أدب السيرة الذاتية أو الـAutobiography، هو فرع من فروع الأدب التوثيقي، حيث تُكتب السيرة الشخصية بضمير المتكلم أو ضمير الغائب، يرويها صاحبها بنفسه مثلما فعل “طه حسين” في “الأيام”، أو يلعب فيها الخيال دورًا كما في “اعترافات” جان جاك روسو، وقد تدور عن التجربة الروحية والتحليل النفسي مثل “اعترافات القديس أوجسطين”، وقد تكون صادمة مثل “الخبز الحافي” لمحمد شكري.
وأدب السيرة الذاتية، رحلة أدبية خالصة، حيث يأخذك الكاتب في جولة تلصص على عالمه الخاص وتجربته الشخصية، وتكون في أحايين كثيرة نوعًا من أنواع التطهر أو سردًا لِما مرّ به وأوصله إلى ما هو فيه.
تاريخ السير الذاتية الأدبية
كان الأديب الفرنسي جان جاك روسو أول من أرسى قواعد هذا الفن الأدبي عام 1700م، حين صدرت سيرته الذاتية “الاعترافات”، ثم تبعه بعد ذلك العديد من الأدباء والشعراء في أوروبا.
ثم انتقل هذا النوع من الفن الأدبي إلى أدبنا العربي عام 1855م، مُتمثلاً في “الساق على الساق فيما هو الفرياق” للشيخ أحمد فارس الشدياق، والذي صدر في باريس، حاملاً الكثير من سيرة “الشدياق” الذاتية وملاحظاته اللغوية.
ثم كتب الأديب عبد الرحمن شكري “الاعترافات” عام 1916م، وطبعه في الإسكندرية، ثم صدرت “الأيام” أشهر سيرة ذاتية في الأدب المعاصر في جزئها الأول عام 1926م، للأديب العالمي طه حسين، ثم تبعها الجزء الثاني عام 1939م.
وكان ذيوع أدب السيرة الذاتية وإقبال القراء على شراء وقراءة مثل هذا النوع من الكتب، سببًا من الأسباب التي دفعت العديد من غير الأدباء إلى تدوين تجاربهم وحياتهم الشخصية، ونقل ما مروا به للآخرين، كالساسة والوزراء والمشاهير والفنانين، الذين قاموا بكتابة مذاكراتهم ونشرها، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر نجيب الريحاني، شارلي شابلن، مارلون براندو، فيدريكو فيلليني، محمد نجيب، أنور السادات، أدولف هتلر، هيلين كيلر، ماري كوري.
لكننا في هذا التقرير سننحاز عزيزي القارئ إلى الأقلام النسائية، حيث سنأخذك في جولة سريعة للتعرف على بعض أشهر وأفضل السير الذاتية الأدبية النسائية التي يجب عليك قراءتها.
أثقل من رضوى – مقاطع من سيرة ذاتية
الحكايات التي تنتهي لا تنتهي، ما دامت قابلة لأن تروى
بعد أن كتبت “الرحلة: أيام طالبة مصرية في أمريكا، نص سيرة” والذي صدر عن دار الآداب، عام 1983م، وسجّلت فيه ما مرت به، إبان دراستها لنيل درجة الدكتوراة من الولايات المتحدة، عادت الأديبة المصرية العظيمة وأستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة عين شمس الدكتورة رضوى عاشور، لكتابة فصول أخرى من سيرتها في كتابها قبل الأخير “أثقل من رضوى – مقاطع من سيرة ذاتية” والذي صدر عن دار الشروق عام 2013م.
لتروي لنا في سرد شيّق سلس، استخدمت فيه ضمير المتكلم، مزيج من مشاهد ثورة يناير وميدان التحرير والشهداء، وتجربتها في مواجهة مرض الشوانوما غامض النوايا طول الثلاث سنوات الأخيرة، ورحلتها العلمية والمهنية مع الجامعة، وعلاقتها الأسرية، وما يحمله الواقع من تقاطع عجيب بين حدي الحياة والموت، لتشرك القارئ فيما عاشته وعايشته من أمل وألم، وما لاقته من نجاحات وعثرات، مؤكدة أن “الحياة، برغم كل شيء، تتجدد وتستمر وتتجاوز، وأن الموت تؤطره الحياة، فهي تسبقه وتليه، وتفرض حدوده، تحيطه من الأعلى والأسفل”.
رحلة جبلية.. رحلة صعبة
إن المشاعر المؤلمة التي نُكابدها في طفولتنا، نظل نحس بمذاقها الحاد مهما بلغ بنا العمر
واحد من أهم ما كُتب في أدب السير الذاتية العربية على الإطلاق، وتُرجم للغات عدة، منها الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية، وعلى الرغم من أنه نُشر لأول مرة عام 1985، لم يفقد بريقه أبدًا وحظى باهتمام العديد من الباحثين في فلسطين والعالم العربي، فـ “فدوى طوقان” أو “أم الشعر الفلسطيني” كما أسماها محمود درويش، سكبت في هذه السيرة الذاتية كل الأسى الذي عانته في طفولتها ومراهقتها وشبابها، بل وعانت منه قبل ميلادها حين حاولت أمها أن تتخلص منها – دونًا عن باقي إخوتها التسعة – بإجهاض الحمل.
ليُصبح هذا الألم رفيقها إلى ما لا نهاية، وتسكبه “فدوى” بلغة شاعرية رائقة في سيرتها الأدبية المدهشة، لتحكي لنا عن معاناة الأنثى العربية في مجتمع محافظ صارم، ومن ثم محتل، والمصائب التي مُنيت بها تباعًا، والتي أثرت في شخصيتها أيما تأثير، وخلقت لها عزيمة وإدراة لا تلين، مكنتها من شق طريقها الوعر في الجبال الصخرية، لتُصبح الشاعرة العظيمة “فدوى طوقان”.
حصيلة الأيام
كل حياة يمكن أن تروى كرواية، وكل شخص منّا هو بطل أسطورته الخاصة
بعد أن ضفرت في الجزء الأول من سيرتها الذاتية “باولا”، مقاطعًا من سيرتها الذاتية وسيرة ابنتها الغالية الراحلة، إبان مرضها الغريب الذي أدخلها في غيبوبة لفترة من الوقت، كتبت الروائية التشيلية “إيزابيل الليندي” بعد ثلاثة عشر عامًا الجزء الثاني من سيرتها الذاتية تحت عنوان “حصيلة الأيام”.
حيث جاءت هذه السيرة، كطقس من طقوس العلاج النفسي، في محاولة للتغلب على ألم الفقد الذي كان كفيلاً بقصم الظهور، وتحطيم ما تبقى من الروح بعد وفاة باولا، لتحكي لنا إيزابيل كيف تحصنت وباقي أفراد العائلة أو “القبيلة” كما تُحب أن تطلق عليهم، ببعضهم البعض، أملاً في النجاة من عاصفة الحزن القاتل التي ضربتهم، وكيف استطاعت من خلال قوتها الفريدة، أن تجمع شتات روحها المكلومة بوفاة ابنتها الشابة.
حيث تبدأ أحداث هذه السيرة في الأسبوع الثاني من شهر يناير/كانون الثاني عام 1992م، بعدما انتهت هي وباقي أفراد القبيلة والأصدقاء المقربين من نثر رماد “باولا” وفقًا لوصيتها المكتوبة قبل أمد طويل من سقوطها في الغيبوبة، التي لم تفق منها، لتظل إيزابيل طول الكتاب، توجه كلامها إلى باولا، وكأن الكتاب رسالة مطولة أو عدة رسائل للحبيبة الراحلة، تُخبرها فيه عن كل ما جرى بعد رحيلها المفجع، كي لا يفوتها شيئًا من أخبار القبيلة التي أحبتها، ولكي تبقى الكاتبة على تواصل مع روح ابنتها.
حملة تفتيش – أوراق شخصية
علق الأديب اللبناني “إلياس خوري” على هذه السيرة الذاتية، قائلاً: “إننا أمام تجربة مثيرة ومدهشة، باعتبار لطيفة الزيات أول كاتبة عربية تُعرّي حياتها أمامنا.
في هذا الكتاب، تكسر لطيفة الزيات حدود السيرة الذاتية، وتكتب عن تجربتها المؤلمة في السجن، ومن ثم تنقل أثر السجن عليها وعلى صديقاتها اللواتي انضممن لها، وعلاقتها بسجّانها وكيف استطاعت أن تُبدّل المواقع وتجعل من السجان مسجون، وتظل هي طليقة الروح، ثم تذهب و تتطرق إلى تجربة أخرى لا تقل إيلامًا عن تجربة السجن، زواجها وطلاقها، وما تركته هذه التجربة من ندوب وجروح، أكثر غورًا من ندوب السجن، بالإضافة إلى موت أخيها عبد الفتاح وربطها لهذا الحدث الخاص بآخر عام.
كانت لطيفة الزيات قد افتتحت سيرتها الذاتية، ببداية كئيبة، وكأنها تُنبه القارئ إلى ما سوف يلاقيه بين صفحات سيرتها الذاتية، حيث قالت: “في الغرفة المجاورة يحتضر أخي عبد الفتاح، لا يعرف أنه يحتضر ولا أحد سواي في البيت يعرف، منحه الطبيب فسحة من العمر من ثلاثة إلى ستة أشهر، ما بين فترات التمريض وصناعة البسمات والدعابات وتزوير الروشتات، حتى لا يعرف أخي بطبيعة مرضه وبحقيقة أنه يحتضر، أجلس لأكتب، أدفع الموت عني، فيما يبدو سيرة ذاتية، لا يكتب لها الاكتمال”.
حيث سعت الكاتبة إلى عكس الأحداث العامة على تاريخها الشخصي، كما سبق وفعلت في روايتها الشهيرة “الباب المفتوح”، لتأتي سيرتها الذاتية مختلفة تمامًا عن تجارب غيرها في الكتابة عن الذات.