في إطار سياسة غير مفهومة إلى حد اللحظة، قررت وزارة الداخلية المغربية منع التجار من بيع وخياطة وترويج النقاب “البرقع” لأسباب أمنية، في حركة أثارت ردود أفعال غاضبة داخل الأوساط السلفيين.
المغرب الذي يصوره الإعلام الغربي بالنموذج الأنجح في مكافحة الإرهاب في المنطقة، يبدو أنه اختار التصعيد وتقديم أبرز هدية للمتربصين به في الداخل والخارج، ونعني هنا الجهاديين والذئاب المنفردة الذين عجزوا عن تنفيذ أي هجمات داخل المغرب خلال السنوات الأخيرة.
يعرف المغرب بنظامه البوليسي المسيطر على المشهد العام داخل البلاد، فصلاحيات وزارة الداخلية قد تبدو مقيدة على الورق، لكنها في الواقع الساهرة على حفظ الأمن العام ومن صلاحياتها اتخاذ القرارات اللازمة دون نص قانوني قطعي من قبل البرلمان المنتخب، والذي يشكل إسلاميو حزب العدالة والتنمية غالبيته، وهو ما يؤيده القرار الأخير بمنع خيط وبيع النقاب وسحبه من الأسواق.
القرار الأخير الصادر عن مسؤولي عمالات مدينة الدار البيضاء والدوائر الأمنية والقاضي بمنع أنشطة خياطة النقاب والبرقع الأفغاني لفائدة النساء المنتقبات، والذي تم توجيهه إلى أصحاب محلات الخياطة بمجموع أحياء المدينة، أثار حفيظة الدعاة السلفيين المعروفين على غرار أبو الفضل عمر الحدوشي والحسن الكتاني ومحمد الفزازي، والذين كانوا في وقت من الأوقات سجناء بمقتضى قانون الإرهاب على خلفية اتهامهم بالوقوف وراء تفجيرات الدار البيضاء التي هزت المغرب عام 2003.
المتأمل في سيرة رموز السلفية الجهادية المغربية في وقت من الأوقات، يلحظ تغيرًا واضحًا في مسيرتهم الدعوية بعد خروجهم من السجن بعفو ملكي خاص عام 2011 و2012 وعلى رأسهم الشيخ عمر الحدوشي صاحب مقولة: “دخلنا السجن أسودًا وخرجنا منه أسودًا”، وهو ما رآه مراقبون سعيًا ملكيًا لـ”ترويضهم” وإدماجهم وسط الأحزاب السياسية الخاضعة لسلطة القانون والدستور، لأن “من مصلحة الدولة أن تكون هناك قطط مدجنة تعمل داخل الأحزاب السياسية عوضًا عن التعامل مع قطط متوحشة تعمل خارج الأحزاب”.
نتائج الإفراج ورهان الملك محمد السادس لم تتأخر كثيرًا، فبعد أن تناقلت منتديات الجهاديين أخبار إطلاق سراح رموزهم في المغرب، انقلب الأمر إلى سب وشتم لهم، بسبب ما اعتبروه موالاة هؤلاء المشايخ لـ”الطواغيت”.
فعلى سبيل المثال، أصدر الشيخ محمد الفزازي، أحد الدعاة المفرج عنهم، فتاوى ضد المظاهرات ولصالح الحفاظ على وحدة البلاد تحت قيادة الملك محمد السادس، معتبرًا كل من ينقض البيعة الشرعية له خائنًا، وذلك بعد إعلان تنظيم الدولة الإسلامية عن إقامة “الخلافة الإسلامية” وتنصيبها لأبو بكر البغدادي كخليفة للمسلمين ودعوة عموم المسلمين لمبايعته.
وقال الفزازي في تدوينة عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” في 8 من يوليو 2014: “يعتبر خائنا لله والوطن والملك كل مغربي نقض البيعة الشرعية لأمير المؤمنين محمد السادس التي أجمع عليها المغاربة وهي بيعة عمرت 12 قرنًا والالتفات لتفاهات سياسوية شرق أوسطية، فنحن كمغاربة لنا شرعيتنا ولنا استقلاليتنا ولنا دولتنا متجذرة في عمق التاريخ، ومن أراد مبايعة خليفة الوهم، النكرة المعتوه البغدادي عليه أن يرحل عنا، فلا هو منا ولا نحن منه… لا مكان للخونة بيننا”.
فتوى الفزازي جاءت بعد نحو 4 أشهر من إمامته للملك محمد السادس في صلاة الجمعة بمسجد طارق بن زياد بطنجة، حيث قال وقتها إن الانطباع الرئيسي الذي تركه لقاؤه بالملك محمد السادس، أنه بغض النظر عن كونه سلطانًا وأميرًا للمؤمنين فهو إنسان قمة في الحياء والإنسانية وقمة في الأخلاق والأدب والتواضع بشكل لا يمكن أن يوصف، ولا يمكن أن يعرفه سوى من تقرب إليه وتحدث معه.
موقف الشيخ محمد الفزازي لم يتغير حتى مع قرار منع خياطة وبيع النقاب، حيث اعتبر أنه من المستحيل أن يُقدم أعوان السلطة على منع النقاب لو افترضنا جدلاً أن الخبر صحيح، مضيفًا أن المنتقبات إذا لم يجدن نقابًا في السوق سيخطن نقابًا في البيت، قبل أن يتساءل “أم ستعاقب المنتقبات بغرامة كما هو الحال في فرنسا؟ وهذا غير مقبول”.
على صعيد متصل، يرى الشيخ عمر الحدوشي أحد أبرز الرافضين لتراجعات الفزازي بعد خروجه من السجن، وإن كان هو أيضًا قد “تراجع” عن أفكاره ومعتقداته وفق ما يرى كثير من مناصريه سابقًا، رغم تأكيده في أكثر من مناسبة أنه لم “يكن في يوم من الأيام متقربًا للسلطان”، أن قرار وزارة الداخلية المغربية الأخير تمهيد لمنع اللحية والشعائر شيئًا فشيء.
الحدوشي المعروف بأنه من المفتين بمشروعية النقاب ووجوبه، صرح في فيديو على صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” أنه كان يتمنى فعلاً أن يرى قرار منع “لباس الفسق والعهر” بدل منع بيع النقاب الذي يقف وراءه من أسماهم بـ”السفهاء”، مشيرًا إلى أنه يمني النفس أن يكون هذا القرار عفويًا وغير مبني على تأمل وتفكير دقيق من قبل صنَاعه وإلا فإنه قد يترتب عنه مشاكل قد لا تحمد عقباها، لأن ما يسود في المجتمع من ظواهر كالإفطار العلني وسب للمعتقدات الإسلامية والشذوذ يجعل “باطن الأرض خيرًا من ظاهرها” وفق تعبيره.
نشير هنا إلى أن الشيخ الحدوشي، يعرف بهجومه ونقده اللاذع لتنظيم الدولة الإسلامية، رغم أن الأخير عرض عليه تولي منصب “المفتي الشرعي” بجانب استلام أموال مقابل تلك المهمة وفق تصريحه لصحيفة “الراي” الكويتية في سبتمبر 2015، في المقابل لا يخشى من إظهار تعاطفه مع تنظيم القاعدة ومباركة أعماله، كما يعرف عنه علاقته العدائية مع السلطات المغربية رغم العفو الملكي الذي نال حريته بمقتضاه، لكن هذه العدائية لم تتحول إلى صدامية منذ وقت خروجه من السجن.
إن قرار وزارة الداخلية بمنع خياطة وبيع النقاب يبدو رسميًا إلى حد كتابة هذه الأسطر رغم عدم صدور أي بيان من قبل الجهات المسؤولة، فمجموعة من الحرفيين أكدوا أنهم وقعوا تعهدًا مكتوبًا سلموه إلى الدوائر الترابية، يلتزمون من خلاله بتطبيق أوامر الوزارة التي طالبتهم بالتخلص من هذا النوع من اللباس في أقل من 24 ساعة، وعدم تسويقه لأي جهة كانت.
تبرير وزارة الداخلية المغربية لهذا القرار يبدو غير مقنع إلى حد كبير، فالتحديات الأمنية لا تمنع الناس من ارتداء النقاب بدعوى أن الإرهابيين يمكن أن يستخدموه لتنفيذ عمليات داخل البلاد، خاصة وأن كل الهجمات التي شهدها العالم خلال الأعوام الماضية لم يشارك فيها أي “منتقب” أو “منتقبة”.
المغرب الذي أصبح مثالاً يحتذى به في نظر كثير من المراقبين في محاربة التشدد والغلو والتطرف والإرهاب، عبر دعم العقيدة الأشعرية والتصوف، وفتح المجال أما الأشاعرة والصوفية لتقديم الدروس العلمية والسلاسل الدعوية، إضافة إلى “تحييد السلفيين” و”ترويضهم”، يبدو أنه بدأ في حربه الخشنة عليهم، خوفًا على سلامة القطاع السياحي المهدد في أي لحظة، لكن هذه الخشونة التي يرى الشيخ عمر الحدوشي أنها تتزامن مع السماح لللشواذ والعاهرات والفاسقين والمفطرين في رمضان ومن يشتمون الرسول بالنشاط، قد تكون هدية ثمينة للجهاديين للترويج إلى أن هناك حرب على الإسلام في المغرب، تستوجب الثأر للحرائر والعفيفات.
القرار الأخير ستكون تداعياته خطرة مستقبلاً، خاصة في علاقة النظام بالسلفيين وتحديدًا منهم الجهاديين، إضافة إلى أن المغرب الذي فشل بعد ثلاثة أشهر من تكليف الملك محمد السادس لرئيس الوزراء الإسلامي عبد الإله بن كيران، في تشكيل حكومة جديدة إثر مشاورات ماراتونية، يقع في منطقة ملتهبة أحرقتها الحروب والثورات المضادة.