“إذا وقفوا على محطة وقود ملأوا خزانات سياراتهم الحديثة بوقود يعادل سعره ما أكسبه من شهرَي عمل مضنٍ في أعمال البناء.. من أين لهم هذا؟ وكيف يمكن أن يعيشوا هذا النوع من الحياة الفارهة في الوقت الذي يموت فيه الأغلبية فقرًا وقهرًا؟”.. يتساءل جمال الحسيني المستقر حديثًا مع أمه في منزل أخيه بعفرين، واصفًا الوجه الآخر لمناطق نظام بشار الأسد، وتحديدًا أمراء الحرب الذين لا تعرف شيئًا عن عملهم ونشاطاتهم المالية وتفاصيل حياتهم الباذخة، والتي باتت تثير جدلًا واسع الصدى في سوريا.
“مظاهر البؤس وصور الفقر والجوع اعتدنا عليها منذ كنا محاصرين”، يقول الثلاثيني جمال المنحدر من الغوطة الشرقية، مستدركًا حديثه: “لكن أن ترى السيارات الفاخرة والعقارات الحديثة وحفلات المطاعم 5 نجوم والأعراس المكلفة آلاف الدولارات وأجهزة آيفون وكأننا في أوروبا أو دول الخليج، فهذا الذي يفقدك عقلك ويضع إشارات استفهام كثيرة لبلد يعيش على التناقضات”.
قبل شهر نشر موقع موالٍ على صفحته في فيسبوك إعلانًا يشير فيه إلى مزاد علني حمل رقم 70/ ف م.س، سيتم فيه بيع سيارات سياحية من موديل عام 2023، مرفق بصور لسيارات فاخرة، سبق ذلك الإعلان مزادان في دمشق، الأول بيعت فيه سيارة بي إم دبليو موديل 740i ألمانية المنشأ بقيمة 3 مليارات و850 مليون ليرة سورية، والذي يعدّ ضعف سعرها المتعارف عليه دوليًّا المقدر بـ 93 ألف دولار، أي ما يعادل مليار ونصف ليرة.
أما المزاد الحكومي الثاني في دمشق فقد شهد بيع سيارة من نوع أودي كهربائية طراز 2022 بـ 2.5 مليار ليرة (450 ألف دولار بحسب سعر الصرف حينذاك)، في ديسمبر/ كانون الأول الفائت، حيث انتشر مقطع فيديو من المزاد للحظة بيع السيارة.
أمام مشهد الثراء الفاحش في مناطق النظام المتسيّد أمام حالة الفقر المدقع التي تغزو أغلب البيوت السورية، يظهر التساؤل الأبرز عن تلك الأرقام الباهظة والأسعار الفلكية للسيارات، وكيفية دخول هذه السيارات وغيرها من السلع الكمالية وأجهزة هواتف الآيفون باهظة الثمن، في الوقت الذي تنخر فيه عقوبات قانون قيصر وغيرها مفاصل النظام الاقتصادي بحكومة دمشق.
إذ يعكس هذا واقع شرخ طبقي ساهم في صناعته المتنفذون وأمراء الحرب الذين ظهروا بشكل مفاجئ، وامتلكوا أموالًا طائلة مصدرها الاصطفاف في الحرب التي تعيشها البلاد، الأمر الذي جعل المجتمع السوري يعيش حالة عجز عن فهم تفاصيل الاقتصاد الحقيقي في سوريا، وتناقضًا عجيبًا ما بين أناس يصطفون بطوابير طويلة لتحصيل رغيف خبزهم ويعانون نقص موادهم الأساسية، وما بين مشاهد البذخ والترف في الأماكن الفارهة وشراء السيارات الفاخرة حديثة الصنع.
في حديث مع الباحث الاقتصادي يونس كريم، لفت إلى أن هذه السيارات تدخل عبر الحدود، لكن يتم شراؤها بشكل غير قانوني، أي أنها لا تُشترى من الوكالات ضمن الجغرافيا السورية، أو لتعمل وفق حدود الجغرافيا السورية، بل يتم شراؤها من دول مثل لبنان والإمارات والأردن وكردستان والعراق عبر معبر البوكمال من أفراد الميليشيات العراقية.
مضيفًا لـ”نون بوست” أن هذه السيارات المشتراة يتم قوننتها عبر نقل الملكية وتسجيلها عبر طرف وسيط، ثم يكون بعدها تنازل للطرف السوري الذي يجري مصالحة للجمارك السورية كبضاعة، بعيدًا عن وكالات الشركة المصنّعة التي تحتفظ بأسماء الملّاك من الطرف الوسيط.
وهناك طرق أخرى كشراء سيارات مسروقة من قبل أمراء الحرب، حيث يتم إدخالها إلى المزادات شكليًّا بعد مصادرتها من قبل الجمارك، على حد قول كريم، معتبرًا أن بهذه الطريقة يتم تلافي الكثير من العقبات الإدارية كتسجيل الملكية الخارجية، وهذه المزادات تكون ظاهريًّا للجميع، لكن في حقيقة الأمر تقع على أشخاص متنفّذين حيث تعود إليهم بالتحديد.
حيتان الحرب تتحكم بديناميات الاقتصاد
يعمل أبو يحيى (اسم مستعار بناء على طلبه) في محل لبيع اللحوم في مدينة دوما بريف دمشق، ويقول إنّ محله لم يعد يدخله إلا أشخاص من الطبقة الثرية، “في الوقت الذي اقتصرت فيه متطلبات الطبقة الفقيرة على تأمين رغيف خبزها فقط، إلى جانب الزيت والزعتر كوجبة سائر اليوم”، حسب تعبيره.
“تصطف السيارات الفاخرة أمام المحل ويترجّل منها أشخاص كنا نعرفهم سابقًا ونعرف تاريخهم وأحوالهم قبل أن يغتنوا من تجارة الحرب، خاصة في فترة حصار الغوطة التي امتدت من عام 2012 إلى عام 2018″، كما يقول أبو يحيى، مشيرًا وبكل أسف إلى “أن هؤلاء يعتمد محلنا عليهم في بيع بضائعه، كونهم يدفعون دون حساب”.
يتابع أبو يحيى: “إن هذه الطبقة لا تجد صعوبة في تأمين أبسط احتياجاتها من كهرباء وخبز ومياه نظيفة ودواء، في الوقت الذي ذابت قدماي من المشي ليلًا في الشتاء الفائت بحثًا عن دواء التهاب لطفلي، وكلما سألت الصيادلة عن سبب فقدان الدواء كانت إجاباتهم أن العقوبات هي السبب، ولم أعثر على الدواء إلا عبر أحد زبائني المتنفذين”، متسائلًا: “كيف تؤثر عليّ العقوبات ولا تؤثر عليه، وكلانا يعيش في المدينة نفسها؟”.
تعاني مناطق النظام من عقوبات اقتصادية بموجب قانون قيصر الأمريكي المفروض على نظام الأسد منذ صيف 2020، والتي تتناول معظم بنوده عقوبات اقتصادية ومالية ومصرفية تستهدف بشكل أساسي عملية إعادة إعمار سوريا، ويستهدف أيضًا عددًا من الصناعات السورية، من ضمنها كل ما يتعلق بمشاريع البنى التحتية وصيانة الآليات العسكرية وإنتاج الطاقة، كما يجيز هذا القانون مراقبة أعمال المصرف المركزي في مجال غسيل الأموال، إضافة إلى استهداف شخصيات أجنبية ومحلية تنخرط في معاملات معيّنة داعمة للاقتصاد.
سوء الإدارة الاقتصادية والفساد المستشري ومحاولة أسماء الأسد تشكيل إمبراطورية مالية مشابهة لإمبراطورية رامي مخلوف المالية، سبّبت نفور الكثير من رؤوس الأموال وتوجهها للاستثمار خارج سوريا.
المستشار الاقتصادي أسامة القاضي أشار لـ”نون بوست” إلى أن قانون العقوبات لا يستهدف المنتجات الغذائية والصحية أو حتى الكمالية والرفاهية في سوريا، إنما له علاقة بالتعامل الرسمي مع حكومة دمشق، وبإمكان أي شخص ضمن القطاع الخاص إجراء عمليات الاستيراد من أي مكان يريد.
وتكمن المشكلة -حسب القاضي- في أن 95% من السوريين تحت خط الفقر، ومستواهم المعيشي متدني، حيث انخفض من 300 دولار إلى 10 دولارات بين عامَي 2011 و2023، فلم يعد هناك طلب كبير على الكماليات والسلع ذات القيمة العالية، لافتًا أن المشكلة الأكبر هي عدم توفر قطع أجنبي لاستيراد كميات كبيرة من السلع المطلوبة.
كما أن المرسوم رقم 3 لعام 2020 لعب دورًا كبيرًا في شحّ القطع الأجنبي، لأنه يجرّم التعامل بالقطع الأجنبي دون العودة إلى مراكز الصرافة المعترف بها من البنك المركزي والمقربة من النظام، ما أدى إلى انخفاض النشاط الاقتصادي والتجارة والتحويلات الخارجية.
ولا شك أن سوء الإدارة الاقتصادية والفساد المستشري ومحاولة أسماء الأسد تشكيل إمبراطورية مالية مشابهة لإمبراطورية رامي مخلوف المالية، سبّبت نفور الكثير من رؤوس الأموال وتوجّهها للاستثمار خارج سوريا، وبالتالي شُلّت حركة الاقتصاد التي أثّرت بالمرتبة الأولى على أغلبية السوريين، يوضّح القاضي.
مناورات التهرُّب من العقوبات
يستحضر المستشار القاضي حديثًا لبشار الأسد كان قد قال فيه إن سوريا متعايشة مع العقوبات التي فُرضت عليها حتى قبل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005، “وهذا يأخذنا إلى استطاعته كنظام التعايش عبر تعويض جزء من القطع الأجنبي المفقود حاليًّا، من خلال تجارة الكبتاغون التي تدرّ عليه أرباحًا كبيرة”.
أشار الأسد خلال مقابلة بثتها قناة “سكاي نيوز” الإماراتية الشهر الجاري، إلى تجاوز نظامه عقوبات قانون قيصر رغم أنه عقبة بلا شك حسب وصفه، الأمر الذي أثار تساؤلات كبيرة حول كيفية تجاوز نظامه عقوبات القانون، مقابل استمرار الأزمة الاقتصادية التي يعانيها المدنيون، لا سيما أن تقارير محلية تشير إلى أن الأرقام المتداولة بشأن الوضع الحالي للسوريين لا تلخّص واقعهم الفعلي من الناحية المعيشية والخدمية، فالغالبية الساحقة منهم تعاني من نقص الأمان الغذائي، وقد تخطّت حدود الفقر المدقع بلا رجعة، لتصل إلى مستويات الجوع الكارثي المروعة.
في حديثه لـ”نون بوست”، اعتبر محمد سالم، مدير وحدة الدراسات في مركز أبعاد للدراسات الاستراتيجية، أن كلام النظام عن تجاوز قانون قيصر هو للاستهلاك الإعلامي ليس إلا، فالنظام بالأصل غير مهتم بالعقوبات التي تؤثر بالعموم على المدنيين، منوّهًا أن العقوبات تؤثر عليه وعلى أدواته الصلبة، لكنه نتيجة حالة الفساد والهامش الذي تتيحه فرص المناورة والالتفاف للتهرب من العقوبات واستجلاب الأموال عبر المخدرات، أصبح قادرًا على تأمين دخل لنظامه، ويبقى عموم الناس ومنهم الموظفين بحالة متردية لأنهم لم يدخلوا دوامة الفساد التي تغرق فيها حيتان الاقتصاد.
سألنا سالم عن الرسالة التي أراد الأسد توجيهها عند إشارته إلى تجاوز نظامه عقوبات قيصر، فقال إن الرسالة تلخّصت بأنه لا مانع من استمرار العقوبات، فذلك سيؤدي إلى إزعاج الدول المجاورة، لأن العقوبات على سوريا تؤثر على المدنيين الذين سيهاجرون كنتيجة طبيعية إلى دولهم وتزداد المخدرات، فإذا أردوا تخفيف هذا الموضوع عليهم إدخال الأموال لإعادة الإعمار.
أما الباحث كريم فيرى أن العقوبات جزء هام وخانق للنظام، خاصة على البنك المركزي العمود الفقري للدولة، لأن العقوبات أوقفت نظام الدفع والائتمان الذي يستخدَم لتسديد الفواتير مع العالم الخارجي، إضافة إلى وجود الفساد في مفاصل الدولة نتيجة عدم القدرة على الملاحقة القانونية، وغسيل الأموال والمخدرات وسوء الإدارة السياسية التي أدّت إلى ضعف قدرة النظام على الالتفاف على العقوبات، ما عزز انهيار مؤسسات الدولة.
تسيُّد اجتماعي
رغم الأزمة الخانقة، فإن كثيرين من أفراد النموذج المخملي يعيشون حياة منعّمة، ولا يتوانون عن نشر صورهم التي تعكس حياتهم الباذخة، كارتيادهم للمقاهي والمطاعم ذات النجوم الخمس خاصة في دمشق واللاذقية، وإقامة الحفلات والسهرات الصاخبة في البارات والمنتجعات والملاهي الليلية، وحضور المهرجانات التي نظمتها مؤخرًا شركة مينا للفعاليات الثقافية والفنية، بالتعاون مع وزارة السياحة ووزارة الثقافة في حكومة النظام ومحافظة دمشق، وبرعاية حصرية للسنة الثانية على التوالي من شركة سيريتل، في ظل النفوذ المتزايد لأسماء الأسد.
وتراوحت أسعار البطاقات بين 75 و100 ألف ليرة سورية، إذا ما علمنا أن راتب الموظف الشهري لا يتعدى الـ 120 ألف ليرة سورية، فيما وصل سعر بطاقة الـ VIP إلى 300 ألف ليرة، كما عُرضت “بطاقة ذهبية” لحضور كل الحفلات بقيمة 300 ألف للدرجة الثالثة و400 ألف ليرة للدرجة الثانية، ما يعني أن مثل هذه المظاهر باتت محرّمة على السواد الأعظم من السوريين، بسبب تدني مستوى الرواتب والأجور، وتدهور العملة المحلية أمام الدولار، وتصاعد أزمة الغلاء.
يشير بيان نشرته اللجنة الدولية للصليب الأحمر في يونيو/ حزيران الفائت، أن ما يقارب الـ 90% من السوريين يعيشون اليوم تحت خط الفقر، ويحتاج أكثر من 15 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية.
كثير من أفراد الشريحة المترفة استطاعت أن تكون ضمن إمارة الحرب التي ظهرت بعد اندلاع الثورة السورية، مقتنصة لفرص مالية وتجارية مشبوهة استهدفت قوت البسطاء وسبل عيشهم.
يقول الباحث كريم إنه بأي مجتمع هناك طبقة لا تتأثر بواقع البلاد المعيشي السلبي، لأنها تريد أن تظهر بمظهر المتسيّد اجتماعيًّا، فتمارس حياتها الطبيعية بما تملك من أموال، ولا تفكر بباقي الطبقات وإلا لما استفادت وجمعت هذه الأموال، خاصة مع عدم وجود قوانين فعلية تسألها عن مصدر أموالها.
فيما يفسّر الباحث سالم حالة التباين الكبير في المجتمع السوري بحالة الفساد المترسخة بعد الحرب، والتي أدت إلى ظهور أمراء الحرب الذين ثُرُوا على حساب الفقراء، مستغلين عدم وجود أي محاسبة أو مساءلة، بل على العكس تمامًا، إذ يوجد دعم واضح وتسهيلات مقدمة لهم، فلا مانع من أن يظهروا الرفاهية التي يعيشونها دون أن يكون لديهم أي دافع للتضامن مع الأغلبية المسحوقة الشعبية، خاصة أنهم يعيشون حالة الانتصار الموهوم على كل الصعد، خاصة في حربهم التي يسمونها “الحرب الكونية”.
يمكننا القول ختامًا إن كثيرًا من أفراد الشريحة المترفة استطاعت أن تكون ضمن إمارة الحرب التي ظهرت بعد اندلاع الثورة السورية، مقتنصة فرصًا مالية وتجارية مشبوهة استهدفت قوت البسطاء وسبل عيشهم، عبر ممارسة عمليات نهب وسلب وغسيل أموال مقنَّن بمساعدة المتنفذين ورجال السلطة المستفيدين من حالة الصراع بين الأطراف جميعها.
وما يعمّق ندوب الكوميديا السوداء على جبين السوريين المسحوقين ظهور مقاطع لرجال السلطة بين الحين والآخر يطالبونهم بالصمود والصبر، متناسين حالة الفساد التي تغطي حياتهم.
“اذهبوا لتحرير آبار النفط أو إلى الأمم المتحدة للمطالبة برفع العقوبات”، يتابع السوريون بتعجُّب هذه الحلول الذهبية من وسيم الأسد قريب رأس النظام، الغارق بصفقات تهريب الكبتاغون مع عرّابها اللبناني نوح زعيتر.