ماذا يعني ارتفاع الدين العام العالمي والعربي؟

تعد اليابان واحدة من أكثر الدول تقدمًا في العالم على جميع الأصعدة ويحتل ناتجها الإجمالي المرتبة الثالثة عالميًا على مستوى العالم حيث يبلغ 4 ترليونات دولار تقريبًا ولديها علامات تجارية كبيرة تتمتع بسمعة عالمية مثل “تويوتا” و”سوني” و”فوجي فيلم” و”باناسونيك” و”هوندا”، وعلى الرغم من أن اليابان تمتلك القليل من الموارد الطبيعية فإنها تمكنت من وضع نفسها على خارطة التجارة العالمية كثالث قوة تجارية في العالم ويسجل الميزان التجاري ربحًا سنويًا بتصدير المواد المصنعة المتنوعة حيث تساهم بـ7% من التجارة العالمية.
إلا أن اليابان وعلى الرغم من كل هذا التطور والنجاح الاقتصادي فلديها المديونية الأكبر على مستوى العالم نسبة للناتج الإجمالي، حيث يبلغ حجم ديونها نحو 9 ترليون دولار وتدفع سنويًا نحو 115 مليار دولار فوائد سنوية عن تلك الديون السيادية ويبلغ نسبة الدين الياباني القومي على ناتجها الإجمالي 219.43%.
يبلغ نسبة الدين الياباني القومي على ناتجها الإجمالي نحو 219.43%
أما من حيث القيمة فيتربع الدين الأمريكي صاحب أكبر اقتصاد عالمي على القمة، حيث تبلغ ديون الولايات المتحدة 19.959 ترليون دولار أي أنها قريبة من 20 ترليون ومطالبة أن تدفع سنويًا 444 مليار دولار تقريبًا، بينما تبلغ نسبة الدين العام على الناتج الإجمالي 106.88%.
ساعة الدين العالمي
تشير بيانات الديون العالمية التي تحسبها ساعة الديون العالمية أن العالم مديون بنحو 63 ترليون دولار تقدر فوائدها بما يقارب 4 ترليونات دولار، فالرقم يتغير في كل ثانية مع تغير حساب الديون السيادية وفوائدها في أكثر من 123 اقتصادًا حول العالم.
تقسم الديون إلى ديون سيادية تصدرها الحكومات بالعملة الأجنبية وتسمى أذون الخزانة أو دين سيادي وهناك قسم آخر من الديون تصدره الحكومة بالعملة المحلية وتسمى ديون محلية والدين العام هو مجموع الدين المحلي والأجنبي على حد سواء.
وبحسب بنك التسويات الدولية فإن العالم سيواجه أزمة ديون خلال السنوات المقبلة لأن المستثمر سيعزف عن شراء سندات الخزانة التي تصدرها الدول، فارتفاع الدين العام يجعل الدول في مرمى عجز عبء الديون في حال لم تحقق نسب نمو مرتفعة، فكلما انخفضت نسب النمو يُفرض ضغط كبير على الدولة لتسديد ديونها السيادية وعلى قدرتها على الاقتراض مرة أخرى.
تشير بيانات الديون العالمية أن العالم مديون بنحو 63 ترليون دولار
وبات اقتصاديون حول العالم يصنفون ارتفاع الديون السيادية العالمية في رزمة المخاطر الاقتصادية التي يعاني منها الاقتصاد العالمي مثل تباطؤ النمو وانخفاض نسب التضخم وارتفاع البطالة وتراجع أسعار السلع الأولية كالنفط الخام والمخاطر السياسية التي تؤثر على الاقتصاد.
وفي حال واصلت نسب النمو والتضخم حول العالم في تسجيل معدلات متدنية فإن هناك ملامح أو إرهاصات أزمة مالية جديدة تعصف بالاقتصاد العالمي حذر منها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي العام الماضي 2016، فكلما تزايدت الديون العالمية تزايدت معها أعباء خدمتها، وفي ظل الظروف الحالية التي يعاني منها الاقتصاد العالمي فإن هناك دول ستكون غير قادرة على السداد بشكل أو بآخر، ومتى ما دخلت الدولة في عدم قدرتها على سداد ديونها ستضغط على بنود الإنفاق العام في الميزانية وتتخذ إجراءات تقشفية تتخلى فيها عن سياسة الدعم للمواد الأساسية وتخصخص شركات وتخفض الرواتب وتقلص عدد العمال وأمور كثيرة أخرى قد تؤدي جملتها إلى ظهور اضطرابات شعبية تزيد من المشكلة وتؤخر الحل، كما حصل مؤخرًا مع اليونان.
الاقتصاد الأمريكي يعد في قلب أزمة الدين العام فاستمرار نمو معدل الدين العام هناك بنفس الوتيرة في الفترة المقبلة سيتجاوز في سبتمبر/ أيلول 2017 مستوى 21.5 ترليون دولار أي أنه سيرتفع بمقدار 2.4 ترليون دولار مقارنة بمستواه في نفس الشهر من العام الماضي.
ويرى محللون أن المشكلة الرئيسية التي خلفها أوباما لخليفته ترامب هي الديون، إذ يجري حاليًا تحديد سقف الدين العام في الولايات المتحدة بنحو 20.1 ترليون دولار وعلى هذه الوتيرة فإن الدين سيصل إلى هذا المستوى بحلول مارس/ آذار المقبل كما حذر خبراء من تفاقم الدين العام الأمريكي في عهد ترامب واحتمال ارتفاعه إلى 25 ترليون دولار.
ترامب سيواجه مشكلة كبيرة في تمويل خططه في التوسع بالإنفاق على البنية التحتية بسبب ارتفاع المديونية
وعليه فإن ترامب سيواجه مشكلة كبيرة في تمويل خططه في التوسع بالإنفاق على البنية التحتية والتي خصص لها قرابة ترليون دولار، كما أن خدمة الديون المرتفعة ستكون سببًا رئيسيًا في منعه من رفع معدل الفائدة تجنبًا لمضاعفة عجز الميزانية وبالتالي بقاء الاقتصاد الأمريكي تحت وطأة الركود.
باتت الأزمة الاقتصادية كما يشير اقتصاديون أقرب من أي وقت مضى وأنها امتداد للأزمة المالية 2008 فإذا تم حل تلك الأزمة بتدخل الحكومات فإن هذه أزمة الديون السيادية والتي أصابت دول العالم المتقدم قبل الدول الناشئة ومن بينها الولايات المتحدة أكبر اقتصاد في العالم لن يكون علاجها سهلا أو سريعًا، لإن الحل يتعلق بخفض الدين فقط، علمًا أن هذه الأزمة ستتحول من أزمة عابرة إلى أزمة بنيوية تتعلق بالنظام الرأسمالي العالمي والهندسة المالية المتبعة.
ما فائدة الدين؟
لا يوجد دولة في العالم غير مدينة، حتى الدول الغنية والتي لديها ثروات طبيعية، ويعود ذلك لبعض الفوائد الهامة للدين العام بالنسبة إلى الاقتصاد، ومن تلك الفوائد؛ عملية إدارة السيولة في الاقتصاد، فأدوات الدين القصيرة الأجل تستخدمها الحكومة في امتصاص السيولة من الاقتصاد في حال ارتفاع معدل التضخم. إلى جانب أن الدين فرصة لتوفير سيولة مالية زائدة بيد الحكومة لتطبيق سياساتها المالية وتنفيذ خططها التنموية.
الفائدة الأخرى والمهمة هي أن الدين العام يعد مرجعية أساسية في تسعير الأصول الاستثمارية الأخرى كسندات الشركات والأسهم والعقارات وغيرها، بحكم أن سندات الحكومة تحمل المخاطرة الأقل نسبيًا فالحكومة تلتزم بالسداد لحاملي السندات مهما كان وضعها المالي ولا تشهر إفلاسها، فإذا كان سعر الفائدة على سندات الحكومة لأجل 90 يومًا 3% سنويًا، فهذا يعني أن الأصول الأخرى يجب أن تكون أعلى من هذا المعدل نسبة وتناسب مع ارتفاع المخاطرة، لذا فسندات الحكومة تعد مرجعًا لتسعير العائد على الأصول المالية الأخرى.
ومن جهة أخرى، الدين العام يعد فرصة استثمارية ثمينة للمؤسسات المالية، ومؤسـسات التقاعد والتأمينات، ومؤسسات الإقراض المتخصصة، والأفراد أيضًا، لتنويع أصولهم الاستثمارية إلى جانب شراء الأسهم والعقارات.
إلا أن زيادة الدين بشكل كبير لا يعتبر حالة صحية في الاقتصاد، فعندها ستحتاج الحكومة تمويل أكبر وتضطر لرفع سعر الفائدة على سنداتها، ما يؤدي إلى مزاحمة الحكومة للقطاع الخاص في مجال الاقتراض من الجهاز المصرفي، فتعزف البنوك عن تقديم القروض للمشاريع والاستثمارات في القطاع الخاص والاكتفاء بشراء سندات الحكومة كونها مضمونة الربح وانعدام نسبة المخاطر فيها.
كما أن تفاقم الدين يشير إلى ارتفاع أعباء خدمة الدين من أقساط وفوائد وهذا يؤثر على حجم الإنفاق على بند الاستثمار وعلى مجالات التعليم والصحة والأجور وباقي المجالات المتعلقة بتحسين سبل المعيشة وتلبية حاجات التنمية البشرية في المجتمع، وهذا كله يضر بالمواطن ومعيشته بالضرورة.
الدين العام في الدول العربية
في المراتب العشرة الأولى للبلدان التي احتلت أكبر الديون على مستوى العالم نسبة للناتج المحلي لا يوجد من بينها دولة عربية، وحسب بيانات “ستاندرد آند بورز” ارتفعت ديون 11 دولة عربية من بينها دول مجلس التعاون الخليجي المنتجة للنفط إلى 143 مليار دولار في العام 2015 وأعلنت الشركة مؤخرًا ارتفاع ديون عدد من الحكومات العربية إلى أكثر من الضعف في العام الماضي متوقعة أن تظل مرتفعة خلال الأعوام المقبلة.
ومن بين الدول العربية التي تواجه دينًا مرتفعًا لبنان ومصر والسودان والعراق والأردن وموريتانيا وتونس والبحرين والمغرب واليمن، علمًا أن معظم هذه الدول تأثرت اقتصاداتها بفعل مؤثرات سياسية فضلا أنها تعاني من اختلالات في الهياكل الاقتصادية حيث تعتمد على الخارج بشكل كبير وعدم تطبيق خطط تنموية تعود بالفائدة على الاقتصاد فضلا عن اعتمادها على إيرادات النفط والغاز بشكل جعلها مرتهنة على أسعار الطاقة العالمية.
بلغت نسبة الدين العام على الناتج المحلي الإجمالي في مصر نحو 118%
حيث بلغت نسبة الدين العام على الناتج المحلي الإجمالي في مصر نحو 118% حسب تقديرات الربع الأول من العام المالي 2016/2017 ومن المتوقع أن تتجاوز ديون مصر الخارجية حاجز السبعين مليار دولار بعد احتساب شرائح صندوق النقد الدولي والاستدانات الأخيرة للحكومة المصرية، كما ارتفعت المديونية العامة في الأردن أيضًا إلى نحو 95% من الناتج المحلي، وفي دول الخليج قدرت تقارير أن نسبة الدين العام سترتفع إلى 59% من الناتج المحلي خلال الخمس سنوات المقبلة مقارنة مع 30% في نهاية العام 2015.
عمليًا المشكلة ليست في الدين بحد ذاته بقدر ما تتعلق بقنوات الإنفاق المحددة لدى الحكومة، فمعظم الدول المتقدمة لديها نسب مرتفعة من الدين العام ولكنها توجه الأموال نحو استراتيجة تنموية تعود بالفائدة على الاقتصاد والمواطن، بعكس الدول العربية التي تنفق على البنود الجارية أكثر من البنود الاستثمارية وتعتمد على استيراد السلع والخدمات من الخارج بدلاً من توجيه الأموال نحو الاستثمار في جميع المجالات وأبرزها التعليم والصحة.
فاقتصادات الدول العربية لم تستفد من الوفورات المالية في موازناتها في بناء هيكل اقتصادي (زراعة، صناعة، تجارة، خدمات) متنوع يقلل من الواردات ويعتمد على ذاته أكثر من الخارج، ويهتم بالشباب وبالشركات الناشئة لخلق فرص عمل والدخول في عمليات إنتاجية للسلع والخدمات في المجالات كافة.
واستمرار الوضع على ما هو عليه في ظل اضطرابات سياسية في الدول العربية واعتمادها المفرط على النفط، ستواجه الدول العربية عوائق في سداد الديون وتكلفة عالية في خدمتها، ما يحتم عليها الدخول في حلقة مفرغة لخدمة الدين على حساب خطط التنمية ورفع معدلات النمو وبالتالي لا سبيل لتحقيق ما يصبو له المواطن من تحقيق حياة مستقرة في اقتصاد مزدهر يؤمن فيها فرصة عمل ودخل مالي كافٍ ومتطلبات الحياة المختلفة التي يطمح لها.
ولا أمل بالقضاء على معدلات البطالة المرتفعة والفقر والتخلف بل المزيد من التقشف والمزيد من التبعية للمؤسسات الدولية المانحة وفقدان المستثمر الثقة بالأسواق المحلية وانخفاض التصنيف الائتماني وهو ما يقود لتجنب شراء المسثمرين سنداتها في المستقبل وفقدان الثقة باقتصاد البلد الذي سيعتبره المستثمر ركيكًا وضعيفًا.
والحل يكمن في تصحيح المنهج الاقتصادي الذي تسير عليه الاقتصادات العربية بالتحول من الاعتماد على الغير إلى الاعتماد على الذات والتوسع في العمليات الإنتاجية للسلع والخدمات والتي ستؤدي لخلق فرص عمل وتخفيض معدلات البطالة والفقر وإيقاف تسرب الأموال إلى خارج الاقتصاد بسبب استثمارها داخل الاقتصاد المحلي.