات تركية روسية إيرانية غائبة عنها حتى النظام السوري والمعارضة، فنحن هنا بصدد مسرحية هزلية، الناظر لجوهرها ينتابه شعور المضحك المبكي ترافقه غبطة من مشاعر متداخلة لا يعرف أي سبيل لتفسيرها بين الحزن واليأس والإحباط.
سوريا قولًا واحدًا لم تعد دولة ذات سيادة ولم تعد موحدة ولن تكون كذلك حتى على المدى البعيد، فقد تحتاج إلى أجيال سورية واعية مدركة لتداعيات الاحتلال الروس الإيراني للبلد، عندها قد يبدأ العمل من جديد لدحر الاحتلال أولًا ولملمة الجراح ثانيًا والبدء من جديد لتأسيس دولة وطنية تضم الجميع، لذا ومن أجل أن تكون حياتنا ذات قيمة علينا أن نقدم دائمًا للآخر ما دامت أروحنا حبيسة في أجسادنا وليس لدينا بديل.