تعلمنا الثورة عن أنفسنا أشياءً كثيرة لم نكن نعرفها، وربما كانت الدهشة أهم أعراضها أينما كانت وحيثما حلت، يلعن بعضنا الثورة، ويقدسها بعضنا الآخر، ينبش البعض بين سنوات تشكلها عن نتائجها التي لم تحدث ـ بعد ـ ويعلن البعض الآخر عن موتها إذ لم يتعرف على وجهها المتشكل بين أصابع الفنان/ الشعب الذي لا يعرف ماذا يصنع.
لكن وسط كل هذه الحيرة، وهذا التخبط بين الشك والإيمان، لا يمكن نكران عنف المشاعر التي اجتاحتنا جميعًا، باختلاف ثوراتنا وما آلت إليه، وباختلاف مواقفنا منها، لقد زلزلنا شيء ما فأعاد تشكيل الحقائق في أذهاننا في أدنى الحالات، وفي أقصاها دفعنا إلى أن نعيد عجن أنفسنا ونخرج إنسانًا جديدًا وأحلامًا جديدة ومشاعر جديدة تجاه العالم والوطن، لقد نجحت الثورة في هذا المستوى بما هي قلبٌ للمفاهيم المألوفة، والأشكال القديمة وعملية تحررٍ، تتملص من القديم وتتهيأ لخلق جديد.
لم يكن يوم 14 كانون الثاني (جانفي عند التونسيين) بداية الثورة التونسية، وهو أيضًا ليس نهايتها، ولكنه كمثل يوم سقوط الباستي Bastille عند الفرنسيين، رمزٌ لتحولها من انتفاضة كتلك التي سبقتها إلى شيء قاهر، يغير، يسقط، يهدم، ويعيد البناء.
ولأنها الذكرى السادسة للثورة، فقد اخترت لكم قائمة أفلام مهمة جدًا عن التحرر والانعتاق والتمرد ضد القمع، كل من هذه الأعمال، تقدم أفكارًا جديدة ومختلفة ومن منظور آخر ملهمٍ، من هوليود إلى اليابان، ومن المشهد التاريخي إلى التصور المستقبلي، يبدو أن الإنسان مبتلٍ بهم الحرية.
6- غاندي Gandhi (سنة 1982)
يعتبر الفيلم أحد أفضل أفلام السيرة التي تقع في الغالب في إشكالية التمجيد إلى حد يفقد الشخصية واقعيتها، هل كان آداء بين كينغسلي Ben Kingsley عبقريًا حتى التماهي، أم كانت شخصية غاندي بسيطة حتى العظمة؟ ربما كلاهما كان حقيقيًا، لا أحد يجهل قيمة المهاتما غاندي، ملهم الشعوب وصاحب أسلوب المقاومة السلمية الشهير، منح الممثل البريطاني بين كينغسلي هذا الرجل الهندي المقدس بعدًا إنسانيًا لم يمس أبدًا من قيمته بقدر ما زادها، ومنح المهاتما لكينغسلي أوسكاره الوحيد في سيرته المهنية التي عرفت ثلاثة ترشيحات أخرى، وحصد الفيلم عمومًا ثمانية أوسكارات سنة 1983 أمام أفلام أسطورية أخرى أهمها “الكائن الفضائي” E.T. the Extra-Terrestrial وتوتسي Tootsie.
يركز الفيلم على مسيرة غاندي من محامٍ هندي في إفريقيا الجنوبية، إلى قائد شعب نحو التحرر من السيطرة البريطانية التي امتدت لثلاثة قرون، ويعود إلى بدايات غاندي في إفريقيا الجنوبية حينما أطرد من قسم الدرجة الأولى في القطار لأنه هندي وليس بريطانيًا، حيث قاد عصيانًا مدنيًا في محاولة لإخضاع السلطات البريطانية للقانون، وهكذا تكون مفهوم المقاومة السلمية كحل ناجع ضد البريطانيين للحصول على الاستقلال الكامل، وقاد الشعب الهندي في مسيرة الملح التاريخية.
لقد بين الفيلم قيمة التسلح بالسلم كخيار ممكن وناجع للمقاومة، لكن الجمع بين ما يبدو متناقضين (أعني المقاومة والسلم) يحتاج إلى يد عبقرية مثل يد المهاتما، فالمقاومة تجنح بفعل تمردها وبحثها عن إرغام الواقع إلى العنف، ومن يتخلى عن العنف، يتخلى عن فعل الإرغام ويذعن، وكأن الجمع بين كليهما كمثل الجمع بين الماء والنار، لقد استطاع المهاتما أن يجمع بين الماء والنار بفضل مذهب الساتياغراها أي الإصرار على الحقيقة، لأن الحقيقة في النهاية هي سلاح الثورة الأول.
5- رجل من حديد Człowiek z żelaza (سنة 1981)
يروي لنا الفيلم البولسكي (Polska أو بولندة أو بولونيا) “رجل من حديد”، تفاصيل نضال العمال في دانسك Gdansk من أجل تحسين أوضاعهم المهنية والاجتماعية وتأسيس نقابة عمالية مستقلة، وصور لنا أحداث فرصوفيا 1980 من خلال الصحفي وينكل Winkel الذي كلفه النظام البوليسي باختراق تنظيم المحتجين والوصول للرأس المدبر وجمع أكبر ما يمكن من المعلومات حوله في محاولة لتشويهه وإلصاق ما أمكن من التهم القذرة، ولكن المخرج اخترق عبر مغامرة الصحفي Winkel الأحداث الحالية، إلى أحداث انتفاضة العمال في 1970 وما تلاها، حين مات والد “ماشق” Maciek (ماذا ألا ترون أنه تعريب جيد؟) المناضل، وتعلم هو فيها كيف يتعامل مع نظام قمعي وكيف يواجهه.
لم يكن الفيلم تاريخيًا لأنه عاصر زمن الأحداث، وقد سبب ذلك منعه من بولسكا مثلما حفز لجنة التحكيم في مهرجان كان Cannes لتتويجه بالسعفة الذهبية، ولكن الأهم من ذلك أنه يقدم لنا شكلاً آخر من أشكال النضال، وشكلاً آخر من أشكال القمع، في بولسكا كغيرها من دول شرق أوروبا كان الاتحاد السوفياتي يبسط قبضته عبر الحكومات الشيوعية التي تدعي ما ليس فيها، وكانت مواجهتها تتم عبر المبادئ نفسها التي تنادي بها الشيوعية، فكان تحرك ماشيق ورفاقه تحركًا عماليًا يساريًا ينادي بالعدالة الاجتماعية وكانت وسائل السلطة هي نفسها التي تكررها كل الأنظمة القمعية في العالم كله: التآمر والخونة والفبركة وإعادة رواية الأحداث.
إن ما يفوت هذه السلطات في كل مرة، هو أن الحقيقة التي تحاول تغييرها في أذهان الناس، لم تعد في أذهانهم، بل هي في بطونهم الخاوية، وفي ظهورهم الملتهبة بسياط القمع، وأذرعهم المحترقة بسجائر الجلادين.
4- رجال الساموراي السبعة Shichinin no Samurai (سنة 1954)
تعتبر تحفة المخرج الياباني العظيم أكيرا كوروساوا Akira Kurosawa ثورية على مستويات عديدة، فالفيلم نفسه ثورة سينمائية في زمنه، أرسى لقالب سردي جديد، وألهم الكثير من المخرجين من بعده، حتى إن البعض يعتبر نوع سينما السباغيتي Spaghetti (وهي أفلام رعاة البقر بإنجاز إيطالي) قد خرج من جبته رغم أنه لم ينجز أي فيلم من هذا النوع.
يروي الفيلم قصة معاناة المزارعين بإحدى القرى من هجمات قطاع الطرق المستمرة، ونهبهم لهم لضعفهم وقلة حيلتهم، لقد جاءت تلك اللحظة التي قرر فيها المزارعون أن الوقت قد حان لإيجاد حل آخر غير الخضوع، وهذه صورة أخرى لبداية تشكل النفس الثوري، غير تلك التي رأيناها سابقًا حين يكون هناك قائد ما يلهم الجماهير إلى فعل المقاومة.
كما أن طريقة المقاومة هنا تختلف عن الشكل السلمي الذي قدم في غاندي وفي رجل من حديد، إن المحتل الذي لا يدعي التحضر ولا يناور ولا يراوغ، ولا حل معه سوى القوة، وكان على المزارعين أن يبحثوا عمن يدافع عنهم، الرونين Ronin هم رجال الساموراي الذين لا مولى لهم، وباتوا مرتزقة يعملون لمن يدفع، وكان على المزارعين البحث عن رجال كهؤلاء يقبلون بالمقدار الزهيد الذي يملكون.
قاد الرونين كامباي Kambei رحلة البحث عن ستة رجال آخرين من أجل الدفاع عن القرية، وكانت الفكرة أن يعلم هؤلاء المقاتلون مزارعي القرية كيفية الدفاع عن أنفسهم وقد كان هذا الجانب الثوري الأخير.
كان سابع رجال الساموراي مزارعًا في أصله، ولكنه ادعى أنه ساموراي من أجل أن يتغلب على خوفه وجبنه، ومن أجل أن يتجاوز طبقته كمزارع ضعيف يعيش تحت سيطرة الأقوى، لقد كان كيكوشيو Kikuchio (أدى الدور ببراعة منقطعة النظير توشيرو ميفوني Toshiro Mifune) ثائرًا على نفسه ضد ضعفه قبل أن يكون ثائرًا على الآخر ضد العدوان، تعلمنا مغامرة هؤلاء الرجال السبعة أن الضعف عيب وأن القوم الذين يريدون تقرير مصائرهم، عليهم أن يواجهوا ضعفهم قبل كل شيء.
3- نادي القتال Fight Club (سنة 1999)
تعتبر سنة 1999 عظيمة في السينما، ويبدو أن الترقب المتشائم لنهاية القرن قد أثر على صناعة السينما مثلما أثر في الميادين الأخرى، وبعث برغبة جامحة في استقبال القرن الألفية الجديدة بشكل حضاري جديد، وقيم جديدة، وإنسان جديد، بهذا المعنى كان نادي القتال تعبيرة عصره، وكانت شخصيتا الراوي، وتايلور دردن انعكاسًا رائعًا لإنسان القرن العشرين المستعبد تحت آلة القهر الرأسمالية والإنسان المثال، المتمرد، القادر على تأسيس العالم الجديد.
يمكن اعتبار الفكر الثوري في نادي القتال نقيضًا تمامًا للساتياغراها التي رأيناها مع غاندي، ينظر نادي القتال للعنف كوسيلة لتحقيق الثورة وتحرير الإنسان، كان على الراوي أن ينضم لتايلر دردن صانع الصابون الغامض ومؤسس نادي القتال، حتى يتسنى له تحرير جسده وإرادته، ويصبح جاهزًا لتغيير العالم، لقد انضم الكثيرون للنادي، وبدأت القوة الكامنة تجهز نفسها للإعلان الكبير، لكن تايلر دردن كان يخفي سرًا كبيرًا، البند الأول لنادي القتال: لا تتحدث أبدًا عن نادي القتال!
2- الماتركس أو المصفوفة Matrix (سنة 1999)
يمكن للماتركس أن يجد نفسه في أي قائمة سينمائية من أي نوع تقريبًا، إن دسامته التي لم تفسد تجانسه الفني، ومتانته القصصية تبدو شيئًا غير معقول أصلاً، ولعل أكثرنا يعرف هذا الفيلم ويعرف قصة نيو Neo قرصان الكمبيوتر المحترف الذي يكتشف أن العالم الذي نعيش فيه مجرد كون رقمي افتراضي صنعته آلات ذكية وربطته بأمخاخ البشر ليتسنى لها استعبادهم، لكني سأهتم بعلاقة الفيلم بفكرة التحرر، وهي علاقة عضوية تمامًا.
إن الماتركس شأنه شأن كل أعمال الأختين (الأخوين سابقًا) واشوسكي The Washowskis دعوة للتحرر والتمرد والثورة، ولئن تبلورت هذه الدعوة بشكل صريح في فيلمهما اللاحق “في مثل فينديتا” V for Vendetta فإن شكلها الأكمل كان مع الماتركس.
وعبر الثلاثية كلها، رسمت الأختان مراحل عملية التحرر وشروطها، ربما بشكل شبيه بعالم المثل الذي وصفه أفلاطون، أو ربما بشكل أقرب لعمل الأنبياء، لقد كان الأنبياء دومًا أصحاب ثورة، يأتون بالحقيقة الصادمة لأقوامهم التي يرفضونها إلا نفر منهم، ويغيرون حياتهم وحياة العالم من بعدهم.
اهتم الجزء الأول من الماتركس بتحرير نيو من المعرفة الزائفة، وتمكينه من القدرة على تقبل الحقيقة ومعرفة نفسه (كما كان مكتوبًا عند باب العرافة)، أما الخطوة الثانية The matrix reloaded فتمثلت في الإعداد للثورة بإيجاد الأداة المناسبة (مفتاح المصدر) كما ركز هذا الجزء على أن الثورة خيار بالأساس، إيمان داخلي عميق بالقدرة على إحداث التغيير رغم استحالته، وهو ما تحقق في الجزء الأخير The matrix revolution حيث يظهر الإيمان كقيمة أصلية وسلاح للتحرر، ذلك أن الإيمان يمنح الإنسان جانبًا سحريًا يتجاوز المنطق والمعرفة، ويدفعه إلى تجاوز نفسه.
1- بابيون Papillon (سنة 1973)
الحقيقة أنه لا علاقة لفيلم بابيون بأية ثورة، وكان من الممكن أن أذكر أسماء أفلام أخرى كثيرة عن الثائرين العظام (Spartakus 1960) وعن الأمم المناضلة (Braveheart 1995) لكنني ارتأيت اقتراح هذا الفيلم لأنه أفضل الأعمال السينمائية تجسيدًا للحرية.
في غويانا الفرنسية French Guyana، يوجد سجن فرنسي خاص ذو نظام صارم، يحشر فيه أخطر السجناء الذين انعدم لديهم كل أمل قضائي في العودة إلى فرنسا، كان لويس ديغا Dega (الممثل الكبير دستين هوفمان Dustin Hoffman) وهنري شاغياغ الملقب ببابيون Papillon (النجم ستيف ماكويين Steve McQueen) نزيلين في السجن الرهيب المنفي عن العالم، ولأن كلمة “بابيون” تعني الفراشة بالفرنسية، فلم يكن شاغياغ قادرًا على البقاء سجينًا ليوم واحد، كانت خططه للهرب تجهز من قبل أن يصل، وتتعدد المحاولات وتتعدد معها الإخفاقات، وتتعاظم معاناة الرجلين من أجل تذوق شيء اسمه الحرية.
إن أجمل ما أبرزه الفيلم، هو أن الحرية ليست وسيلة، بل هي غاية في حد ذاتها، قيمة تمنح الإنسان ذلك الامتياز الذي يجعله يقبل بالحياة ويقبل عليها، إن الشعوب الحرة وحدها قادرة على صنع حياة حقيقية، ولذلك تكتسب تضحيات الإنسان والشعوب من أجل الحرية معناها.