“وقَبل أن أغفو أوصيكم بِهذا الوطن خيرًا” رددها شهداء تونس بعد أن توقفت بهم مسيرة النضال مغدورين برصاص الاستبداد، تعيش تونس هذه الأيام الذكرى السادسة لاستشهاد المئات من شبابها، ست سنوات مرت على ملحمة الحرية والكرامة، ذكرى جديدة تحمل في طياتها آلام وآمال جديدة تختلط الأهازيج فيها بين أغنية الشيخ إمام “كل ثورة وأحنا دايمًا فرحانين” وأغنية مارسيل خليفة “من أين أدخل الوطن”.
ست سنوات مرت ولا زال الشعب التونسي يركض وراء حلم الحرية والكرامة مقاومًا كل أشكال الردة على طموحات وتضحيات أجيال، وإن اختلف التونسيون في تقييم فترة ما بعد الثورة فالأكيد أنهم يتفقون في الإقرار بأن الثورة لم تحقق كل أهدافها بعد، ولكنهم يقرون أيضًا بأن شيئًا من الأهداف تحقق
فالاحتجاجات الاجتماعية التي تعيش على وقعها البلاد هذه الأيام، خاصة أنها تتمركز في نفس الخارطة الجغرافية التي انطلقت منها ثورة الحرية والكرامة وما قبلها في الرديف 2008 وبن قردان رمضان 2010، وإن ينزلها البعض في سياقات التحركات التي تعيشها البلاد كل سنة خلال شهر يناير انطلاقًا من احتجاجات 26 من يناير 1978 مرورًا بثورة الخبز يناير 1984 وصولاً إلى ثورة يناير 2011 وما لحقها من تحركات سنوية خلال هذا الشهر، وينزلها آخرون في إطار التنافس الانتخابي الذي يسبق مؤتمر منظمة الشغيلة في تونس (الاتحاد العام التونسي للشغل) أواخر هذا الشهر، فإنها تؤكد أن العمق الاجتماعي للثورة لا يزال غائبًا على جدول منجزات ما بعد 14 من يناير 2011.
رفع الشباب التونسي خلال الثورة جملة من الشعارات الاجتماعية طالبوا خلالها بالحد من أزمة البطالة والحد من التفاوت الجهوي وتحقيق العدالة الاجتماعية، بعد ست سنوات لا تزال نسبة البطالة في تزايد لتبلغ في الثلث الأخير من سنة 2016 نسبة 15.5% بعد أن كانت سنة 2014 في حدود 15.2 من نسبة النشيطين من السكان حسب المعهد الوطني للإحصاء، أيضًا خارطة توزع نسب الفقر حسب الولايات لا تزال على حالها كما كانت قبل 2011 إضافة إلى مؤشرات أخرى عديدة تثبت بطء المنجزات الاجتماعية للحكومات المتعاقبة ما بعد ثورة الحرية والكرامة.
إخفاقات على مستوى المنجزات الاجتماعية لا تحجب نجاحات حققتها النخبة السياسية ومن ورائها مختلف مكونات الشعب التونسي خاصة على مستوى سياسي، فالمتأمل في الساحة العربية والإسلامية يلحظ نجاحًا يسجل للثورة التونسية مقارنة بنظيراتها، ربما لخصوصيات الموقع الجغراسياسي لتونس فضلاً في ذلك، لكن الأكيد نضج الطبقة السياسية في تونس هو العامل الأهم في حالة التوافق السياسي والاستقرار النسبي التي تعيشه البلاد اليوم، فيحسب للثورة اليوم نجاحها في تكريس مناخ من الحريات والتداول السلمي على السلطة، إضافة إلى منجز دستور الجمهورية الثانية وما انبثق عنه من هيئات دستورية لضمان تحقيق العدالة والحرية، منجزات ترجمها تصدر تونس قائمة أكثر الدول ديمقراطية على المستوى العربي.
المنجزات السياسية للثورة التونسية تبعث في التونسيين وأصدقائهم حالة من الاطمئنان والثقة في إمكانية تحقيق الثورة التونسية لأهدافها خاصة في حال نجاحها في التغلب على التهديدات المختلفة المحيطة بالتجربة وأهمها الإرهاب
المنجزات السياسية للثورة التونسية تبعث في التونسيين وأصدقائهم حالة من الاطمئنان والثقة في إمكانية تحقيق الثورة التونسية لأهدافها خاصة في حال نجاحها في التغلب على التهديدات المختلفة المحيطة بالتجربة وأهمها الإرهاب، فرغم تحسن الوضع الأمني في تونس فلا تزال محاربة الإرهاب من أولويات الحكومة والشعب في تونس ولا تزال البلاد غير آمنة بشكل كامل من غدره وتهديداته، فتآمر أعداء الديمقراطية والتحرر العربي من القوى الدولية ووكلائهم على مستوى قطري خطر آخر يهدد الثورة التونسية.
وكذلك هشاشة الوضع الإقليمي المحيط في تونس وخاصة الوضع في الجارتين الشرقية والغربية من المخاطر المهددة للتجربة التونسية، ويبقى الاستقطاب الإيديولوجي الحاد بين الفرقاء التونسيين خاصة في ظل الجمود الفكري والسياسي الذي تعيشه بعض القوى السياسية في تونس من أبرز المخاطر التي تهدد الثورة التونسية.
مخاطر ورغم جديتها فالفرص المتاحة أمام التونسيين لإنجاح ثورتهم أكبر، وعل نوعية الرصيد البشري التونسي المثقف والمتعلم أهم فرصة لذلك، وطنية رجالات السياسة في تونس ونضاليتهم وصدقهم الذي أثبتته عدة محطات مرت بها البلاد عل أهمها الحوار الوطني التي عاشته تونس في 2014 فرصة أخرى لنجاح الثورة التونسية، حالة التوافق السياسي التي تعرفها البلاد بين أكبر المكونات السياسية في بلاد ورغم حاجتها لمزيد من التعزيز والتأمين والوضوح فهي ضمانة إضافية لإمكانية نجاح التجربة، كذك الحزام الدولي للتجربة التونسية الذي برهنه المؤتمر الدولي للاستثمار من خلال نوايا جملة من الدولة الصديقة لتونس في دعم التجربة فرصة هامة لنجاح ثورة تونس في تحقيق أهدافها السياسية والاجتماعية.
فالثورة التونسية التي ضحى من أجلها أجيال من التونسيين ورغم السلبيات المسجلة بعد إطلاق شرارتها والتهديدات المحيطة بها يجد التونسيين عزاءهم في منجزاتها السياسية والفرص الكثيرة والممكنة لتحقيق نجاحها، لكن الأمل الأكبر بعد الثقة في الله فهو الأمل في جيل التغيير الذي آمن بالثورة وشارك في إطلاق شرارتها ولا زال يقاوم من أجل الوفاء لشهدائها وتحقيق أهدافها.