17 من ديسمبر – 14 من يناير 2011، خرج التونسيون، شيب وشباب، جماعات وفرادى، ينادون بالحرية والكرامة الوطنية وإسقاط نظام ظل جاثيًا على رؤوسهم وقلوبهم لعقود عدة، ست سنوات من ثورة الحرية – مهد الربيع العربي -، تحقق فيها لتونس عديد من المكاسب المهمة رغم بعض الإخفاقات التي شهدها مسار الثورة.
مكاسب مدنية وسياسية
في الـ17 من شهر ديسمبر 2010، أضرم الشاب محمد البوعزيزي النار في جسده، أمام مقر محافظة سيدي بوزيد (وسط) احتجاجًا على مصادرة عربته من قبل الشرطية فاديا حمدي وتعرضه للإهانة من قبل قوات الأمن، بعدها خرج مئات الآلاف في كل المدن التونسية، شمالها وجنوبها، شرقها وغربها، تضامنًا مع البوعزيزي ومطالبين بالعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والأهم إسقاط النظام، فكان أبرز شعار لهم “شغل، حرية، كرامة وطنية”، احتجاجات أدت لاحقًا إلى هروب بن علي خارج البلاد عشية الـ14 من يناير 2011 وسقوط نظامه الذي استمر 23 عامًا.
ست سنوات بعد هذه الأحداث، شهدت تونس إنجازات ومكاسب عديدة، فرغم الإخفاقات وخيبات الأمل التي عرفتها الثورة التونسية، تبقى هذه الثورة حدثًا بارزًا في ارتباطه بقدرة الشعب على التعبير والانتفاض على السائد وتحقيق إرادته، فكانت له الحرية التي نادى بها وتحقق لهذا الشعب الذي ظل يعاني لعقود طويلة من الديكتاتورية، مكاسب عدة في مجال حرية التعبير، مكن صحافته من احتلال المرتبة الأولى عربيًا في مؤشر منظمة مراسلون بلا حدود لحرية الصحافة، في السنوات الأخيرة.
بعد سقوط نظام الحزب الواحد والأحزاب الكرتونية، في يناير 2011، شهدت تونس تأسيس عشرات الأحزاب السياسية بتوجهات فكرية مختلفة
خلال سنوات الثورة، تمكن شعب تونس من دسترة الحريات وسن قوانين تتعلق بحرية الصحافة، أهمها قانون حق النفاذ إلى المعلومة، وخلالها شهدت البلاد، أيضًا، بعث عديد من المؤسسات الإعلامية، السمعية والبصرية والمكتوبة والإلكترونية تشرف عليها هيئات تعديلية، بعد سقوط النظام الشمولي الذي احتكر مؤسسات الإعلام وطوعها لفائدته ولمصلحة نظامه الديكتاتوري، فأصبحنا أمام الرأي والرأي المخالف، حتى بتنا نخشى من هذه الحرية أن تنقلب إلى ضدها وتنتشر الفوضى، كباقي دول المنطقة.
نهاية النظام الشمولي في تونس
بعد سقوط نظام الحزب الواحد والأحزاب الكرتونية، في يناير 2011، شهدت تونس تأسيس عشرات الأحزاب السياسية بتوجهات فكرية مختلفة، خاضت محطات انتخابية حرة بوأت بعضها تصدر المشهد التونسي، بعد أن كانت قياداتها في دهاليز الداخلية، نسمات الحرية طالت أيضًا الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، فتأسست آلاف الجمعيات برؤى عديدة وشمل نشاطها مختلف فئات المجتمع التونسي، وتمكن بعضها من خلق توازن اجتماعي وسياسي، حيث كانت المنظمات المدنية راعية للحوار الوطني ووسيطة، ونجحت في إنقاذ تونس من براثن أزمة حقيقية وتوجت جهودها بجائزة نوبل للسلام.
“سلمية” رغم بعض المطبات
على عكس باقي الثورات العربية، كانت الثورة التونسية من أقل الثورات التي عانت مطبات وتقلبات أمنية، الأمر الذي يحسب لشعبها، فقد نجح الشعب التونسي في تجنب الاقتتال الداخلي والفوضى العارمة وسقوط الدولة وتفكك مؤسساتها، مثلما حدث في ليبيا ومصر وسوريا واليمن، فعوض العنف انتهجت تونس نهج الحوار والتوافق، فحصدت جائزة نوبل للسلام سنة 2015، تكريمًا للاستثناء التونسي وتجربته الناجحة في التداول السلمي الديمقراطي على الحكم عبر انتخابات تحت إشراف هيئة مستقلة عن السلطة التنفيذية.
عرف التونسيون خلال هذه الفترة 3 رؤساء و8 حكومات تعاقبوا على قصري قرطاج والقصبة، وتداولوا السلطة بطرق سلمية
نجح التونسيون خلال هذه السنوات في تحويل الصراع بين قوى اليمين واليسار من سجال أيديولوجي إلى سجال سياسي قائم على المؤسسات والاحتكام إلى المنظمات، فكتبوا دستورًا توافقيًا أشادت به دول العالم لحداثته وما تضمن من فصول ثورية، وعرف التونسيون خلال هذه الفترة 3 رؤساء و8 حكومات تعاقبوا على قصري قرطاج والقصبة، وتداولوا السلطة بطرق سلمية قل نظيرها في باقي البلدان العربية، بعد ثلاث محطات انتخابية وصفت بـ”الشفافة” وذات “المصداقية”.
هيئات دستورية لمراقبة المسار وتعديله
نجاح تونس في سن دستور الجمهورية الثانية والمصادقة عليه في يناير 2014، وإجراء انتخابات تأسيسية في أكتوبر 2011، وانتخابات رئاسية وبرلمانية في أكتوبر ونوفمبر من العام الماضي وخلق تعددية سياسية وفكرية وثقافية، تزامن مع إنشاء هيئات دستورية تشمل حقوق الإنسان والمجال الانتخابي ومكافحة الفساد والانتقال الديمقراطي والإعلام.
نجحت تونس في تنظيم انتخابات أشادت بنجاحها دول العالم
وعلى الرغم من بعض التحفظات الواردة على تركيبة البعض من الهيئات الدستورية وطريقة أدائها ومسلكية عملها، ومن المخاض الدستوري الثقيل لبعض الهيئات الدستورية، فإن جميعها حافظ على بوصلته الصحيحة، فقد نجحت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية حرة ونزيهة.
وأقر الدستور التونسي إرساء هيئات دستورية أخرى إلى جانب الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وهي هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد للمساهمة في سياسات الحوكمة ومنع الفساد ومكافحته في القطاعين الخاص والعام، وهيئة حقوق الإنسان والتي تهدف إلى تكريس احترام الحريات وحقوق الإنسان والعمل على تعزيزها، بالإضافة إلى هيئة التنمية المستدامة وحماية حقوق الأجيال القادمة، والمجلس الأعلى للقضاء.
مشاكل تؤرق كاهل الشعب
نجحت الثورة التونسية في تحقيق الاستحقاقات السياسية والمدنية والحريات الخاصة والعامة، لكنها بالمقابل لم تكن منصفة للمطالب الاجتماعية والاقتصادية الملحة، فذات المطالب الاجتماعية والاقتصادية التي نادت بها حناجر الشباب الذي ثار، ما زالت لم تراوح مكانها، حيث عجزت الحكومات المتعاقبة عن تحويل “الثورة” إلى” ثروة”.
عادت الاحتجاجات لمهد الثورة سيدي بوزيد وعديد من المناطق الأخرى على غرار “القصرين” و”قفصة” و”بن قردان”، مطالبة بالتنمية والتشغيل
عجز حكام تونس خلال سنوات الثورة على تخطي عتبة نسبة 1% في النمو الاقتصادي للبلاد وتقليص عدد العاطلين عن العمل لا سيما من فئة الشباب حاملي الشهادات الجامعية العليا والتحكم في تدهور سعر صرف الدينار في الأسواق العالمية.
كل هذه العوامل أدت إلى مزيد من تردي الأوضاع الاجتماعية واهتراء الطبقة الوسطى على خلفية الزيادات في الضرائب، وتدهور القدرة الشرائية للتونسيين، فعادت الاحتجاجات لمهد الثورة سيدي بوزيد وعديد من المناطق الأخرى على غرار “القصرين” و”قفصة” و”بن قردان”، مطالبة بالتنمية والتشغيل وحفظ كرامة الإنسان، الأمر الذي يستدعي ضرورة التدخل العاجل ووضع منوال تنموي يرتقي بمختلف المحافظات التونسية ويساهم في تقليص البطالة ويحد من تدهور المقدرة الشرائية للتونسيين.