مثلما كانت سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على الموصل العراقية عام 2014 نقطة تحول في المنطقة، يرى المراقبون أن استعادة هذه المدينة الهامة، يشكل بداية التحول لمرحلة جديدة خطيرة بالمنطقة ككل، خاصة في حال فشل الحكومة العراقية والقوى الإقليمية الفاعلة بالمنطقة، في الاتفاق على من يملأ الفراغ بعد داعش، وبات السؤال الملح الآن: ماذا ينتظر العراقيون بعد داعش؟ وكيف ستدار الموصل؟ وهل يتجه العراق إلى حرب أهلية طائفية جديدة؟
ماذا ينتظر العراقيون بعد تحرير الموصل؟
حلم العيش المشترك
التحدي الأكبر الذي يواجه العراق الآن، بحسب رؤى المحللين، هو مدى نجاحه في إقناع العراقيين – بكل اختلافاتهم الطائفية – بالانتماء للدولة، وتحقيق العيش المشترك بين الشيعة والسنة.
المتتبع لخيوط معركة داعش يدرك جيدًا صعوبة الأماني السابقة المطلوبة من الحكومة العراقية، ما لم تجد دعمًا إقليميًا ودوليًا، خصوصًا مع انتشار تقارير استخباراتية عسكرية دولية، عن تزايد تصدير شحنات الأسلحة من السعودية وبعض الدول الخليجية، إلى القبائل السنية بالأنبار في الأشهر الأخيرة، مما يعني أن الاستعداد يجرى على قدم وساق لمواجهة حتمية بين تلك القبائل وميليشيات الحشد الشعبي الفاعلة بالمعركة، والتي يشكل الشيعة السواد الأعظم منها، مما يعني احتمالية قوية لنشوب حرب أهلية بين الشيعة والسنة.
هل يكون للفرقة الذهبية دور في حفظ العراق ما بعد داعش؟
الفرقة الذهبية
ما يقوي ويدعم هذا الطرح أن “الفرقة الذهبية” وهي القوة العسكرية المشكلة من عدة طوائف وبعيدة إلى حد ما عن فكرة المحاصصة الطائفية، والتي دربتها الولايات المتحدة لفرض كلمتها بالعراق في حربها ضد داعش، هذه الفرقة أُنهكت واُستنزفت بسكل كبير في المعركة الدائرة الآن بالموصل، ولن يكون بمقدورها التدخل لإيقاف القتال بين الفرق المذهبية بعد دحر داعش، حيث ستكون قد فقدت وقتها أفضل مقاتليها في المعارك الحالية بشوارع الموصل.
فرق الموت الشيعية بالعراق
مشاحنات طائفية
تخوف المراقبين من سيناريو الحرب الأهلية نابع من كون المنطقة تشهد أيضًا مشاحنات طائفية كثيرة، جراء التهميش المتعمد للسنة في العراق، بعد الاحتلال الأمريكي في العام 2003، كما أن التصريحات التي يطلقها قادة الحشد الشعبي، من أنهم ذاهبون إلى الموصل من أجل الانتقام من قتلة الحسين، تثير المخاوف من انفجار إقليمي أكبر، مهدت لها مظاهرات القبائل السنية المتتالية خاصة بعد رحيل الأمريكان نهاية 2011 ، والمنددة بالاضطهاد والتهميش للسنة من قبل الحكومات العراقية الشيعية التي تلت الاحتلال الأمريكي.
وتحولت الأجواء الاحتجاجية بالمناطق السنية إلى بؤر مشحونة بالطائفية، واستغلت الخلايا السلفية والجهادية الفرصة للخروج إلى العلن، وتقمُّص دور المدافع عن السنة في وجه الشيعة، وهي النقطة ذاتها التي مهدت لتنظيم داعش احتلال مدن كثيرة بالعراق في العام 2014، بسرعة تثير الحيرة، دون أي صعوبات لما لاقاه من حاضنة اجتماعية، وجدت في فكرة “الخلافة” التي جاء بها التنظيم حلمًا مثاليًا ومخلصًا من سياسات المالكي والعبادي المهمّشة للسنة.
المواجهة محتدمة بين الرياض وطهران
صراع مذهبي
لذلك يرى الخبراء أن عملية تحرير الموصل لا يتوقع لها أن تطفئ الغضب السني تجاه حكومة بغداد، مما ينذر بصراع سياسي مذهبي بشأن السلطة مباشرة، بعد إجلاء التنظيم من الموصل، ولا سيما مع دعم السعودية حلفاءها من السنة بالعراق، ودعم إيران حلفاءها الشيعة أيضًا، في إطار حرب الدولتين بالوكالة في المنطقة، والتي تدفع باتجاه مواجهة طائفية، شبيهة بتلك التي عانت منها بغداد في العام 2006، قياسًا على التوجهات الحالية مع مطالبات السنة بحكم ذاتي بعيدًا عن سلطة بغداد، عبر تشكيل مجلس يتولّى القيادة في المحافظات ذات الغالبيّة السنيّة (الأنبار ونينوى وصلاح الدين وكركوك وديالى) على غرار فكرة كردستان العراق.
وهو ما سترفضه وتقاومه الحكومة الشيعية بالتأكيد، الرافضة لفكرة إلغاء المحاصصة الطائفية والعرقية، وإنهاء احتكار السلطة من قبل الأحزاب الشيعية، في مقابل تهميش أبناء الطائفة السنية، وهو عامل لا يغيب عن أسباب التدهور الشامل الذي آلت إليه أوضاع البلاد على مختلف المستويات، اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، إلى حد سمح لبضعة آلاف من متشددي داعش في 2014 بغزو مساحة تتجاوز ثلث العراق كاملة، مما يعني أن مرحلة ما بعد انهيار تنظيم داعش في الموصل، تمثل الاختبار الواقعي لقيادات العراق السياسية، بمختلف انتماءاتها، ولصناع القرار، لبناء الدولة أو لترسيخ اللادولة.
هل تنجح تركيا في قطع طريق التواصل بين أكراد العراق وسوريا؟
الدور الإقليمي
هنا يعول المراقبون على أهمية الدور الإقليمي والدولي، والمنبثق أساسًا من التفاهم المؤقت بين كل من السعودية وتركيا من جهة، وإيران والميليشيا الشيعية والحكومة العراقية الداعمة لها من جهة ثانية، لدحر تنظيم داعش في الموصل.
هذا التفاهم أعاد العلاقات التركية الإيرانية لخطوط تقارب عريضة في العراق كما في سوريا، في مقابل الرهان الأمريكي الروسي على الدور الكردي في الإقليم، وبالتالي فإن هذه الدول عليها أولاً الاتفاق على ماهية المرحلة التالية لتحرير الموصل، من حيث المحاصصة الطائفية، والتمثيل السياسي لكل الأطياف، والتوافق على توزيع المهام قبل الغنائم، وهو أمر قد يتضح من موقف التحالف الدولي من الرقة، التي تعد النظير السوري للموصل، والموقف بين الدول الثلاثة (تركيا وإيران والسعودية) بخصوص حلب وإدلب الآن.
تحالف هش
في المقابل يتخوف المراقبون من هشاشة التحالف التركي الإيراني، قياسًا على الاختلافات المنهجية والعقدية والمصلحية بين الجانبين، والأزمة المستعرة بين طهران والرياض، مما يعني أن هذه التفاهمات مجرد لحظة عابرة، تشرف على مستقبل يحيطه الغموض في العلاقات بين البلدين، مع اتساع حدود التناقض.
تحركات مطلوبة
الكرة إذًا في ملعب القوى الفاعلة إقليميًا كما أسلفنا، وعليها التحرك وفق ما يقتضيه الموقف لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ليس فقط بالعراق، ولكن لمصلحتها أيضًا، فتركيا عليها أن تدرك أن الموصل هي المانع الأول لاتصال كردستان العراق والمواقع الكردية في سوريا، وفي حال نجحت في تجنيب المدينة نيران الحرب الطائفية بالتعاون مع المملكة اختياريًا، وإيران قسريًا، ستبقي المشاريع الاستقلالية الكردية، في سوريا والعراق، على شكل أقاليم جغرافية مطوقة ومعزولة، مما يمنع الأكراد الأتراك في النهاية من الاستفادة من تلك المتغيرات الإقليمية الجديدة غير المرغوب فيها.
فيما ترى المملكة أن تأجيج صراع مذهبي جديد بالعراق على غرار الوضع في سوريا ليس في مصلحتها الآن، خصوصًا مع تعقد الأزمة اليمنية وعدم اتضاح أية ملامح في أفق الحل على المدى القريب، أما إيران فهي تعلم تمامًا أن التوافق الآن على تأجيل أي مواجهة مع القوى السنية يصب في صالحها لحين الانتهاء من الموقف السوري في حلب وإدلب، وتحديد قدر المكاسب والخسائر فيها.