بالرغم مما تعانيه قارة إفريقيا من أزمات اقتصادية طاحنة، وفوضى أمنية عارمة، إلا أنها لازالت قبلة القوى الدولية، شرقا وغربا، نظرا لما تمثله من أهمية لوجيستية فرضها موقعها الجغرافي الذي يسيطر على أهم الممرات البحرية في العالم، فضلا عما تحتويه من ثروات وموارد طبيعية مهدرة.
وبعد سنوات من التراجع النسبي لموقع القارة السمراء على رادار الاهتمام الأمريكي، تعود إفريقيا من جديد لتشغل الحيز الأكبر من الوجود العسكري لقوات العمليات الخاصة الأمريكية، مقارنة بما كانت عليه في السابق، سواء من حيث العدد والانتشار، أو من حيث الأهداف والدوافع.
33 دولة إفريقية تحت السيطرة الأمريكية
نشر موقع “انترسبت”الأمريكي، تقريرًا حول التواجد العسكري الأمريكي داخل دول القارة الإفريقية خلال عام 2016، وما شهده من نمو ملحوظ مقارنة بالسنوات السابقة، ما دفع الموقع إلى وصفه بـ”النمو الأكثر دراماتيكية” مقارنة بغيره من مناطق العالم.
التقرير أشار إلى حجم الفارق بين انتشار القوات الأمريكية في إفريقيا منذ عشر سنوات وبالتحديد في 2006، مقارنة بما وصلت إليه نهاية 2016، ملفتا إلى أن ما يقرب من 1% فقط من القوات الأمريكية المنتشرة حول العالم كانت من نصيب إفريقيا، بينما بلغت مع نهاية العام الماضي إلى ما يقرب من 26.17% داخل دول القارة، لتأتي في المرتبة الثانية بعد قوات الولايات المتحدة التي نشرتها في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن بحجة محاربة الإرهاب.
وأضاف الموقع: باستخدام البيانات المقدمة من قبل قيادة العمليات الخاصة والمعلومات المفتوحة، نشرت الولايات المتحدة في الواقع قواتها في ما لا يقل عن 33 دولة إفريقية من بين 54 دولة في القارة، بنسبة أكثر من 60٪ خلال 2016، ما يعني تغيرا واضحا في الإستراتيجية العسكرية الأمريكية، خارجيا بصورة عامة، وإفريقيا بصفة خاصة.. وهو ما يدفع للتساؤل حول الهدف من تواجد هذه القوات في القارة الفقيرة اقتصاديا، والفوضوية أمنيا.
“انترسبت”: نشرت الولايات المتحدة في الواقع قواتها في ما لا يقل عن 33 دولة إفريقية من بين 54 دولة في القارة، بنسبة أكثر من 60٪ خلال 2016
ما الهدف؟
بحسب تصريحات الجنرال دونالد بولدوك، قائد العمليات الخاصة الأمريكية لقيادة الدفاع في إفريقيا، التي نقلها “انترسبت”حول الهدف من التواجد العسكري الأمريكي داخل إفريقيا، قال: “نحن لسنا في حالة حرب في إفريقيا ولكن نحن نتواجد هناك لأن الأفارقة شركاؤنا بالتأكيد”.
هذا التصريح الذي ينفي أي بعد عسكري استخباراتي من وراء هذا التواجد يتنافى تماما – بحسب الموقع – مع البعثات التي أرسلتها الولايات المتحدة الأمريكية هذا العام في الصومال، على سبيل المثال، حيث تقوم قوات العمليات الخاصة “الكوماندوز” الأمريكية بمساعدة القوات الخاصة المحلية، في قتال أعضاء الجماعة المسلحة لحركة “الشباب” وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في ليبيا، حيث دعمت المقاتلين المحليين الذين يقاتلون أعضاء الدولة الإسلامية، ولكن دعمها هذا عمل على نشر الإرهاب بشكل أكبر.
دونالد بولدوك: نحن لسنا في حالة حرب في إفريقيا ولكن نحن نتواجد هناك لأن الأفارقة شركاؤنا بالتأكيد
كما أن من المؤشرات التي تقود إلى تفنيد تصريحات قائد العمليات الخاصة الأمريكية لقيادة الدفاع في إفريقيا، تردد واشنطن في الإعلان عن عدد القوات الموجودة في القارة، حيث قيل إنها حوالي 700 من القوات الخاصة المنتشرة في إفريقيا، بينما اليوم، وفقا لبولدوك، هناك ما يقرب من 1700 من قوات العمليات الخاصة الفاعلة في 33 دولة إفريقية لدعم سبع عمليات كبرى في القارة، مايدعو للتساؤل عن التعتيم الذي تفرضه واشنطن على وجودها العسكري خارجيًا.
انتشار مكثف للقوات الأمريكية في الصومال
12قاعدة عسكرية سرية
حالة من الجدل داخل الأوساط العسكرية – الأمريكية والإفريقية –على حد سواء، جراء التقرير الذي نشرته مجلة “زون ميليتار – أوبكس 360” الفرنسية المتخصصة في القضايا العسكرية والإستراتيجية، مؤخرًا، نقلته عنها صحيفة “الشروق” التونسية، أشارت فيه إلى الانتشار الواسع للقواعد الأمريكية في إفريقيا ووجود ما لا يقل عن 12 قاعدة أمريكية “سرّية” في إفريقيا، تم إنشاؤها وسط تعتيم رسمي شبه كامل للولايات المتحدة الأمريكية حيال هذا الانتشار.
كما أشارت مصادر للصحيفة إلى أن الوجود العسكري الأمريكي يشمل إجمالا نحو ألفي جندي منهم 300 جندي وطائرة مراقبة في أوغندا و120 جنديا في نيجيريا و20 في الصومال، لتدريب وتوجيه القوات المسلحة في هذا البلد، إضافة إلى 100 جندي في النيجر علاوة على الفوج العسكري الأمريكي لتحقيق الاستقرار في جنوب السودان، الذي تهزّه الحرب الأهلية.
12 قاعدة عسكرية أمريكية “سرّية” في إفريقيا تم إنشاؤها وسط تعتيم رسمي شبه كامل للولايات المتحدة الأمريكية
وتحدّثت المصادر نفسها عن أن أبرز القواعد الأمريكية في إفريقيا توجد في واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو، والتي تستخدم كنقطة انطلاق للتحليق في سماء شمال مالي حيث تتمركز المجموعات المسلحة مثل تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، وجماعة أنصار الدين والحركة الوطنية لتحرير آزواد.
وبعيدا عن الدوافع والمبررات التي تسوقها المواقع والصحف الأجنبية،لتبرير التواجد العسكري الأمريكي داخل القارة السمراء، يظل السؤال قائمًا: لماذا عادت إفريقيا لتحتل هذه الأهمية لدى الإدارة الأمريكية بعد هذا الغياب الطويل؟
إفريقيا.. لماذا؟
بالرغم من تشكيك البعض في مكانة وقيمة القارة الإفريقية كونها واحدة من أكثر المناطق ثراء في العالم، غير أن الاضطرابات الأمنية والسياسية والمخططات الاستعمارية حالت بينها وبين الاستفادة مما لديها من طاقات وإمكانيات، إلا أنها باتت في الفترة الأخيرة قبلة للباحثين عن الاستثمار والموارد البديلة، في ظل ما تمتلكه القارة من مقومات جغرافية واقتصادية غير مسبوقة، قد لا تتوفر لدى نظيراتها من القارات الأخرى، وهو ما جعلها مطمعًا للكثير من القوى العالمية الكبرى، من بينها الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند.
لذا فإن الاهتمام العسكري الأمريكي بإفريقيا يعود إلى امتلاكها لأهم مضيقين لحركة التجارة العالمية، حيث يمر من خلال قناة السويس معظم البترول الخليجي الذي يصدر للولايات المتحدة وأوروبا (70% من النفط الخليجي)، علاوةً على ذلك يمر من خلال مضيق هرمز 40% من نفط العالم، والذي يسيطر عليه الجانب الإفريقية من خلال مضيق باب المندب وخليج عدن على الطريق البحرية الموصلة إلى خليج هرمز.
40% من نفط العالم يمر عبر مضيق “هرمز”
ومن ثم تسعى أمريكا إلى إحكام سيطرتها على هذه الممرات بما يعزز فرص تأمين واستقرار التنقيب عن النفط من جانب، وتأمين مصالحها في المنطقة، عسكريا ولوجستيا، من جانب آخر، وهو ما دفعها إلى إنشاء بعض القواعد العسكرية الخاصة داخل دول القارة.
كما أن اليقين الأمريكي بما تمتلكه القارة من ثروات نفطية ومعدنية دفعها لإعادة النظر في توجهاتها حيالها، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الولايات المتحدة مؤخرا، ما قد يجعل من إفريقيا موردا اقتصاديا جديدًا، يساعد على إخراج واشنطن من مأزقها الحالي.
وفي سياق متصل، فإن التواجد العسكري الأمريكي إفريقيا، يمنحها الأفضلية في مواجهة الأخطار المحدقة بها داخل القارة، خصوصًا في مواجهة التوغل الصيني ثم الروسي والهندي، والذي تجاوز حد البحث عن فرص استثمارية إلى التدخل في شؤون الدول عسكريًا وأمنيًا.
ومن ثم يمكن القول أن إعادة واشنطن حضورها العسكري المكثف داخل إفريقيا والذي تجاوز 60% من دول القارة، يعكس تغيرا واضحا في السياسة الخارجية لديها حيال الدول الإفريقية، ويقدم إفريقيا من جديد كساحة لصراعات القوى الدولية لاسيما بعد التوغل الروسي والصيني والأوروبي داخل بعض دولها.