“لا يمكنك لعب دور الإله؛ إذا لم تكن على دراية بالشيطان”
د.روبورت فورد
ملاحظة/ هذا المقال لا يتضمن حرق لأحداث المسلسل
ابدأ هنا اليوم في مقال أسبوعي يتحدث عن مسلسل WESTWORLD وعن ما يجري بالفعل فيه وعن التفاصيل الغائبة وعن مدى عمق الحوارات المطروحة فيه.
مقدمة المسلسل
قرأت للكثير ممن قدموا مراجعات وتقييمات وشروحات للمسلسل لكي لا أقع في خطأ التكرار
المسلسل يحكي عن عالم متطور في زمن رعاة البقر (CowBoys) كل ما فيه صناعي تماماً من الحجر إلى البشر، عُرِّف للناس أنه حديقة ملاهي بشرية، تدفع تذكرته وتدخل لتفعل ما تشاء “حرفياً” مع سكان هذه الحديقة (The hosts)، ولكن الأهداف التي بنيت عليها أعمق من مجرد اللهو مع بعض الآليين الذين يبدون كالبشر.
“طريقة صنع المستضيف”
و لكني أستغرب عدم وجود _مما قرأت_ من تكلم عن فكرة (تفعل ما تشاء داخل الحديقة)، هذه الفكرة فقط كانت كفيلة بأن تُظهر أن تَخيُلها فقط قد ينحصر في (قتل، اغتصاب، نساء، تعذيب، إدارة عصابة…إلخ) لا أحد يفكر أنه لو كان له الخيار أن يفعل ما يشاء في الأرض دون خوف من حساب أو عقاب، ان يذهب لتلقي العلم مثلاً.
هذه الفكرة ليست مجرد بداية لحبكة الكاتبين، نحن نتكلم عن أحد أقدم الصراعات بين الفلاسفة حول فطرة الإنسان، وحول النقطة المركزية لجميع الديانات، سماوية أم غير سماوية
وعلى ذكر الأديان، HPO وهي الشركة التي أنتجت المسلسل، مشهورة بأنها لا تلقِ بالاً بالثالوث المحرم (الدين، الجنس، السياسة) فتسرح وتمرح كما تشاء بل قد تجعل من المثلث هذا دائرة عميقة القطر؛ لا حواف ولا حدود لها.
هذا المسلسل هو عالم من قِطعِ أُحجيةٍ كَبِيرة، يُريد مُصمُمها أن تَضَعَ قِطَعَهَا بنفسك، فهو يضع لك مسار لا تعرف جوانبه ولا نهايته؛ لكنك تعرف عن وجود شيء ما، أو أنه أراد أن تظن بوجوده .. من يدري.
هذه الأحجية هي عالم من التقنية والأدب وعِلميّ الفلسفة والإجتماع في آن واحد، كل قطعة منها تحوي كل هذا، حوارات هذا المسلسل كانت تتضمن أجزاء من حوارات مسرحيات شكسبير وعبارات أبطال روايات كونان دويل ومعاني قصائد جون دون وغيرهم، نحن هنا نتحدث عن عمالقة في الأدب، وعن كاتب جعل من إنتاج هؤلاء، نصوصاً في مسلسله، فمن لا يعرف مصدر تلك العبارات فلن يلاحظ أي فرق بينها وبين كل الحوارات الأخرى .. فتخيل جمال النص لهذا المسلسل.
قد يصنف المسلسل ضمن الخيال العلمي .. غير أنه يستند على أبحاث جارية لا عن نظريات تُناقش، بل ووصل الأمر أن طورت العملاقة Google أبحاثها في مجال (Deepmind) وبدأت بإضافة فكرة الأحلام لكل الروبوتات التي تُجرى عليها الأبحاث بشأن الذكاء الصناعي، في سبيل إيجاد درب للذكريات وإيجاد وعي صناعي، الذكاء الذي يريد مصمم هذه الحديقة أن يجعله بمحاكاة الذكاء الإنساني وبطريقة بناء؛ تشبه تشكله عند الإنسان نفسه، لا عن طريق البرمجة فقط.
“مستضيفات يعملن في الدعارة لصالح الضيوف”
يعتمد المسلسل في حبكته الرئيسية عن نظريات فلسفية تمس بالوجود الإنساني والوعي البشري بدرجة أولى، فيناقش مسائل مثل الإدراك والإدراك الحسي وارتباطهما بالوعي واللاوعي وتكوين المنطق عبره، والذكريات ودورها في صناعة الوعي البشري وإتخاذ قرارات تمس الإحساس بما جرى.
ويناقش ببساطة فكرة الخالق والمخلوق عن طريق الصانع والمصنوع بحوار قد يزعج المتحفظ دينياً، ويرميك بين نظريتين فلسفيتين طالتهما يد كبار الفلاسفة وهما (الغائية والعدمية)، كما أنه يناقش فكرة القدر، والرضا، والتسليم، ونظرية ميكافيلي المشهورة: الغاية تبرر الوسيلة.
وأعتقد شخصيا أنه من المستحيل ألا يجعلك المسلسل تفكر بالسؤال المشهور فلسفياً: هل الإنسان مخيّر أم مسيّر!؟
وهل نفعل ما نريد لأننا نريده، أم أننا صمّمِنا لنفعل هذا الشيء ونظن أنه من أنفسنا.
“دكتور فورد والمهندس برناند: العقل المدبر للحديقة”
مع تواصل حلقات المسلسل تبدأ قطع الأحجية بالتغير وتضيف الأحداث مساحات جديدة في الصورة فتضع قطع جديدة لتوضح ماهيتها، وتزيل أخرى كانت وضعتها، وتترك دوماً القطع قبل الأخيرة لكي تركبها كما تحب ان تشاهد الصورة.
يمكن لي أن أقول أن السؤال صار أقرب أن يكون حاسة جديدة في ما يحدث، حيث وأنك تتساءل دوماً عما جرى وما يجري ولماذا وكيف وأين .. وفي المقالات الأخرى سأضيف أن المسلسل كان يشرح نفسه دون أن تدري، فكمية التفاصيل التي كانت موجودة أكبر من أن تُلاحظ بمجرد متابعة واحدة للحلقة وكمية الرموز في الصور والحوار تحتاج قارئ فلسفة جيد؛ لتكتمل بعض الصور لديه مبكراً
أيُ زمنٍ هو الذي تدور فيه الأحداث!؟ .. لن تعرف حتى تصل للنهاية .. فالمسلسل يَجعَلُكَ تَظن أن الوقت غير موجود بالفعل، ترى الليل والنهار والشمس والقمر في ذات المشهد وذات الحدث، هناك من يتحكم به وكأنه من أوجده، ثم تُبين النهاية العدد الفعلي للزمان في المسلسل.
هذا المسلسل مدرسة في النص وبناء الحوار والموسيقى، يأسرك في مشاعر هو من يوجدها وينهيها، يجعلك تفقد بوصلة الإحساس بين الحقيقي واللاحقيقي يتحكم فيمن تحب وتكره وفي من تتعاطف وتنبذ، وفيما تفكر .. يقودك لنظرية ثم يثبت لك بعدها أنه لربما بهذا الوعي، لا تستحق أن تكون إلا ضمن آلات حديقة (WESTWORLD)، أو لعل نظرياتك تجعلك مناسباً أن تصمم حديقتك الخاصة .
يتبع…