تحت عنوان “الشراكة والسلام والبزوغ”، انطلقت اليوم السبت، بالعاصمة المالية “باماكو”، أعمال الدورة السابعة والعشرين لقمة إفريقيا – فرنسا، بمشاركة أكثر من خمسة وثلاثين رئيس دولة وحكومة، لبحث العديد من الملفات الأمنية والسياسية والاقتصادية المتعلقة بالقارة الإفريقية من جانب، والعلاقات مع فرنسا من جانب آخر.
تأتي هذه القمة بعد أربع سنوات من الوجود العسكري الفرنسي المكثف داخل مالي، الدولة المستضيفة للقمة، والذي ساهم بشكل كبير في القضاء على العناصر الإرهابية، بما يلمح – بحسب الخبراء – لرغبة الرئيس الفرنسي أولاند في استعراض حصاد سياساته الإفريقية قبيل رحيله عن قصر الإليزيه، ليبقى السؤال: هل تأتي هذه القمة في دورتها الحالية لدعم عملية السلام والشراكة أم لتسويق الحضور الفرنسي الإفريقي دوليًا؟
لماذا مالي؟
لم يكن اختيار مالي كدولة مضيفة لقمة إفريقيا – فرنسا اختيارًا عشوائيًا، فالعلاقة بين فرنسا ومالي علاقة وثيقة ومترابطة منذ عقود طويلة، فبعيدًا عن كونها إحدى الدول الغنية من حيث الثّروات الطبيعية، فصلاً عن أهميتها الجيوبوليتيكية والتي دفعتها لأن تكون قبلة للقوى الدولية المختلفة، إلا أن هناك أبعاد أخرى لهذه العلاقة، وهو ما دفع باريس لاختيارها الدولة المضيفة لهذه القمة بصفة خاصة.
بدأت إرهاصات الرغبة الفرنسية في التدخل العسكري في مالي، عقب الانقلاب العسكري الذي وقع بها عام 2012، والذي استغلته باريس لتضخيم الآثار المترتبة عليه، ومحاولة إقناع المنظومة الدولية بضرورة التدخل لحمايتها من الجهاديين والجماعات الإرهابية، خوفًا من تمددها لبقية الدول المجاورة وفي مقدمتها الشمال الإفريقي، الجزائر، موريتانيا والنيجر، فضلاً عن توظيف بعض جرائم اختطاف عدد من الرهائن الفرنسيين في عدد من الدول الإفريقية لخدمة هذا التوجه، وبالفعل وضعت القوات الفرنسية أقدامها من جديد داخل غرب إفريقيا عبر بوابة مالي.
وفي قراءة تاريخية يلاحظ أن التدخل العسكري الفرنسي في مالي عقب الانقلاب ليس الأول من نوعه، فمنذ 1960 تدخّلت باريس أكثر من أربعين مرّة في بعض الدول التي كانت مستعمرات فرنسية في السابق، وعلى الرغم من تنوع دوافع وأسباب التدخل العسكري الفرنسي في هذه الدول، ما بين دعم أنظمة ديكتاتورية سلطوية، ومساندة تحوّلات ديمقراطية، وتغليب فصائل على حساب أخرى، فإن مصالح فرنسا دائمًا كانت هي الدافع الثابت لتدخّلاتها العسكرية في إفريقيا مهما اختلفت المسببات.
لذا وبعد أربع سنوات من التدخل الفرنسي في مالي، والنجاح في القضاء على الغالبية العظمى من العناصر الإرهابية بها، كان اختيارها لاستضافة القمة الحالية من الأهمية بمكان، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الفرنسيجان مارك أيرولت، الذي أكد على البُعد الرمزي لاختيار مالي لاستضافة القمة بعد أربع سنوات على تدخل عسكري دولي بمبادرة من باريس لطرد مجموعات مسلحة استولت على شمالي البلاد.
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
الوجود العسكري الفرنسي في دول إفريقيا
مكافحة الإرهاب على رأس الأولويات
يفرض الملف الأمني ومكافحة الإرهاب نفسه على مائدة نقاش الزعماء المشاركين في هذه القمة، إضافة إلى العديد من الملفات الأخرى، من بينها الديمقراطية والعمل الدبلوماسي والاقتصاد والشباب وغيرها من القضايا التي تمثل أهمية كبرى للدول الإفريقية من جانب، والفرنسيين من جانب آخر، وهو ما كشفت عنه الاجتماعات التمهيدية لوزراء خارجية الدول المشاركة في هذه القمة والتي عقدت بالأمس في العاصمة المالية.
أولا: الملف الأمني.. ستركز القمة على قضية الإرهاب والبحث عن طرق جديدة ومتطورة لتطويقه والقضاء عليه، وعلى الرغم من نجاح التدخل العسكري الدولي في القضاء على نسبة كبيرة من الوجود الإرهابي داخل مالي، إلا أن بلدانًا أخرى بينها بوركينافاسو وكوت ديفوار تواجه هي الأخرى تهديدات الإرهاب، وسبق أن تعرضت قبل أشهر لعمليات تفجير دموية.
ثانيًا: الملف الدبلوماسي.. حيث فرضت أزمة الانتخابات الرئاسية في غامبيا نفسها على مائدة النقاش الإفريقي خلال الفترة الماضية، مما يجعل من القمة فرصة مناسبة لإعادة طرحها مرة أخرى خاصة فيما يتعلق بمتابعة الاتفاق السياسي في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وتطور أزمة ما بعد الانتخابات، في محاولة للوصول إلى نقطة اتفاق بين النظام الحالي برئاسة يحيى جامبي، المتمسك بكرسي الرئاسة حتى بعد هزيمته، والمعارضة، بما يجنب الدولة ويلات الحرب الأهلية.
ثالثًا: ملف التنمية المستدامة.. من المقرر أن تكون القمة الحالية فرصة لتجديد الدول الإفريقية المشاركة، التزامها بخصوص التنمية المستدامة، ومكافحة الاحتباس الحراري التي اتخذتها خلال مؤتمر “كوب1″ في باريس و”كوب2” في مراكش، فضلاً عن تفعيل سبل التعاون المشترك لفرض السلام والتنمية الشاملة.
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
أكثر من 3000 جندي فرنسي ينتشرون حاليًا في خمس دول إفريقية
حصاد أولاند
“قمة إفريقيا – فرنسا.. قمة للحكومات أم للشعوب؟” تحت هذا العنوان بثت قناة “فرانس 24” تقريرًا تليفزيونيًا عن أبعاد هذه القمة، والدوافع الحقيقية ورائها، حيث أشار التقرير إلى أن توقيت ومكان انعقاد القمة يعد مناسبة جيدة لاستعراض حصيلة سياسة الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند، إزاء إفريقيا والتي برزت في التدخل العسكري في مالي، وكذلك زيادة المساعدات الفرنسية للتنمية، وإطلاق عملية سانغاريس في إفريقيا الوسطى، وذلك قبيل رحيل الرجل عن قصر الإليزيه، حيث تعد هذه الخطوة من أبرز إنجازاته طيلة مدته الرئاسية.
أولاند فور وصوله للعاصمة المالية قال إن تدخل بلاده في مالي، قبل أربع سنوات، مكن من منع سقوط هذا البلد في أيدي الجهاديين، مضيفًا “ما زال أمامنا الكثير من العمل، لتطبيق الاتفاقيات، وضمان الأمن، في كل منطقة الساحل”.
وبحسب مصادر فرنسية فإن باريس التزمت بما تعهدت عليه سابقًا بشأن تدريب 20 ألف من الجنود الأفارقة على الأساليب الأمنية المتطورة في مكافحة الإرهاب، فضلاً عن نيتها الإعلان خلال القمة الحالية عن التزامها بتدريب 25 ألف جندي إضافي كل عام.
بعد مرور أربع سنوات من هذه العملية، يوجد بمالي لا سيما المنطقة الشمالية منها، قرابة ألف جندي فرنسي، ضمن عملية “برخان” التي اعتبرها الرئيس الفرنسي عند زيارته لتمبكتو في الثالث من فبراير 2013، أهم حدث في حياته السياسية
السياسة العسكرية الفرنسية تركز على التدريبات اللازمة لتأهيل وإعداد وحدات عسكرية وأمنية متخصصة في محاربة الإرهاب وفي المراقبة، وحسب الجهات المنظمة، فستكون القمة الحالية مناسبة لوضع حصيلة عسكرية وأمنية وسياسية لعملية “سرفال” التي أطلقتها فرنسا القوة الاستعمارية السابقة في مالي يوم 11من يناير 2013، لمنع إقامة دولة إرهابية بعد أن سيطرت جماعات مسلحة على صلة بتنظيم القاعدة على مساحات شاسعة من مالي.
وبعد مرور أربع سنوات من هذه العملية، يوجد بمالي لا سيما المنطقة الشمالية منها، قرابة ألف جندي فرنسي، ضمن عملية “برخان” التي اعتبرها الرئيس الفرنسي عند زيارته لتمبكتو في الثالث من فبراير 2013، أهم حدث في حياته السياسية.
جدير بالذكر أن أكثر من 3.000 جندي فرنسي ينتشرون حاليًا في خمس دول إفريقية، موريتانيا وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد، إضافة إلى مالي، كجزء من عملية “بوركين”، ومقرها في تشاد، وتهدف العملية إلى منع تهديد المتشددين المحتملين عبر منطقة الساحل في القارة.
الرؤية الفرنسية إفريقيًا
من خلال ما سبق وبنظرة تاريخية للوجود الفرنسي داخل إفريقيا، يلاحظ أن التدخل العسكري الفرنسي في البلدان الإفريقية عامة تم بدعوى تحرير الرعايا الفرنسيين، ومساعدة هذه الدول في القضاء على الإرهاب انطلاقًا من المسؤولية الدولية لفرنسا، مستغلة الأزمات السياسية والاقتصادية وضعف البنية العسكرية لهذه الدول، إلا أن هذا التدخل في حقيقته يكشف عن مساعي باريس للحفاظ على مصالحها داخل القارة، وذلك بعد تراجع نفوذها مقابل تنامي وتزايد نفوذ قوى صاعدة في تعاملاتها الاقتصادية والتجارية في إفريقيا خاصة الولايات المتحدة والصين والهند وكذا اليابان وغيرها.
قمة إفريقيا – فرنسا تأتي ضمن هذا الإطار الذي تحرص فيه فرنسا على الوجود في مناطق الأزمات والصراعات في إفريقيا، وخصوصًا الدول الفرانكفونية، مما يجعلها دومًا على أهبة الاستعداد للقيام بمهام عسكرية كبيرة تعزز من بقائها واستمرار وجودها داخل القارة
كما أن الأزمات الاقتصادية التي تعرضت لها دول أوروبا بما فيها فرنسا، دفع الأخيرة إلى البحث عن موارد لمعالجة هذه الأزمة عبر اللجوء إلى مستعمراتها القديمة، واستغلال ما تملكه القارة من ثروات وموارد متنوعة، فضلًا عن تخوفها من سيطرة الجماعات الإسلامية على الشمال الذي يمكن أن يمثل تهديدًا أمنيًا وعسكريًا للشمال الأوروبي، فضلًا عن إمكانية سيطرة هذه الجماعات على مناطق تحتوي على ثروات معدنية ضخمة، وخاصة البترول والفوسفات والحديد واليورانيوم، فبعد هذا التدخل وقعت فرنسا صفقات اقتصادية كثيرة مع شركات استغلال مناجم الذهب والفوسفات والبحث عن البترول.
لذا وطبقا لما سبق، فإن قمة إفريقيا – فرنسا تأتي ضمن هذا الإطار الذي تحرص فيه فرنسا على الوجود في مناطق الأزمات والصراعات في إفريقيا، وخصوصًا الدول الفرانكفونية، مما يجعلها دومًا مستعدة للقيام بمهام عسكرية كبيرة تعزز من بقائها واستمرار وجودها داخل القارة، ومن ثم فإن الرؤية المستقبلية للتدخلات العسكرية الفرنسية – الراهنة والمحتملة – تتحرك باتجاه تعظيم هذه الآلية والتعويل عليها، خاصة بعد تعاظم النفوذ الأمريكي الصيني الروسي والذي قد يهدد المصالح الفرنسية هنالك.