“وفقا لكل المعايير، أمريكا مكان أفضل وأقوى مما كانت عليه منذ ثماني سنوات” ، “لا تخافوا من المستقبل” ، “بلدنا هو الأقوى في العالم” ، “التنظيمات الجهادية لا تمثل خطرًا وجوديًا” ، “تراجع الاقتصاد الأمريكي محض خيال” ، “كوبا” ، “جوانتاناموا”.
كانت هذه أبرز النقاط التي حاول الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته باراك أوباما أن يركز عليها في خطابه الأخير مساء الثلاثاء الماضي، والذي ألقاه أمام الكونجرس بمجلسيه، ليكون بذلك آخر خطاباته الجماهيرية أمام الكونجرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون، في انتظار خطابه الأخير تحت الأضواء، والذي سيلقيه في يوليو المقبل في فيلادلفيا خلال المجمع الانتخابي للحزب الديمقراطي.
من “نعم نستطيع” إلى “نعم فعلناها”
ركزت وسائل الإعلام بشكل كبير في غالب تغطياتها لخطاب أوباما الذي أعلن فيه انتهاء ولايته، على الجوانب العاطفية التي حاول أن يبرزها، بجانب استعراضه لنتائج برنامجه خلال 8 سنوات، بالطريقة التي أحب أن يظهر بها، على طريقة “نعم فعلنا” كل ما وعدنا به.
ويبدو أن أوباما استطاع في هذا الخطاب أن يستغل الحالة الإعلامية العامة المنشغلة بخليفته في البيت الأبيض دونالد ترامب، خاصة وأن الخطاب جاء في خضم معركة تسريبات فضائح مدعاه لترامب، لا زالت تتصدر كبريات وسائل الإعلام حتى اللحظة.
الاستغلال هذا يمكن أن يمرر خطاب أوباما بكل ما فيه من حقائق أو ادعاءات، لأن الحالة الإعلامية العامة أيضًا معادية لترامب وضوضائه، وتتربص بفترة رئاسية قادمة يراها البعض أنها ستكون “الأسوأ” في التاريخ الأمريكي، على طريقة ما حدث من “أوباما” لن يكون أسوء مما هو قادم من “ترامب” المثير للجدل.
ليس كل ما حدث ذُكر
بالرغم من الوجه “الطيب” الذي أظهره باراك أوباما أول رئيس أسود للولايات المتحدة، والذي كانت رسالته الانتخابية الأمل والتغيير، فإن هذا لن يُخفي الوجه الآخر الذي حرص أوباما على عدم إظهاره أثناء الحديث عن إرثه في خطاب وداع البيت الأبيض.
فصدر أوباما إلى الواجهة “أوباما كير” نظام التأمين الصحي الذي شرع الجمهوريون في إلغائه بالأمس، بعد أن اتخذ مجلس الشيوخ الأمريكي أول خطوة نحو إلغاء قانون الرعاية الصحية الذي تم إقراره في عهد الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته أوباما ، بعدما أيد المجلس إبلاغ لجانه الرئيسية بوضع مسودة قانون لإلغاء برنامج التأمين الصحي، الذي يعد من العلامات المميزة لفترة حكم الرئيس المنتهية ولايته.
ثم صدر الاتفاق النووي مع إيران، وانسحابه من حروب الشرق الأوسط (العراق – أفغانستان)، وعدم إنجراره إلى شراك الحرب في سوريا، وعدم حدوث عمليات إرهابية من الخارج على أراضي الولايات المتحدة، وكأن التركيز على هذه النقاط فيما يبدو كان استغلالًا آخر ومقارنة بفترة حكم الرئيس السابق جوروج بوش التي ارتبطت في أذهان الأمريكيين بالحروب والهجمات الإرهابية، وهي مقارنة من السهل أن يربحها أوباما في مقابل سلفه بوش.
لكن ما لم يذكر من إرث أوباما في هذا الخطاب لعله أكثر بكثير مما ذكر، على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري والمجتمعي.
غسيل سمعة لآلة حرب أمريكية لم تتوقف
حديث أوباما عن إيقاف الحروب الأمريكية والانسحاب من بلدان الشرق الأوسط ليس موضوعيًا بالشكل الكافي كما حاول أن يظهره، فآلة الحرب الأمريكية لم تتوقف والمفاجأة أنها ضاعفت من عملياتها العسكرية، حيث تزايدت عمليات القوات الخاصة في عهد أوباما داخل ١٣٨ دولة، بزيادة قدرها ١٣٠٪ عن سلفه بوش.
وقد اغتيل في عهد أوباما شخصين بأمر مباشر منه، مقارنة بشخص واحد في عهد بوش، أما هجمات الطائرات الأمريكية بدون طيار في عهده تجاوزت 475، مقابل 50 فقط في عهد بوش.
وعلى صعيد مبيعات الأسلحة الأجنبية فإنها تخطت في عهده 278 مليار دولار، مقارنة 140 مليار دولار في ولاية بوش، وبحسب تقارير فإن ما يزيد عن ٢٦ ألف قنبلة ألقيت في عهد أوباما على سوريا والعراق وأفغانستان وليبيا واليمن والصومال وباكستان بمعدل ٧٢ قنبلة يوميًا، و3 قنابل كل ساعة تقريبًا، وهو الأمر الذي قدرت عدد ضحاياه بالآلاف من بينهم نساء وأطفال.
تزايدت عمليات القوات الخاصة في عهد أوباما داخل ١٣٨ دولة، بزيادة قدرها ١٣٠٪ عن سلفه بوش
وعليه يمكن رؤية أوباما كرجل حرب صنعت آلة الحرب في إدارته كل هذه الجرائم تحت مزاعم “الحرب على الإرهاب”، وفي نهاية عهده يترك أخطر منظمة جهادية إرهابية في القرن العشرين تحكم مدنًا بالكامل في الشرق الأوسط، وذئابها المنفردة تعيث فسادًا في الشرق والغرب، ويُروج هذا إنجازًا في نهاية المطاف.
حتى أن الكاتب ويسلي برودين كتب في صحفية واشنطن تايمز الأميركية إن أوباما سرعان ما تحول بعد حصوله على جائزة نوبل للسلام في العام 2009 إلى صانع للحرب بدلًا من أن يكون صانعًا للسلام، وأنه كان يلقي باللوم في الحروب على سلفه الرئيس الأميركي جورج بوش، لكنه تغلب عليه من حيث انتشارها.
على المستوى المجتمعي
ترك أوباما مجتمعًا منقسمًا على نفسه بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ظهرت فيه طبقات تصوت عمدًا بطريقة طبقية لمرشح وصف بالعنصرية وفضائحه لم تتوقف حتى عند اقترابه من دخول البيت الأبيض، ردًا على ما وصفوه بسياسات أوباما التي أردت أمريكا إلى الخلف، فلا مجال للتغني في خطاب وداع أوباما بحالة الاتحاد المجتمعي التي كادت أن تنهار في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
وعلى الصعيد الداخلي تحدثت لغة الأرقام عن تورط إدارة أوباما في ترحيل قسري لعدد 2.4 مليون شخص، بزيادة 400 ألف عن سلفه بوش، كما زادت في عهده محاكمات “قارعي النفير” الذين يتتبعون الفساد في الإدارات الأمريكية بمعدل 8 في عهده إلى 1 في عهد سلفه بوش.
كما قُتل على يد الشرطة الأمريكية في عهد أوباما ما يزيد عن 1000 شخص في مقارنة بنصف هذه العدد في إدارة بوش، ناهيك عن سجل قمع الشرطة للسود وقتلهم في أكثر من ولاية أمريكية، كاد أن يفتك بالسلم المجتمعي الأمريكي، واضطر البيت الأبيض للتدخل مباشرة لنزع فتيل أزمات وصفت بالعنصرية ضد السود الذين يحكمهم رئيس أسود.
على الصعيد الداخلي تحدثت لغة الأرقام عن تورط إدارة أوباما في ترحيل قسري لعدد 2.4 مليون شخص، بزيادة 400 ألف عن سلفه بوش
على صعيد دخل المواطن الأمريكي، انخفض دخله في المتوسط في عهد أوباما بحوالي ألف دولار من 54.925 ألف دولار سنويًا إلى 53.657 ألف دولار، ومن زواية اقتصادية عامة على صعيد الدين العام في عهده ارتفع مستوى الدين العام إلى 19 مليار دولار، ما يجعل هذه الأرقام عقبة أمام التغني المطلق بانجاز أوباما الاقتصادي.
أوباما الذي شرع الباب لبوتين
تظهر إدارة أوباما قبل أن ترحل من البيت الأبيض أن ثمة محاولات اختراقات روسية لنظام الحكم في الولايات المتحدة، عبر اختراقات سيبرانية، ومحاولات للتأثير في نتائج الانتخابات الرئاسية، وهو الأمر الذي استدعى فرض عقوبات من قبل أوباما على دبلوماسيين روس قبيل أيام من تركه للسلطة.
لكن ثمة وجهة نظر في الولايات المتحدة تقول إن أوباما هو السبب الرئيسي وراء هذا التغطرس الروسي والتمدد في مناطق نفوذ الولايات المتحدة، وصولًا إلى محاولات عبث وتأثير في سير الانتخابات الأمريكية.
ويذكر أنصار وجهة النظر هذه أن انسحاب أوباما مع الشرق الأوسط وتركه للفراغ كان بمثابة فتح البوابة للروس للتمدد في هذا الفراغ، ليس بمنطق التغلب بالقوة على الولايات المتحدة، وإنما بمنطق اقتناص الفرص السانحة، والذي تعاني الولايات المتحدة من تبعاته الآن في سوريا، بعد تكرار سيناريو إيران التي توغلت في العراق بعد انسحاب الولايات المتحدة بصورة أكبر.
تظهر إدارة أوباما قبل أن ترحل من البيت الأبيض أن ثمة محاولات اختراقات روسية لنظام الحكم في الولايات المتحدة، عبر اختراقات سيبرانية، ومحاولات للتأثير في نتائج الانتخابات الرئاسية
كل هذه الإخفاقات لم ترد قط في خطاب أوباما، ولم تركز عليه وسائل الإعلام إلا في القليل مقابل إظهار الوجه “الطيب” لإدارة أوباما ومقارنتها بشر قادم يُدعى ترامب، ناهيك عما ذكره أوباما بنفسه من إخفاقات حاول تجميلها كالفشل في إغلاق معتقل جوانتاناموا.
لا يستطيع أحد إنكار محورية فترتي أوباما الرئاسيتين، حيث أثرتا بشكل كبير في سياسات الولايات المتحدة داخليًا وخارجيًا، وكذلك في التعامل مع شخصية أوباما التي استطاعت أن تملأ شقوق السلطة في البيت الأبيض، وبالتأكيد لإدارة أوباما تبريراتها الداخلية لكل كارثة أو جريمة ارتكبت، لكن حالة البروباجندا الحالية لا يمكن أن تظهره كـ “قديس” دخل البيت الأبيض ورحل بلا أي جريمة.