في الأسابيع الأخيرة تكررت حوادث الفصل بين الجنسَين في “إسرائيل”، وتحديدًا في الحافلات والأماكن العامة وبرك السباحة، وكانت ذروة الصدام حين أمر سائق حافلة عامة فتيات مراهقات بالجلوس في الخلف وستر أنفسهن، قائلًا: “الحافلة تقدم خدماتها للركاب المتدينين”، كما منعت أخريات من الصعود في يوم كان مخصصًا للمتدينين الرجال فقط.
كما أثارت مؤخرًا وزيرة حماية البيئة الإسرائيلية، إديت سيلمان، جدلًا بسبب خطتها للسباحة في الينابيع الطبيعية، حيث طالبت بتحديد ساعات منفصلة للنساء والرجال، ما تسبّب في مخاوف لدى الحركات النسوية، مع أن مقترحها كان المقصود منه إضافة ساعتَين يوميًّا تقسم بين الجنسَين.
وأصلًا النساء المتدينات في “إسرائيل”، خاصة من الطائفة الأرثوذكسية المتطرفة (أو الحريديم)، لا يسبحن في البحر أو البرك في حضور الرجال، كما يتجنّب عدد كبير من رجال الحريدين السباحة في حضور النساء.
وينظر الرأي العام الإسرائيلي، خاصة العلماني الليبرالي، بقلق إزاء تصرفات الحكومة الحالية، ما أثار مخاوف لديهم منذ أن تولى الائتلاف القومي الأرثوذكسي المتطرف السلطة في أواخر العام الماضي، بأن تتحول دولتهم إلى شريعة دينية.
حرب داخلية بين الأحزاب العلمانية
ومع أن حوادث الفصل بين الجنسَين في “إسرائيل” ليست الأولى التي تحدث في الأماكن العامة والحافلات فهي حقيقة واقعية، ما يثير عاصفة قوية هذه المرة حول إمكانية أن تتحول حكومة نتنياهو إلى الشريعة تحكم وفقًا لقوانين اليهودية الأرثوذكسية الصارمة، لا سيما في ظل المظاهرات الأسبوعية التي تخرج كل سبت اعتراضًا على مخطط إعادة تشكيل النظام القضائي.
وما يقلق الإسرائيليين من تطبيق قانون الشريعة اليهودية، هي الأحزاب الدينية الشريكة في حكومة نتنياهو الحالية التي قد تدفع باتجاه تطبيقها.
وفي مقابلة صحفية للخبير القانوني الإسرائيلي دانيال سيدمان، ذكر “أن نتنياهو ليس متدينًا، لكن من الواضح أن هناك أناسًا معنيين بفرض المزيد من القيود الدينية على الإسرائيليين، بطريقة تشكل تهديدًا لحقوق الإنسان والحريات”، معتبرًا أن ما يعزز تلك المخاوف هو موقف نتنياهو في الكنيسيت، حيث وصفه بـ”رهينة للعناصر الأكثر راديكالية وتشددًا في الحكومة”.
وأعرب سيدمان عن مخاوفه قائلًا: “أعتقد أن إمكانية انتقال “إسرائيل” باتجاه دولة قوانين شريعة يهودية قائمة، لكن في المقابل ستكون هناك معارضة قوية”.
وفي السياق ذاته، يستبعد أشرف بدر المختص في الشأن الإسرائيلي، أن تتحول “إسرائيل” من دولة علمانية إلى شريعة دينية رغم الحوادث الأخيرة، كونها تتكرر من وقت إلى آخر، مشيرًا إلى أنه قبل أكثر من 10 أعوام حاول المتدينون في بيت شيمش (بيت الشمس) تغطية وجوه النساء، كما اجتهد الحاخامات الحريديم آنذاك بمحاولة إصدار فتوى بتعدد الزوجات.
وذكر بدر لـ”نون بوست” أن هناك جماعة دينية تتبع الحريديم يطلَق عليهم “طالبان” للشكل الذي تخرج فيه النساء، بالإضافة إلى محرمات وممنوعات أخرى يتمسكون بها، كمنع استخدام الإنترنت ونشر صور النساء، أو فتح محلات لبيع الهواتف باعتبار ذلك محرمًا.
وأشار إلى أن هناك أعرافًا لدى المتدينين، فمثلًا هناك مناطق تحدد أرصفة للنساء وأخرى للرجال، وكذلك حين الركوب في الباصات الرجال في الأمام بينما النسوة في الخلف.
أما فيما يتعلق بمشاريع الفصل بين الجنسَين، أكّد أنها مجرد أعراف توراتية قديمة، وفي المقابل لا يوجد أي مشروع قانوني للفصل شرّعه الكنيست الإسرائيلي، فقط قوانين دينية متّبعة من قبل الجماعات الدينية.
وبحسب متابعته، فإن ما يتم تداوله عبر وسائل الإعلام من تحول “إسرائيل” إلى دولة شريعة هو مجرد حرب داخلية بين الأحزاب العلمانية لترهيبهم من أجل التكاتف أكثر، مشيرًا إلى أن العلمانيين يستخدمون الترويج لإمكانية الذهاب لدولة شريعة من أجل توحيد صفّهم، والتصدي للمظاهرات التي تحدث كل سبت الرافضة للتعديلات القضائية التي تريدها حكومة نتنياهو.
وفي الوقت ذاته، أكد أن نوايا الأحزاب الدينية منذ تأسيس “إسرائيل” الذهاب إلى دولة شريعة تحكم بالتوراة، لكن بعد عودة المسيح بحسب معتقداتهم.
ويؤكد بدر أن هناك سببَين يمنعان تحول “إسرائيل” إلى دولة دينية، الأول فقهي حيث هناك شريحة واسعة من الحريديم تطبّق الشريعة التوراتية بشكل صحيح، لكن لن يتم تحقيق الدولة الدينية إلا بظهور المسيح وفق معتقداتها؛ والثاني هو العائق السياسي، فالأحزاب الدينية تشكّل نسبة قليلة في الدولة حيث لهم 30 مقعدًا في الكنيسيت من أصل 120 وبالتالي تأثيرهم ضعيف، فهم ليسوا أغلبية يمكنهم تشريع القوانين.
ولفت إلى أن حزب الليكود الإسرائيلي، على لسان قادته، أكد أكثر من مرة بعدم السماح بشريعة الدولة، فقد صرّح نتنياهو يومًا: “لا تخافوا لن نسمح لـ”إسرائيل” بدولة توارة (..) كل ما يجري ليس سوى مناورة سياسية”.
أبرز مشاريع الفصل بين الذكور والإناث
في عام 2011 أقرت المحكمة الإسرائيلية فصل الرجال عن النساء في المواصلات العامة للجمهور المتدين في “إسرائيل”، لكن هذا سيكون بالموافقة الشخصية للنساء والرجال على حد سواء، حيث سيخصَّص الجزء الخلفي في الباصات للنساء في حين يخصَّص الجزء الأمامي للرجال، وبالوقت نفسه يتم هذا الأمر بالموافقة ودون إكراه.
كما يسمح القرار بتخصيص أماكن خاصة للنساء في المواصلات العامة لكن دون إكراه، حيث أكدت المحكمة الإسرائيلية آنذاك على الحرية الشخصية للنساء والرجال في طبيعة اللبس، وكذلك حرية الجلوس في أي مكان داخل باصات المواصلات العامة، ومع ذلك يعطي قرار المحكمة الإسرائيلية أيضًا الحق القانوني للفصل، والذي قد يصل في نهاية الأمر إلى فرض ذلك من قبل المتدينين بالقوة، على عكس ما صدر من المحكمة.
وفي عام 2018 رضخت الأكاديمية الإسرائيلية لإملاءات الحريديين، بعدما سمح مجلس التعليم العالي بتوسيع الفصل بين الرجال والنساء في مسارات تعليمية للحريديين.
وكان موقف مجلس التعليم العالي، والذي قدمه إلى المحكمة العليا، يقضي بالسماح بالفصل بين الجنسَين في الغرف الدراسية فقط، لكن الموقف الجديد يسمح بفصلٍ كهذا في كافة أنحاء الحرم الجامعي، ويتمثل بأيام تعليمية منفصلة للرجال والنساء، واشترط مجلس التعليم العالي بأن الفصل “لا يتم بالإكراه”.
وفي عام 2020 حاولت سلطة الطبيعة والمتنزهات تجربة مشروع الفصل بين الجنسَين، وتخصيص ساعات استحمام منفصلة في محمية “عين تسكيم”.
أما في نهاية عام 2022، تزامنًا مع تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية، سادت حالة من الجدل حول دعوات الأحزاب الدينية للفصل بين الجنسَين في المناسبات العامة، فالأحزاب الصهيونية الدينية وتحالف “يهدوت هتوراة” يريدان إضفاء الشرعية على فصل الرجال والنساء في الفعاليات الثقافية والتعليم والخدمات العامة، لكن سرعان ما لاقى ذلك إدانات من قبل مسؤولين على رأسهم رئيس الوزراء السابق يائير لابيد.
وعبّر لابيد عن غضبة قائلًا: “بينما تكافح النساء الشجاعات في إيران من أجل حقوقهن، فإنه في “إسرائيل” يحاول زعيم حزب الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريش وداعموه المتطرفون إرسال النساء وراء الحواجز، وإدخال الفصل بين النساء والرجال في القانون”.
وأضاف: “لن تكون حكومة يجلس فيها المتشددون دينيًّا، بل ستكون حكومة يحكمها المتشددون دينيًّا حكمًا كاملًا”، متسائلًا: “أين الليكود؟ لماذا هم صامتون؟ نحن لسنا في إيران”.
وما تفعله الأحزاب الحريدية من تحريك مشاريع قوانين والسعي نحو إجراء تعديلات على تشريعات تتعلق بعلاقة الدين والدولة، والحفاظ على تعليم الدين التوارتي، والفصل بين الجنسَين، يصفه العلمانيون بـ”الإكراه الديني”، وفيه مؤشر إلى تعميق الشرخ والصراعات ما بين التيارات العلمانية والأحزاب الدينية والحريدية.