في سياق تلمّس الطريق نحو ربيع عربي لا يرتد على نفسه وينجز مطالبه المتخلدة بذمة التاريخ وبالنخب طرحت في مقال سابق بهذا الموقع فرضية بحث مفادها “أن هناك سؤال مطروح بشكل خاطئ منذ البداية وندفع إلى الخوض فيه برغمنا ونجرّ إلى إعادة طرحه في كل حادثة ثم نكتشف أن السؤال يخفي رغبة القادرين على طرحه لينقذهم من فراغ المهمات التاريخية التي تنجزها النخب المستنيرة عادة وهم إذ يطرحونه يهملون الشارع المشغول بالحيوي اليومي المعيشي”.
ثم نتبين أن السؤال المغالطي كشّاف عميق لنوعية من الفكر التي سادت وأنتجت نموذجًا للدول/ للسياسة ونظام إنتاج النخب/ الفكر، حتى يستقر لدينا الآن أنه لا يمكن تغيير هذا النموذج/ المنوال إلا بكسره.
خلفية السؤال الخبيث
يقوم هذا السؤال على فرضية وضع الثقافي في تناقض مع المعيشي، رغم أن غالبية من يطرحه ينطلق من مسلمة مادية استقرت في العلوم الإنسانية مفادها أن الوضع المادي للفرد في مجتمعه هو الذي يحدد وعيه بواقعه وليس وعيه هو من يحدد وضعه، المثقفون العرب واليسار منهم خاصة (بحكم استيلائهم على الجامعات) قرروا بثقة كبيرة أن على الفرد العربي أن يرفع من وعيه بالصراع الاجتماعي أولاً، فإذا اكتمل وعيه وخاصة لجهة تحرره من الغيبيات والجهل يشرع في بناء الديمقراطية السياسية والاجتماعية.
ولا يختلف عنهم في شيء مثقف عروبي الهوى عندما يقدم وحدة الأمة السياسية على تحرير الفرد العربي في كل قطر من ربقة الديكتاتورية المطعونة في وطنيتها وقوميتها ولا مانع من استعمال الدبابة لبدء عملية الوعي وقد سار المثقف الإسلامي على منوال تفكير مقلوب فقال بأسلمة المجتمع أولاً دون أن ينتبه أن علاقة الفرد بالإيمان تمر أولاً بمقدار اكتفائه الذاتي الأساسي.
هذا السؤال شمولي (كلياني) في جوهره يعتمد فكرًا مثاليًا يقدم التنظير والتخيل على حركة الواقع، واعتقد أن تبني الأولويات المقلوبة يجسد تبعية فكرية لنموذج تفكير قاد الثورة الفرنسية وتفشي في الوعي الأوروبي منذ القرن الـ19 خاصة (وهو سليل تيار إنسانوي/ أفلاطوني نشأ كرد على تغوّل الكنيسة الأوربية في عصور الانحطاط) وطرح بدائل نهضة مناقضة لغطرسة الكنيسة وكفرها بالإنسان.
لأسباب تاريخية باتت معروفة حظي المثقف القومي بسبق الحكم واتبعه اليساري، فحظي بمكانة تصنيع النخب في الجامعات العربية ولم يفلح المثقف الإسلامي في ابتكار طرح مختلف بحكم وضعه كضحية أبدية للدولة العربية الحديثة، لكن جميعهم ظل يدور في ابستيميا كليانية ضيعت فرصة الانطلاق من الجزئي إلى الكلي
عصر النهضة العربي الذي انطلق مع عصر التنظيمات التركي أو استجاب لصداه في كل قطر تنبى هذه المنطلقات فوقع في مطب الكليانية الفكرية، فسبق بناء الدولة (الأجهزة) على بناء الإنسان الفرد، ولأسباب تاريخية باتت معروفة حظي المثقف القومي بسبق الحكم واتبعه اليساري فحظي بمكانة تصنيع النخب في الجامعات العربية ولم يفلح المثقف الإسلامي في ابتكار طرح مختلف بحكم وضعه كضحية أبدية للدولة العربية الحديثة، لكن جميعهم ظل يدور في ابستيميا كليانية ضيعت فرصة الانطلاق من الجزئي إلى الكلي أي أنها فقدت بوصلة الانتماء إلى الاجتماعي بمعناه العملي البراغماتي، فنظرت واقعًا لا تعرفه وقدمت حلولاً سلطوية غاشمة على أنها الحلول الأجدى.
وسبب ذلك في تقديري فهو أن الكليانية (كنظام تفكير) تمنح فرص تنظير كبيرة وتمكن المنظر/ المثقف من مجال حركة غير مراقب يمكنه فيه أن يحوّل أحلامه (فانتاسمته) إلى وقائع دون أن يعرضها إلى الاختبار الميداني العملي، وهو كسل لذيذ ومنتج للشهرة والمكانة دون محاسبة، والمطلع على الكثير من كتابات العرب المشارقة خاصة يجد هذا السبح الممتد في الخيال ويفقد الدراسات الميدانية المرقمة والكمية.
وقد كانت الأنظمة العسكرية العربية تعطي هذا الهامش للمثقف ولو كان في بعض ما يكتب معارضة لها، ففي كثير من هذه الكتابات والتي عمرت الجامعات والمكتبات لأكثر من نصف قرن شعرية مفرطة ووطنية بالغة وأحلام كبيرة عن المرتجى والمؤجل لكن ليس فيها خطط عملية للنهضة والبناء، فالأحلام الكبرى (أمة عربية واحدة أو أمة إسلامية متماسكة أو عدالة اجتماعية شاملة دون كراسات تطبيقية) تعوض بكل أريحية الانشغال باليومي والعملي النشيط والمضني.
الثورة العربية قامت ضد الاطروحات الكليانية
لقد فرّق الانشغال النخبوي السابح في الخيال بين النخب والجمهور العريض الذي يتحمل وحده كل تبعات تغوّل السلطة في كل قطر عربي بقطع النظر عن التفاصيل الشكلية للأنظمة (ملكي أو عسكري أو ديني) ولذلك كانت ثورة هذا الجمهور من خارج هذه السرديات الشمولية، فهي إذًا ثورة ضد الأنظمة في جانب منها وثورة ضد السرديات الكسولة من ناحية ثانية وقد قدمت دليلاً إضافيًا على عجز النخب عن الانتباه والتأقلم السريع مع المتغيرات، فكان جزء من الثورة ولا يزال يحفر في أسس هذه السرديات ليطعن في أسباب بقائها ويحطمها وهي لا تزال تمارس دور التعمية والتعويم عبر طرح المسائل التي تتقن طرحها، صراع الحداثة مع الدين (وانعكاسه اليومي يتجسد في صراع بين تيار الحداثة والتيار الديني والذي تتسرب منه المنظومات السياسية الفاسدة وتعود للتحكم في المشهد مستعملة نفس النخب للتبرير والتمويه).
تجليات هذا الصراع المغلوط يبزر بكل جلاء في مسار الثورة السورية التي بدأها الجمهور مطالبًا بالحرية فدفعها النظام الشمولي إلى التسلح وتسربت إليها الأطروحات الشمولية الدينية لتوفر لها ذريعة الإبقاء على شموليتها
تجليات هذا الصراع المغلوط يبزر بكل جلاء في مسار الثورة السورية التي بدأها الجمهور مطالبًا بالحرية فدفعها النظام الشمولي إلى التسلح وتسربت إليها الأطروحات الشمولية الدينية لتوفر لها ذريعة الإبقاء على شموليتها وتحمس لفيف كبير من مثقفي الأنظمة لإسناد النظام باسم الممانعة (ممانعة على طريقة الأنظمة العسكرية العربية التي قضت أكثر من نصص قرن تحتفظ بحق الرد في انتظار تحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو ولا تحرر شبرًا من الأرض).
كما يبرز في الحالة المصرية بجلاء أكبر ففشل الإخوان في تفكيك منظومة الحكم البائدة فتح مجال للعسكر لاستعادة السلطة بكل معايبها القديمة، الفشل نتج عن منطلقات خاطئة أهمها أن تملك السلطة مقدم على تملك المجتمع (وهي أطروحة شمولية بامتياز زينت للجميع المسارعة إلى انتخابات بشروط المنظومات القديمة) والرد العسكري باسم الوطنية المصرية أيضًا طرح شمولي يتملك الدولة (السلطة) لإخضاع المجتمع، ويمكن أن نجد أمثلة أخرى في تونس والجزائر واليمن.
إذًا أين البداية الممكنة لنقض الشمولية الفكرية ونتيجتها السلطوية؟
تفكيك السلطة المركزية وتجديد النخب
نموذج الدولة أو منوال الحكم الفرنسي الكولبرتي النابليوني والذي يعتبر نتيجة مباشرة للثورة الفرنسية ومنوال التفكير الشمولي الذي قادها، هو نموذج حكم وصل إلى نهايته وفقد مبررات وجوده تحت ضربات التطور التقني التواصلي، فأسلوب التحكم والسيطرة القائمة على الطاعة (بعقلية انتظام عسكري نابليوني) لم يعد ضروريًا وبالتالي فإن مركزية السلطة لم تعد مفيدة لأطراف الدولة بل مفقرة فكريًا وسياسيًا لعملية تجديد النخب والقيادات وقد نقدت كل دول أوروبا نماذجها المستقاة من نموذج الدولة الفرنسية للقرن الـ19 وتقدمت فيها عمليات اللامركزية الإدارية وهو ما سمح بحكم محلي فعال ورشيد ومراقب شعبيًا بشكل دقيق، ورافق ذلك ثورة أدبية وفنية مختلفة لا تنتظر إجازة المركز ولا تقديره.
وهذا المنوال الشمولي تم استنساخه عربيًا خاصة من قبل الأنظمة العسكرية الهاربة من نموذج كلياني آخر هو نموذج دولة الخلافة الإسلامية (وخاصة في آخر تجاربها التركية) وقد فقد قدرته على الفعل وإذن الربيع العربي بنهايته الحتمية وإن كان لا يزال يقاوم مستعينًا على شعبه بالصهاينة والروس والأمريكان والإيرانيين ونعتقد أن هذه بداية الخروج منه تبدأ من نقض مقولاته الشمولية وتفكيك نموذج الحكم المركزي الذي انبنى عليها أي بالشروع الفعلي في تأسيس حكم محلي بواسطة الفرز الانتخابي الدائم والاستفتاء في التفاصيل المهمة (النموذج السويسري وهو للتاريخ أكثر النماذج نقضًا للثورة الفرنسية ودولتها العسكرية) وتنظير ذلك على قواعد النفعية المباشرة للمواطن قبل النظام، ولو أدّى الأمر إلى تفكيك الكيانات الحكمية المزيفة التي بررت بقائها بوحدة الشعوب ووحدة الأمة ولم تنجز من ذلك إلا القهر الذي جعل الدولة كيانًا غريبًا ومرفوضًا في وعي المواطن العربي.
لا نحتاج هنا إلى نظريات كبرى (شموليات أخرى) نحتاج إلى وضع الجدل المادي البسيط قيد التطبيق وضع الناس المادي يحدد حاجاتهم إلى نموذج حكم وتصرف في الثروات والعلاقات الاجتماعية أي وعيهم بذواتهم في محيطهم الأقرب
إنه منوال البدء من المواطن صاحب الحاجة الذي يقوم إلى حاجته، وبعض حاجته هو الأعرف بها من المثقف المتمترس في كرسييه الجامعي النخبوي الذي يسمح له بإصدار كتابات كسولة عن مستقبل أمة يصطنع وجودها لعيش من تجارته.
إن نموذج الحكم المحلي يسقط المثقف الكسول عن عرشه المتخيل ويعطي المكانة للمثقف العملي (العامل) في الأطراف ليحكم نفسه بنفسه دون الرجوع إلى الأكاديميا المتعالية ويحقق مطلب الثورة العربية التي أنجزها هذا المثقف الصغير في قريته بعد أن فقد الأمل في تنظيرات المثقف المركزي الذي يبتز الدولة بزعمه معرفة الصواب.
لقد وضع الدستور التونسي نواة للحكم المحلي ستكون على بساطتها مفتاحًا لبناء المستقبل بشرط إسنادها على تنظيرات براغماتية تضع هدفها كسر السلطة المركزية والمثقف المركزي سليلي منوال التفكير الشمولي الكلياني وسيكون بيان ذلك موضوع مقال قادم.