هل شاهدت فيلم الوصول “arrival”؟ كان فيلم الوصول من أهم الأفلام التي صدرت في عام 2016، فهو ذلك الفيلم الذي يروي قصة التقاء البشر مع الكائنات الفضائية، ربما يبدو الأمر شديد التقليدية، فكما يحدث دومًا، يلتقي الفضائيون مع البشر، تدور المعارك، يخاف البشر منهم بسبب تكوينهم الجسماني المخيف وغير المفهوم، كما يهيمن على أفلام كتلك الغموض عن هذا العالم الذي لا يعرف البشر عنه شيئًا، لا سيما أنهم لا يعرفون معلومات محددة وشديدة الدقة عنه.
لم يكن فيلم الوصول بتلك التقليدية البحتة، بل كان شديد الاختلاف على شاشات السينما بمفهومه الحديث الذي عرض فيه مشهد التقاء البشر مع الكائنات الفضائية، لم يكن المشهد كما هو المعتاد عليه: ساحة حرب بين عالمين مختلفين. ولم يكن إشارات ورسائل غامضة الصوت والتكوين ترسلها الكائنات لبعضها البعض، بل كان كل تركيز مفهوم الفيلم هو اللغة، كوسيلة محورية للتواصل والتفاهم مع تلك الكائنات، وكوسيلة جذرية للسفر عبر الزمن.
هل تخيلت من قبل أن تجري محادثة مع كائن فضائي؟ كانت تلك وظيفة خبيرة اللغويات، وبطلة الفيلم “إيمي آدمز”، التي حاولت استنباط واكتشاف “اللغة الكونية”، أو لغة الكائنات الفضائية، وحاولت تعلمها من أجل أن تفهم الرسائل التي تقوم تلك الكائنات بإيصالها عن طريق رسم أشكال دائرية مختلفة من الحبر الأسود، لم تكن خبيرة اللغويات على دراية تامة بما قد يحدث عبر الشبكات العصبية في دماغها وقت تعلمها تلك “اللغة الكونية”، فكانت نتيجة تلك العملية الصعبة والمكثفة، هي أنها استطاعت السفر عبر الزمن، أو في سياق آخر، استطاعت قراءة المستقبل.
خبيرة اللغات وهي تستكشف اللغة الكونية للكائنات الفضائية في فيلم الوصول
اللغات وكسر الحواجز
فيلم الوصول هو فيلم خيال علمي على مستويات عدة، أهم ما كان يرتكز عليه هو اللغة وفكرة الاتحاد أو التعاون، أي تخطي الحواجز التي تفصل بين مجتمعين أو عالمين مختلفين، وذلك من أجل التعرف على ثقافة جديدة لعرق مجهول عليهم، ألا وهو عرق تلك الكائنات الفضائية.
على الرغم من أنهم يمتلكون سبعة أرجل، وحجمهم مقارنة بحجم البشر مخيف حقًا في الفيلم، إلا أنهم كائنات مسالمة، يطلبون المساعدة من البشر بعد بضعة آلاف سنة بتقويمهم الرقمي، الذي يختلف عن ذلك التقويم الخاص بالبشر، حيث أنهم لا يعتبرون الزمن شيء مستقيم “Linear” ، ولا يفهمونه بالطريقة التي نفهمها نحن، فعندهم، يمكن للزمن أن يبطأ، أن ينحني، أن يسرع، فهو ليس متسلسل بتلك النمطية التي يعتاد عليها البشر، فبضعة آلاف سنة بالنسبة لنا تختلف بالنسبة لهم.
بماذا يختلف من يتحدث أكثر من لغة عن غيره؟
تعلم اللغة يجعلنا أكثر ذكائًا، لا سيما أنه يحسن من الوظائف التنفيذية للدماغ، فيبدو التركيز في عدة مهمات صعبة ليس بالشيء العسير بعد تعلم عدة لغات. كما يحسن ذلك من القدرة على تذكر الذكريات والأحداث الماضية، ويقوي الذاكرة، كما يسهل من القدرة على حل المشكلات بشكل عملي أكثر مما يكون عاطفي.
يتميز الأطفال بالقدرة على استغلال كل من فصي الدماغ في تعلم اللغات، ولذلك فهم يشكلون قدرات أسرع لتعلم أكثر من لغة في نفس الوقت، أما البالغين فيستغلون في الأغلب الفص الأيسر من الدماغ في تعلم اللغات، و يقاس تطور قدرات الناطق بأكثر من لغة بعاملين نشطين، أي للمتعلم القدرة على التحكم فيهما، وهما الكتابة والتحدث، أما العاملين السلبيين لقياس تطور اللغة عنده فهما القراءة والاستماع، حينها يكون المتعلم مجرد مستقبل فقط.
من يعمل على تعلم اللغتين في نفس الوقت تقريبًا، مثل ذلك الذي يهاجر إلى بلد جديد في عمر السنتين
تنقسم أنواع الناطقين بأكثر من لغة إلى ثلاثة أنواع؛ الأول منها هو هو ثنائي اللغة المتوازن، وهو من يمتلك قدرات متساوية على التحكم في العوامل السلبية والنشطة المذكورة سابقًا في تطوير لغتين بنفس القدرة، حيث يعمل فصي دماغيه بشكل شبه متساوي تقريبًا في تعلم اللغتين بنفس الإمكانية.
هناك كذلك النوع الثاني وهو “ثنائي اللغة” المركب، وهو من يعمل على تعلم اللغتين في نفس الوقت تقريبًا، مثل ذلك الذي يهاجر إلى بلد جديد في عمر السنتين، ويبدأ في تعلم لغته الأم ولغة البلد المهاجر إليه في شكل متتابع يوميًا، يتشابه معه النوع الثالث وهو “ثنائي اللغة التنسيقي”، أي من يتعلم لغة معينة بشكل أكاديمي، بينما يتحدث لغته الأم مع أصدقائه وعائلته.
كيف يكون تركيب دماغ ثنائي اللغة؟
من الممكن أن يتقن أي نوع من الأنواع السابقة لغتين بغض النظر عن النطق الصحيح أو اللكنة المصاحبة للكلام، ربما لا يلاحظ العامة ذلك الفرق الواضح بينهم وبين متحدثي اللغات لأول وهلة، إلا أن الطب قام باختبار المتغيرات التي تحدث على دماغ متحدثي اللغات باستخدام تكنولوجيا تصوير الدماغ، مما أعطى أدلة طبية كافية لخبراء اللغات والأعصاب لاختلاف أدمغة متحدثى اللغة الواحدة وغيرهم من الناطقين بأكثر من لغة.
أكثر من يستغل الفصين معًا في تعلم اللغات هم الأطفال، ولهذا قدرتهم على تحصيل اللغات واستيعابها تكون أكثر بكثير من البالغين
من المعروف أن الفص الأيسر من الدماغ هو الفص الخاص بالعمليات التحليلية والمنطقية، وهو الأكثر استخدامًا، بينما يختص الفص الأيمن بالأمور العاطفية والاجتماعية، ما يميز تعلم اللغات أنه يحتاج أن يستغل كلا الفصين معًا من أجل تعلم اللغة، فتعلم اللغة يتطلب وظائف تحليلية ومنطقية مثل القواعد النحوية، كما يتطلب الكثير من الأمور الاجتماعية والعاطفية باستخدامه في صور مختلفة كالفن والغناء والتحدث مع الأصدقاء إلخ.
أكثر من يستغل الفصين معًا في تعلم اللغات هم الأطفال، ولهذا قدرتهم على تحصيل اللغات واستيعابها تكون أكثر بكثير من البالغين، حيث يركز البالغين على استخدام فص واحد من الدماغ، وهو ما يكون الأيسر في أغلب الأحوال من أجل تحصيل اللغة، لذا نجد في البالغين ميل إلى استخدام الحلول المنطقية والأسلوب العقلاني في حل مشاكلهم أثناء تحدثهم اللغة الثانية أكثر مما يفعلون بلغتهم الأم، ففي لغتهم الأم، كثيرًا ما يميلون إلى الأسلوب العاطفي في حل المشاكل.
مميزات كون المرء ثنائي اللغة
مزيدًا من كثافة المنطقة الرمادية في الدماغ، وهي المنطقة التي تحتوي على أغلب نقاط الاشتباك العصبي والأعصاب الدماغية، كما وضحت التكنولوجيا الحديثة في تصوير الدماغ بأن ثنائي اللغة يتميز بنشاط مفرط في عدة مناطق من الدماغ أكثر من متحدث اللغة الواحدة، مما يساعد على تقليل الإصابة بأمراض كالزهايمر والخرف.
قبل الستينات، كان ثنائي اللغة مصاب بالتأخر العقلي بحكم ما يقوله المجتمع عليه، فكانت الأم تخشى أي نشاط يقوم بتحفيز كل من فصي الدماغ على العمل لكثرة المعلومات المغلوطة بأن هذا يسبب التأخر العقلي بل من الممكن أن يسبب الشلل أحيانًا!، إلا الدراسات الحديثة أثبتت بأن ثنائي اللغة له القدرة على التحكم في الوظائف التنفيذية للدماغ، فالانتقال من لغة إلى الزخرى يحفز المناطق المسئولة عن تلك الوظائف التنفيذية، مثل حل المشاكل، أو حل المسائل الحسابية المعقدة، كذلك الانتقال من مهمة إلى أخرى أثناء العمل، كما يكونوا باستطاعة تجميع معلومات من مصادر مختلفة بقدرة أسرع من غيرهم.
ربما ليس هناك ضمان بأن ثنائية اللغة تجعل من المرء ذكيًا في التو واللحظة، إلا أنها بالفعل تزيد من نشاط الدماغ، وتقوم بابقائه في حالة نشطة مدة طويلة على المدى الطويل، كما تجعله أكثر تعقيدًا، وفي حالة مستعدة لحل المشاكل دومًا، فإن لم يكن لديك الحظ الكافي لتعلم لغة ثانية وقت كنت طفلًا، فالوقت لم يتأخر بعد!