تتصدر صور جفاف الأنهار والبحيرات منصات التواصل الاجتماعية والعناوين الإخبارية مع كل موسم صيفي، تظهر ما كانت عليه قبل سنوات وما آلت إليه، وتتعالى الأصوات العلمية المحذرة من تغير المناخ الذي يؤثر بشكل سلبي على موارد المياه في العالم، إذ يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى تعطيل أنماط التهاطل ودورة المياه بأكملها.
تواجه الموارد المائية خطر الاستنزاف بسبب التوسع السكاني والاقتصادي الضخم وارتفاع معدلات الاستهلاك في العالم، ما يخلق تحديات أمام الدول للوصول إلى الاكتفاء الذاتي والتخطيط لمستقبل أمنها المائي، وهو ما يلفت إليه المفكر الهندي، براهما تشيلاني، في كتابه “المياه والسلام والحرب”، إذ يرى أن حروب المياه الصامتة أصبحت واقعًا لا يمكن للدول أن تتجاهله، فقد أصبحت الموارد العابرة للحدود من أنهار وطبقات حاملة للمياه أهدافًا للمنافسة، ما يرفع من احتمالية الصدام بين الدول المتشاطئة للحصول على نصيب أكبر من الموارد المائية المشتركة.
في الواقع، نرى عدة أمثلة على هذا مع الاختلاف في حيثيات كل حالة، ونناقش في هذا التقرير النزاع الطويل بين تركيا والعراق وسوريا على موارد نهري دجلة والفرات، الذي بدأت نتائجه السلبية تعمّق معاناة السكان، لا سيما في دولتي العبور.
تاريخ الأزمة بين الأطراف
مع نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية، بدأت حدود الدول التي كانت تحت سيطرتها تترسم وتنقسم مواردها، فبعدما كان نهرا دجلة والفرات ضمن حدود دولة واحدة أصبحا في 3 دول متفرقة، إذ ينبع نهرا الفرات ودجلة من تركيا مرورًا بسوريا والعراق حتى يصبان في الخليج العربي، وينشأ نحو 90% من إجمالي التدفق السنوي من نهر الفرات و50% لنهر دجلة من تركيا، ما أظهر الحاجة لوجود اتفاقيات تضمن مصالح الأطراف الثلاث المشتركين بأجزاء من النهر.
لعل أولى الاتفاقيات التي تناولت هذا الموضوع كانت معاهدة لوزان عام 1923 التي نصت على تشكيل لجنة مشتركة بين تركيا وسوريا والعراق – الواقعتين حينها تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني – بهدف حل النزاعات المحتمل أن تثيرها المشاريع الهيدروليكية لهذه الدول، إذ تلزم هذه الاتفاقية تركيا بإبلاغ العراق وسوريا بأي مخطط بنية تحتية جديدة لمشروعات تنوي القيام بها على طول الأنهار.
تعد اتفاقية الصداقة وحسن الجوار التي وُقعت بين تركيا وسوريا والعراق عام 1946 أول خطوة نحو حل مشكلة المياه بين البلدان بعد استقلال كل من العراق وسوريا، وتقضي هذه المعاهدة بتنظيم الانتفاع من نهري دجلة والفرات بين الدولتين والاشتراك وإخطار تركيا العراق بالسدود التي تعتزم إنشاءها على حوضي دجلة والفرات.
لم تتضح بوادر الأزمة إلا بعد إقدام تركيا على بناء سدود دون علم العراق، ما يعد اختراقًا للاتفاقيات الموقعة بين البلدين، بالتزامن مع توجه سوريا لملء خزانات المياه في حوضي الفرات ودجلة، ما ولد مخاوف لدى العراق بشأن مستقبل حقوقه في النهرين، ما دفع الأطراف الثلاث إلى خوض سلسلة من المفاوضات للوصول إلى حل مشترك يرضي الجميع ويضمن مصالحهم، إلا أنها باءت بالفشل حتى نهاية سبعينيات.
زاد من توجسات العراق، الإعلان عن ملء خزان سد “كيبان” في تركيا و”الطبقة” في سوريا، فطرح اجتماعًا على مستوى وزاري لمناقشة الوضع وهو ما رفضته تركيا وكان رد رئيس وزرائها حينها سليمان دميرال أن “ملء خزان “كيبان” من حق تركيا، وتتصرف به كما تشاء، دون ضرورة أخذ موافقة أي جهة كانت”، مضيفًا “لتركيا السيادة على مواردها المائية ولا يجب أن تخلق السدود التي تبنيها على نهري الفرات ودجلة أي مشكلة دولية”، كما تسبب ذلك في خلق أزمة بين سوريا والعراق تدخلت حينها المملكة العربية السعودية لحلها.
استكملت تركيا خطتها ببناء السدود واستغلال مواردها المائية خصوصًا بعدما بدأت استخدام المياه في توليد الطاقة، فعقب تشييد سد “كيبان” سارعت لبناء سدّي “قرقايا” و”أتاتورك” الذي يعد رابع أكبر سد في العالم، بينما أظهرت أنقرة حسن نيتها مع بغداد عام 1978 بتوقيع اتفاقية اقتصادية منحت بموجبها ضمانات شفهية بأنها لن تحرم العراق من المياه التي يحتاجها وأنها لن تستخدم سد “قرقايا” للإضرار بمصالحه، وذلك كرد فعل على مساندة العراق لتركيا في قضية قبرص.
في عام 1987، وقعت تركيا مع سوريا بروتوكولًا ينص على إطلاق الأولى 500 متر مكعب/ثانية من المياه سنويًا على الحدود التركية السورية، لكن سرعان ما رجعت الأزمة لتطفو على السطح بين البلدان الثلاث بعد بدء تركيا بملء خزان “أتاتورك” الذي أدى إلى انخفاض نسبة المياه المتدفقة إلى العراق وسوريا إلى مستويات غير مسبوقة.
أرادت تركيا أن تضع مساعيها بشأن التنمية المائية ضمن مشروع إستراتيجي شامل، فوضعت عام 1989 الخطوط الأولى لمشروع جنوب شرق الأناضول (GAP)، الذي يعدّ الأكثر شمولًا والأكثر كلفة في تاريخ تركيا، وتقوم خطة عمله الرئيسية على تنمية موارد المياه والتربة في منطقة حوض دجلة والفرات من خلال إنشاء 22 سدًا للري وتوليد الطاقة و19 محطة للطاقة الكهرومائية واستثمارات للري على مساحة 1.8 مليون هكتار.
أثر المشروع بشكل سلبي على نصيب العراق وسوريا من مياه النهرين، إذ تشير الإحصاءات إلى أن الخطة التركية ستستبعد 40% من أراضي حوض الفرات بالعراق من نطاق الاستغلال الزراعي وستؤثر على ثلثي الأراضي السورية المروية، عدا عن أن المشاريع المائية التركية خفضت من إمدادات المياه في العراق بنسبة 80% منذ عام 1975.
الأضرار التي نتجت عن سياسة تركيا المائية، دفعت وزارتا الموارد المائية والزراعة العراقية إلى طلب إجراء مباحثات مع تركيا للتوصل إلى حل جدي للحصول على مستحقاتها من المياه، كما أن حدة التصريحات العراقية اشتدت، فقد هدد مسؤول عراقي بقطع العلاقات التجارية والاقتصادية مع تركيا بسبب قطعها المياه.
ترى تركيا في المقابل أن مشاريع بناء السدود والري لا تساهم في تنمية أراضيها فقط، بل تعود بالنفع على جارتيها اللتين تتشاركان بنهري دجلة والفرات، وتتهم العراق وسوريا بسوء إدارة موارد المياه، كما أنها تلزمهما بتنفيذ اتفاقية عام 1997 المتعلقة بمجاري المياه الدولية لغايات غير ملاحية، التي تتخذ من الاستخدام المنصف والعادل وعدم التسبب بأضرار إلى دول المجرى المائي الأخرى مبدأً أساسيًا لها، فضلًا عن مبادئ أخرى لاستخدام مياه الأنهار الدولية.
الثروة المائية في العراق وسوريا نحو الأسوأ
يشتكي سكان العراق من انخفاض منسوب نهري الفرات ودجلة اللذين ينتجان أكثر من 90% من المياه السطحية للعراق، ومن تأثير ذلك على قطاعات الحياة المختلفة، ما يعمّق معاناة الشعب الذي أهلكته الحروب على مر السنوات، إذ توقع مؤشر الإجهاد المائي لعام 2019 أن العراق سيصبح أرضًا بلا أنهار بحلول عام 2040، وستكون ملامح الجفاف الشديد واضحة جدًا في عموم البلاد مع جفاف شبه كلي لنهر الفرات باتجاه الجنوب في عام 2025.
حذرت وزارتا الزراعة والبيئة في العراق في يونيو/حزيران الماضي من أن أزمة المياه تسببت بانخفاض الأراضي الزراعية إلى 50%، وأن البلاد خسرت نحو مليوني دونم من الغطاء النباتي خلال الأعوام العشر الماضية، يضاف إلى ذلك أن العراق يشهد نقصًا في إجمالي معدل الاستهلاك لكل الاحتياجات في العراق يبلغ نحو 20 مليار متر مكعب سنويًا لتلبية احتياجاته.
ورجح رئيس برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في بغداد، آوكي لوتسما، أن يصل نصيب الفرد من المياه إلى 479 مترًا مكعبًا بحلول عام 2030، وهو بعيد تمامًا عن معيار منظمة الصحة العالمية البالغ 1700 متر مكعب سنويًا.
وفي سوريا التي تعتمد على مياه نهر الفرات بشكل أساسي في تلبية احتياجاتها المائية والكهربائية، يعاني سكان كل المناطق على اختلاف الجهات المسيطرة عليها من شح المياه وصعوبة الوصول إليها، ففي مناطق سيطرة النظام تنقطع المياه بشكل مستمر عن السكان لمدة قد تصل لأيام ويعيق ذلك حركتهم اليومية، بل يصل الأمر أحيانًا إلى تأجيل عمليات غسيل الكلى في المشافي بسبب توقف ضخ المياه.
وفي مناطق سيطرة المعارضة في الشمال السوري يعيش الملايين في ظروف معيشية قاسية، يزيد من قسوتها نقص المياه، إذ تؤكد منظمات الأمم المتحدة أن أكثر من 5 ملايين شخص تضرروا من مشكلة نقص المياه شمالي سوريا، محذرة من أن نقص المياه الصالحة للشرب يؤدي إلى زيادة انتشار الأمراض المنقولة بالمياه.
شهر يوليو/تموز المنصرم، أعلنت الإدارة الذاتية أن مدينة الحسكة – توصف الحكسة بـ”سلة خبز سوريا”- وقراها ومخيمات النازحين فيها منطقة منكوبة بسبب انقطاع محطة مياه سد علوك، متهمة تركيا والنظام وروسيا بمسؤوليتهم عن ذلك.
كما أصدرت لجنة الزراعة والري قرارًا ينص على ضرورة تقيّد المزارعين بالمساحة المسموح بها للزراعة وتقليل مساحة الموسم التكثيفي ليصل إلى 33% من المساحة الإجمالية المروية الكلية.
تحذر الجهات المعنية في شمال شرق سوريا من كارثة صحية وزراعية في المنطقة نتيجة الانخفاض التاريخي لمنسوب نهر الفرات وتتهم تركيا بخرقها البروتوكول الذي وقعته مع سوريا عام 1987، إذ لا تحصل الأخيرة إلا على أقل من نصف المتفق عليه أي 200 متر مكعب في الثانية.
مؤثرات تفاقم الكارثة
لا يمكن حصر أسباب وصول أزمة المياه في سوريا والعراق إلى ذروتها بسياسات تركيا المائية فحسب، وإنما هناك أسباب أخرى ساهمت بتفاقم الوضع، أبرزها سوء إدارة حكومتي العراق وسوريا لموارد المياه وآثار التغير المناخي.
ذهب الناشط البيئي أحمد شاكر حنون إلى أن سبب أزمة نقص المياه في العراق يرجع إلى عجز وزارة الموارد المائية عن تقديم الحلول، وغياب الخطط للحيلولة دون استمرار الكارثة، مؤكدًا عدم وجود مساع حقيقية وخطة مدروسة من شأنها أن تنقذ ما تبقى من الأهوار جنوبي البلاد وغيرها من مناطق العراق المتضررة.
وبحسب تقرير أصدره مركز السلام العراقي، فإنّ غياب الإرادة السياسية في العراق طيلة العقود الماضية منعت حل مشكلة المياه في البلاد، مشيرًا إلى إهمال الحكومات العراقية بعد عام 2003 ملف المياه وإحجامها عن مواجهة دول الجوار، إذ اعتمدت غالبية الأحزاب التي ظهرت بعد 2003 على دول الجوار للحصول على الدعم السياسي.
وأكد التقرير أن الميزانيات المخصصة لوزارة الموارد المائية بينت مدى هشاشة هذا الكيان، واصفًا دبلوماسية العراق المائية على مدى السنوات العشرين الماضية بـ”غير المتسقة”، وأن ضعف الاستجابة زاد الجفاف ودمر مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية.
من جهة أخرى يعيش العراق مع إيران خلافات بسبب قطع الأخيرة المياه عنه وتفردها بالموارد المائية المشتركة، إذ تجمعهما أنهار تغذي مساحات حدودية واسعة بين البلدين.
تتمثل سياسة إيران المائية بمنع تدفق المياه عبرها إلى البلدان المجاورة وإعادة تحويل تلك المياه إلى داخل أراضيها، وكان العراق من أوائل المتضررين من هذه السياسة، إذ بلغ عدد السدود الإيرانية المبنية على طول الأنهار المشتركة 1330 مشروعًا نُفذت لأغراض تخزينية وتحويلية، كما قطعت طهران 11 نهرًا عن العراق أو حولت مسارها إلى أراضيها.
وعلى صعيد آخر يعد العراق البلد الخامس الأكثر تأثرًا بالتغير المناخي في العالم، إذ حذرت منظمة الأغذية التابعة للأمم المتحدة “الفاو” أن منطقة الأهوار العراقية تعاني أشد موجة حرارة منذ 40 عامًا.
وينبه رئيس برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في بغداد آوكي لوتسما إلى أن “زيادة درجة الحرارة بمقدار درجة مئوية واحدة وانخفاض هطول الأمطار بنسبة 10% بحلول عام 2050 سيؤديان إلى انخفاض بنسبة 20% في المياه العذبة المتوافرة، وبالتالي انخفاض بنسبة 25% في كمية المياه التي تستخدم لقطاع الزراعة الذي يستهلك معظم مياه العراق”.
وفي سوريا أدت سنوات من سوء الإدارة وغياب خطة واضحة لاستغلال الموارد المائية التي تشكل عصب الحياة لملايين السوريين إلى تفاقم أزمة المياه، إذ تقول المهندسة أنيلي كورته التي عملت في سوريا في أوائل القرن الحاليّ إن محطات التنقية الأربعة الكبيرة في سوريا لم يتم إدارتها بالشكل الصحيح، مضيفةً “بدلًا من اتخاذ الإجراءات الاحترازية المناسبة، فإن أعمال الصيانة لا تنشط إلا في حالة حدوث أعطال كبيرة فقط”.
وبعد اندلاع الثورة السورية، استخدم نظام الأسد المياه كأداة حرب ضد الشعب السوري، فقصف ودمر العشرات من محطات ضخ المياه كان آخرها أمس، إذ استهدف قصف جوي للنظام وروسيا محطة مياه خارجة عن الخدمة غربي مدينة إدلب وأسفر عن مقتل مدنيين اثنين.
شملت منهجية النظام التي تهدف إلى قطع كل إمدادات الحياة عن السكان في مناطق المعارضة إلى قصف منابع المياه وإغراق مناطق في أحيان أخرى، كما أسهمت عمليات التهجير القسري المكثفة بين عامي 2016-2018 ونقل مئات الآلاف من المقيمين في المناطق المحاصرة إلى مناطق إدلب وريف حلب في عملية تغيير ديمغرافي وإعادة توزيع سكاني لا تتناسب مع الموارد الطبيعية لبعض المناطق وقدرتها على تأمين الاكتفاء الذاتي للسكان من الغذاء والماء.
يلفت المفكر الهندي براهما تشيلاني إلى أن قيمة المياه تعدت أهمية الثروات الباطنية كالنفط والمعادن بالتطرق إلى أن سعر التجزئة للمياه المعبَّأة أعلى من سعر البيع الفوري للنفط الخام، ما دفع المستثمرين إلى النظر للمياه باعتبارها النفط الجديد للقرن الحادي والعشرين.
ويشدد تشيلاني على أن الأمل بأن يعيش العالم بسلام حول المياه والموارد الطبيعية ما زال موجودًا، إذ لطالما لعب نقص المياه دور المحرك للبراعة الإنسانية، ويؤكد أن التعاون المائي العابر للحدود لا يمكن أن يتوقع له الاستمرار إذا لم تتعايش الدول المتشاطئة وتنحي الخصومات فيما بينها.