قُتل زعيم مجموعة “فاغنر” الروسية، يفيجيني بريغوجين، إثر تحطم طائرة خاصة كانت تقله وآخرين قرب قرية كوجينكينو في منطقة تفير (شمال موسكو) بُعيد إقلاعها باتجاه سان بطرسبورغ، حسبما أكدت وسائل إعلام روسية وأخرى موالية للمجموعة المسلحة، بجانب تأكيدات هيئة النقل الجوي الروسية.
هيئة الطيران الروسية قالت إن الطائرة الخاصة من طراز “إمبراير ليغاسي” تحطمت مساء 23 أغسطس/آب 2023 وكان على متنها 7 ركاب و3 من أفراد الطاقم، لافتة أن كل من كانوا عليها بالكامل لقوا حتفهم، مستعرضة أسماء الركاب جميعهم وكان من بينهم بريغوجين وساعده الأيمن ديمتري أوتكين، قبل أن تكشف وسائل إعلام روسية أنه جرى التعرّف على جثته بالفعل.
مراسل #العربية: جثة #بريغوجين موجودة في مكتب الطب الشرعي وسط إجراءات أمنية مشددة#روسيا#موسكو#فاغنر pic.twitter.com/Ku6PqhK9hP
— العربية (@AlArabiya) August 24, 2023
كان آخر ظهور لزعيم فاغنر القتيل الإثنين 22 أغسطس/آب 2023 حين ظهر في مقطع فيديو نشرته مجموعات قريبة من فاغنر على وسائل التواصل الاجتماعي، قال فيه إنه موجود في إفريقيا ويعمل على “جعل روسيا أعظم في جميع القارات وضمان مزيد من الحرية في إفريقيا”، وكان ذلك أول ظهور له بعد تمرده الذي قاده ضد الجيش الروسي في يونيو/حزيران الماضي.
الطريقة التي قُتل بها الرجل الذي تجمعه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين علاقة قوية، وكان أحد الرموز المؤثرة في إدارة القرارات الداخلية والخارجية في روسيا، مثيرة للجدل، وتطرح الكثير من الأسئلة.
حادث طبيعي أم مدبر؟
السؤال الأول الذي فرض نفسه بعد الإعلان عن تحطم الطائرة: هل السقوط كان طبيعيًا أم مدبرًا؟ وهو التساؤل الذي طرحته الأجواء الملبدة بالغيوم التي خيمت على العلاقات بين زعيم فاغنر وبوتين منذ تمرد 23 و24 يونيو/حزيران الماضي.
بحسب المصادر الروسية وهيئة الطيران الروسي فإن الطائرة التي كان على متنها زعيم فاغنر اختفت بعد 26 دقيقة من تحليقها، وأنها هبطت هبوطًا دراماتيكيًا من ارتفاع 30 ألف قدم إلى 8 آلاف، فيما قالت مصادر أخرى إن الطائرة لدى سقوطها كانت بجناح واحد، وهو ما يشير إلى احتمالية استهدافها.
قناة “غراي زون” الموالية لفاغنر استبقت نتيجة التحقيقات وكتبت على تليغرام قائلة: “رئيس مجموعة فاغنر، بطل من روسيا، وطني حقيقي لوطنه الأم، يفغيني فيكتوروفيتش بريغوجين قُتل نتيجة أفعال خونة لروسيا”، مضيفة “لكن حتى في الجحيم سيكون الأفضل، المجد لروسيا”.
“Death is not the end, it’s just the beginning of something else. “We will all go to Hell, but we will be the best in Hell,” sums up #Yevgeny_Prigozhin #Wagner #WagnerPMC #WagnerGroup #Prighozin #PrigozhinDead pic.twitter.com/GUqkLstNS6
— Manigandan Sekar (@SekarManigandan) August 24, 2023
أما صحيفة “كومرسانت” الروسية فنشرت تقريرًا قالت فيه نقلًا عن خبراء في مجال تحقيقات الكوراث الجوية إن الطائرة المحطمة ربما تعرضت لانفجار في الجزء الخلفي منها، لافتين إلى أن الثقوب في جسم الطائرة وجناحيها تشير إلى أنها ربما أصيبت بصاروخ، حسب المعاينة الأولية.
الرأي ذاته ذهبت إليه صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية التي نقلت عن قناة تليغرام المرتبطة بفاغنر أن التفسيرات الأولية تشير إلى سقوط الطائرة نتيجة نيران دفاعات جوية شمال موسكو، وهو ما استبعده موقع “ريبار” العسكري الروسي الذي قال إن الأضرار الأولية بجسم الطائرة لا تشير إلى استهدافها بنيران دفاعية.
ردود الفعل الدولية هي الأخرى تميل إلى رواية الاستهداف المدبر، وهو ما ألمح إليه الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي قال إنه لم يُفاجأ من حادثة تحطم الطائرة الخاصة التي كانت تقل رئيس مجموعة فاغنر، مضيفًا في تصريحات للصحفيين إنه رغم عدم معرفته بالضبط ما حدث، من النادر أن يحدث أمر كهذا في روسيا لا يكون خلفه بوتين.
شبكة “سي إن إن” الأمريكية نقلت عن مسؤول أمريكي قوله إن وفاة بريغوجين كانت متوقعة بشكل كبير من إدارة بايدن، مضيفًا أن لدى بوتين تاريخًا طويلًا للغاية في إسكات منتقديه، مؤكدًا أن تحطم الطائرة ووفاة من عليها لن يغير موقف البيت الأبيض تجاه الكرملين أو الحرب في أوكرانيا.
من جانبه يرى مستشار الرئاسة الأوكرانية ميخايلو بودولياك، أن بريغوجين “وقع قرار إعدامه حين صدق وعد بوتين وضمانات لوكاشينكو”، في إشارة إلى الاتفاق الذي أبرمه الرئيس الروسي ونظيره البيلاروسي لإنهاء التمرد العسكري الذي قادته فاغنر قبل شهرين، مضيفًا في منشور على “تويتر” “التخلص من بريغوجين ومن قيادة فاغنر بعد شهرين على محاولة الانقلاب هو رسالة من بوتين للنخب الروسية قبل انتخابات 2024″، مضيفًا “بوتين لا يسامح أحدًا”.
مسار الطائرة المتحطمة التي كان على متنها قائد مجموعة #فاغنر يفغيني #بريغوجين#الأخبار pic.twitter.com/qd9CzDtqlM
— قناة الجزيرة (@AJArabic) August 24, 2023
من المستفيد من مقتل بريغوجين؟
بينما كانت النيران المشتعلة بجسد الطائرة لم تخمد بعد، وفرق الإنقاذ لم تنته من انتشال الجثث من موقع السقوط، كان الرئيس الروسي يستمع إلى حفل موسيقي حضره بعد كلمته التي ألقاها في كورسك القريبة من الحدود مع أوكرانيا، بمناسبة الاحتفال بالذكرى الـ80 لمعركة كورسك في الحرب العالمية الثانية.
لم يعلق بوتين على الحادثة ولا مقتل رفيقه وصديقة المقرب، مكتفيًا في كلمته بتوجيه التحية إلى الجنود الروس الذين يقاتلون في أوكرانيا، مشددًا على أن “الإخلاص للوطن والولاء للقسم العسكري يوحد جميع المشاركين في العملية العسكرية الخاصة”، في إشارة إلى المعركة المشتعلة حاليًّا في الأراضي الأوكرانية.
على مدار الشهرين الماضيين كان بريغوجين الصداع الأكثر إيلامًا في رأس بوتين، فالتمرد الذي قاده في يونيو/حزيران الماضي، وسيطرته على القواعد العسكرية في مدينة روستوف (جنوب)، واقترابه من العاصمة موسكو (لم يفصله عنها إلا 200 كيلومتر فقط) وتوعده بـ”مسيرة العدالة” إلى موسكو، ومطالبته بتسليم وزير الدفاع ورئيس هيئة أركان الجيش الروسي، كل ذلك وضع الرئيس الروسي في مأزق كبير، وشوه صورة الرجل القوي التي حاول تصديرها للداخل والخارج على مدار أكثر من عقدين.
وبعد محاولات دبلوماسية وتدخلات خارجية تم الاتفاق بين بوتين وطباخه، بوساطة البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، على إعادة بريغوجين مقاتليه إلى قواعدهم العسكرية، وإيقاف زحفه إلى العاصمة، نظير ضمانات شخصية من الرئيس لقائد فاغنر الذي غادر إلى مينسك حينها.
#بايدن عن مقتل #بريغوجين : لا يمكن أن يحدث شيء في #روسيا دون أن يبصمه #بوتين #الولايات_المتحدة pic.twitter.com/nJsZVL6z6Q
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) August 24, 2023
كثير من المحللين رأوا في ذلك الاتفاق رضوخًا من بوتين الذي بدا ضعيفًا مهزوزًا أمام تمرد هو الأشرس منذ توليه مقاليد الحكم في روسيا، تلك الرؤية تعززت أكثر مع الأريحية التي كان يتحرك بها قائد فاغنر دون محاسبة أو ملاحقة قضائية أو أمنية رغم الجرم المرتكب، وهو ما زاد من واقعية الصورة المشوهة للرئيس الروسي.
ربما حاول بوتين كسب المزيد من الوقت لترتيب الأوضاع مجددًا بعد تفويت الفرصة نحو جرجرة البلاد إلى أتون الحرب الأهلية إذا ما تعامل مع هذا التمرد بشكل مسلح، وهو السيناريو الأكثر رعبًا الذي تخوف منه الكثير من المقربين من دوائر صنع القرار في موسكو.
بوتين وبعد الهدوء النسبي الذي خيم على الأجواء، كان لابد من رد الاعتبار عبر الإطاحة بقائد فاغنر الذي كانت لديه طموحات سياسية ربما تهدد نفوذ بوتين ومستقبله السياسي، لا سيما أن فكرة بقائه خارج روسيا، سواء كان في بيلاروسيا أم غيرها، لم ترق للرئيس الروسي، فاستمراره في عمله على رأس تلك المجموعة المسلحة ذات النفوذ الكبير في الداخل والخارج سيظل كابوسًا يؤرق مضاجع قائد المخابرات الأسبق.
وبعيدًا عن استباق الأحداث وتورط بوتين في حادث سقوط الطائرة، وهو السيناريو الأقرب وإن لم يكن هناك ما يؤكده حتى كتابة تلك السطور، فإن الرئيس الروسي هو المستفيد الأبرز مما حدث، حيث التخلص من منافسه الأشرس من جانب، وتقديم رسالة شديدة اللهجة لبقية الجنرالات والعسكريين والطامحين في منافسته على كرسي السلطة من جانب آخر.
وهذا ما عبر عنه مستشار الرئاسة الأوكرانية ميخايلو بودولياك، بقوله إن التخلص من قادة فاغنر، بريغوجين ومساعده الأقوى، بعد شهرين فقط من التمرد الذي قاداه في يونيو/حزيران الماضي، هو في حقيقته رسالة مباشرة من بوتين للنخب السياسية قبل الانتخابات الرئاسية المزمع إقامتها العام المقبل، مفادها أن بوتين لا يسامح أحدًا وأن على الجميع أن يخشى مصير بريغوجيني، الذي رغم العلاقة القوية التي كانت تجمعه بالرئيس، فإن ذلك لم يمنع الأخير من التخلص منه بسبب تغريده خارج السرب وتهديده للنفوذ البوتيني.
الكاتب الصحفي بيتر بومنت في تحليل كتبه في صحيفة “الغارديان” قال إن رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وليام بيرنز، في منتدى أسبن للأمن الذي عقد في يوليو/تموز الماضي، أي بعد شهر واحد فقط على التمرد الذي قاده بريغوجيني، توقع أن يأخذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتن وقته في الانتقام، مضيفًا أنه رغم التفاصيل الغامضة لواقعة الطائرة، فإن الأمر الواضح “هو أن فاغنر جرى احتواؤها أولًا ثم قطع رأسها” على حد قوله.
بعد مقتل القادة.. أي مصير بانتظار فاغنر؟
يستعرض بومنت في تحليله تراجع نفوذ وحضور فاغنر على المشهد العسكري الروسي في الداخل والخارج، لافتًا إلى أن دورها تقلص بشكل كبير في العمليات العسكرية بأوكرانيا في أعقاب التمرد الفاشل، كما تراجع عددها بشكل واضح في الداخل الروسي، حيث فر المئات منهم إلى بيلاروسيا، فيما حاول بريغوجين استعادة بعض هذا النفوذ المتراجع عبر التوغل أكثر في إفريقيا.
وتعد فاغنر السلاح الأبرز لبوتين لتنفيذ العديد من العمليات والتحركات خارج الحدود، فهي العصا السحرية لتمديد الحضور الروسي في السودان ومالي وليبيا وتشاد، بجانب دورها المحوري في شبه جزيرة القرم وإقليم الدونباس في أوكرانيا، وكان يعتمد عليها بوتين بشكل رئيسي في تحقيق أطماعه الخارجية.
حيث الاستعانة بمثل تلك الميلشيات غير النظامية التي تخفف من الأعباء العسكرية على جيشه النظامي من جانب، وتجنبه أي مساءلات قانونية حال ارتكابها جرائم تصنف على أنها ضد الإنسانية وتستوجب العقاب، وتلك سياسية بوتين المعروفة منذ سنوات، ليس مع الميليشيات فقط، لكن مع ساسة من النخب كذلك، وعلى رأسهم الرئيس السابق ورئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف، الذي تعامل معه بوتين كـ”أراجوز” لخدمة أهداف الشخصية.
أندريه أونتيكوف المحلل السياسي الروسي: مقتل #بريغوجين سينعكس بشكل سلبي، وما حصل شيء استثنائي وخطير جدا#روسيا #الجزيرة_مباشر pic.twitter.com/zOon4F8Wsd
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) August 23, 2023
ويرى نائب المارشال الجوي السابق في القوات الجوية الملكية البريطانية، شون بيل،حسبما نقل تقرير “الغارديان” عنه، أن “فاغنر دون بريغوجين لا شيء”، مضيفًا في تصريحات له قبل شهر “إذا كانت مجموعة فاغنر هي يفغيني بريغوجين، فمن الصعب جدًا أن تنجو.. إنها النهاية كما نعرفها”.
وحاول بوتين على مدار الشهرين الماضيين، فك الارتباط بين عناصر فاغنر وبريغوجين، البداية كانت مع الاتفاق الذي أبرمه مع قائد المجموعة برعاية الرئيس البيلاروسي حيث سمح لبعض مقاتلي فاغنر ممّن رفضوا الانخراط في حملة بريغوجين، الانضمام لصفوف القوات المسلحة الروسية والتعاقد مع وزارة الدفاع، أما الجزء الذي لا يرغب في العودة سيوقع اتفاقيات مع الجيش الروسي، كما تعهد بعدم ملاحقتهم قضائيًا.
ردود الفعل الأولية التي أبدتها فاغنر بعد الإعلان عن مقتل قائدها تشير نسبيًا إلى نجاح بوتين في فك الارتباط الوثيق الذي كان بين بريغوجين والمقاتلين داخل تلك الميلشيا، حتى إن أبدى البعض تحفظه واعتراضه وتوعد بالانتقام لمقتل زعيمهم، إلا أنه على الأرجح لن تخرج الأمور عن إطارها الضيق بعدما تم تقليم أظافر المجموعة في الداخل الروسي وفي أوكرانيا.
View this post on Instagram
ثمة سيناريوهات تحكم مصير تلك المجموعة، الأول يتعلق باحتواء الكثير منهم وضمهم إلى الجيش الروسي، إما بشكل نظامي رسمي وإما عبر وحدات قتالية خاصة تؤدي الدور ذاته الذي كانت تقوم به المجموعة تحت قيادة بريغوجيني لكن عبر أدوات مختلفة وتحت مراقبة وسيطرة الجيش الروسي بشكل كامل تجنبًا لأي تمرد في المستقبل.
أما السيناريو الثاني فهو الإبقاء على جزء كبير من المجموعة في صورة ميليشيات مسلحة تقاتل نظير مقابل مادي كبقية الجماعات المسلحة الخاصة، لا سيما أنها تنشط بشكل كبير في إفريقيا تحديدًا، ويمكنها مع مرور الوقت أن تلعب لصالح موسكو إذا تطلب الأمر، لكن بقواعد لعبة مختلفة تحقق مصالح المسلحين من جانب والنظام الروسي من جانب آخر.
في الأخير.. وبصرف النظر عما إذا كان بوتين هو من دبر لتلك العملية أم لا، فإن المشهد بكل تفاصيله يخدمه في الداخل والخارج على حد سواء، وذلك عبر استعادة صورة الرجل القوي مرة أخرى التي شوهها بريغوجين عبر تمرده الأخير، بجانب تقديم رسالة إنذار شديدة لمنافسيه من النخبويين والعسكريين قبيل الانتخابات المقبلة، هذا إن لم تكن هناك مفاجآت في رد فعل فاغنر انتقامًا لمقتل زعيمها ومساعده الأيمن، وهذا أمر مستبعد في ضوء الشواهد المتاحة حاليًّا.