من الكونغرس الأمريكي إلى تيريزا ماي، يحتاج الجميع لأن يفهموا أنه عندما يستلم الرئيس المقبل مهام عمله فلن يعود لقواعد التعامل العادية وجود.
بقي أسبوع واحد ثم تعم البلبلة. سيؤدي دونالد ترامب القسم يوم الجمعة المقبل وسيصبح بذلك رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك لا يعرف أحد بعد كيف يتعامل مع ما هو قادم.
ما لبث السياسيون والصحفيون والدبلوماسيون في الولايات المتحدة وحول العالم يبحثون عما يرشدهم، ويقلبون بهلع صفحات كتاب قواعد التعامل، ذلك الدليل الذي يشتمل على التجارب السابقة وعلى ما هو متعارف عليه من معايير قضوا أعمارهم يتعلمونها ويتدربون عليها. إلا أن الكتاب بات بلا قيمة أو معنى بعد أن حرقه ترامب قبل شهور ونسفه نسفا، فلم يبق منه ولم يذر.
في الأزمان الاعتيادية حتى تلك الأجزاء القليلة المثبتة من “الملف القذر” التي كُشف النقاب عنه هذا الأسبوع كانت تكفي لتقويض الرئيس القادم. ومع ذلك، نح جانبا التفاصيل الشنيعة لذلك الذي جرى داخل غرف الفنادق في موسكو، وافترض أنها غير صحيحة، وركز بدلا من ذلك على حقيقة أن وزارة العدل الأمريكية طلبت، وفي نهاية المطاف مُنحت، مذكرات تسمح لها بالتحقيق في معاملات مصرفين روسيين وفي ارتباطاتهما بسلسلة من معارف وشركاء ترامب.
وتذكر كم من الضرر لحق بهيلاري كلينتون لمجرد عودة مكتب المباحث الفيدرالية (إف بي آي) إلى النظر (تارة أخرى) في طريقة استخدامها لحاسوب رسائل الإيميل الخاصة بها. بغض انظر عما وجوده – وقد تبين أنهم لم يجدوا في نهاية المطاف شيئاً – فإن مجرد العلم بأنها كانت رهن التحقيق أصابها بضرر بالغ ربما كان السبب في حرمانها من الرئاسة. ومع ذلك، نعلم الآن بأن المحققين الفيدراليين كانوا حريصين على التحقيق مع فريق ترامب ليس بشأن أسلوب التعامل مع رسائل الإيميل وإنما بشأن ما هو أعظم خطراً وأشد وطأة: حول وجود ارتباطات محتملة مع قوة أجنبية معادية.
كما علمنا أن الملف يتضمن مزاعم بأن لقاءات سرية جرت بين مساعدي ترامب ومسؤولين روس. حتى الآن لم تثبت صحة هذا الزعم وقد يتضح فيما بعد، كما ظل يصر ترامب، أنه مجرد “قمامة”. ولكن مصدر هذا الزعم وثيقة اعتبرتها وكالات الاستخبارات الأمريكية على درجة كافية من المصداقية لدرجة أنها قدمت بها وبما اشتملت عليه من معلومات تقريراً إلى الرئيس أوباما وإلى الرئيس المنتخب ترامب.
في نفس السياق، وفي تطور مذهل، نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية خبراً مفاده أن مسؤولي المخابرات في البلاد جاءتهم توصية من نظرائهم في الولايات المتحدة بعدم إشراك إدارة ترامب في أي معلومات استخباراتية لئلا تتسرب هذه المعلومات وتجد طريقها إلى موسكو ومن هناك إلى طهران. فعلياً، ما يقوله عملاء المخابرات الأمريكية هو أن رئيسهم القادم ليس موضع ثقة ولا يؤتمن على الأسرار لأن فلاديمير بوتين يملك “أدوات للضغط” عليه.
في الظروف الاعتيادية، مثل هذه التحقيقات وحدها كافية للإطاحة برئيس دولة. إلا أن الظروف الحالية لا تمت إلى الاعتيادية بصلة. وفعلاً، إذا كان ثمةدرس يمكن تعلمه مما جرى خلال العام المنصرم فهو أن ما يمكن في العادةأن يدمر سياسياً عادياً فإنه بالكاد يصيب ترامب بخدش بسيط. بل في بعض الأوقات تراه يقويه ويعزز من وضعه.
في هذه الحالة بشكل خاص، لا يوجد ما يضمن أنه فيما لو حصل تصادم بين وكالات الاستخبارات ووسائل الإعلام الأمريكية من جهة وبوتين من جهة أخرى ألا ينحاز مؤيدو ترامب إلى جانب بوتين. ولا أدل على ذلك من أن استطلاعاً للرأي أجري في الشهر الماضي أثبت أن نسبة الجمهوريين الذين يشيدون بالزعيم الروسي تفوق نسبة من يشيدون منهم بالرئيس أوباما، حيث كانت النتيجة 37? لصالح بوتين في مقابل 17? لصالح أوباما.
إذا كان ترامب يصب جام غضبه على أجهزة الاستخبارات – ولما يستلم بعد مهام عمله – مذكراً الأمريكيين بسقطة الادعاء بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، وهو الزعم ثبت بطلانه في واقع الأمر، ومتجاهلاً حسبما يتوافق مع هواه حقيقة أن إدارة بوش هي التي مارست أشد الضغوط على أجهزة المخابرات حتى تقدم له الأجوبة التي أراد سماعها – فمن ذا الذي يملك الجزم بأن هذه معركة لن يكسبها في نهاية المطاف؟
سيكون الثمن هو عدم تصديق الشعب الأمريكي لأجهزة مخابراته حتى لو حذرته من أن خطراً حقيقياً يحدق بالأمن القومي – ولكن ترامب لن يعبأ بذلك، فهو لن يتورع عن الدوس على مؤسسات الجمهورية الأساسية مادام ذلك يساعده ويخدم مصلحته الذاتية.
سيكون من الخطأ تطبيق المعايير المتعارف عليها في الظروف الاعتيادية على ترامب. لنأخذ على سبيل المثال الدراما التي شهدنا فصولها هذا الأسبوع عندما مثل عدد من مرشحيه لشغل الحقائب الأساسية في حكومته أمام مجلس الشيوخ سعياً للحصول على إقرار المجلس بتعييناتهم. كلهم نطقوا بكلام معسول مطمئن، حيث أصر المرشح لشغل منصب وزير العدل بأنه ليس عنصرياً على الإطلاق، بينما صرح المرشح لمنصب وزير الخارجية بصرامة بأنه لا يقبل بأن يكون أداة في يد بوتين.
سارعت دوائر واشنطن الرسمية إلى اغتنام هذه اللقيمات التي تبعث على الشعور بالارتياح، وخاصة بعد أن غرد ترامب ما بدا أنه إقرار منه بأن أعضاء فريقه يخالفونه الرأي في عدد من القضايا الأساسية، قائلاً: “أريد منهم أن يكونوا أنفسهم وأن يعبروا عن أفكارهم وليس عن أفكاري!”
ولكن ماذا لو كان هذا الإذن منه لهم بممارسة الاستقلالية مجرد استعراض؟ لربما لا توجد لدى ترامب خطة لاستخدام وزرائه لأي شيء فيما عدا تجميل شكل إدارته. يقول روبين نيبليت، مدير مركز شاتام هاوس إنه فيما يتعلق بالسياسة الخارجية فقد يثبت أن ريكس تيلرسون مجرد سفير مبالغ في حجمه ودوره. أما سلطة صناعة القرار فقد لا تغادر ترامب وزوج ابنته جاريدكوشنر ومؤسس موقع بريتبارت الإخباري ستيف بانون. يقول نيبلوت إن ذلك يتناسب مع نمط تفكير وسلوك ترامب حيث “تتركز السلطة قريباً جداً من شخص الرئيس التنفيذي.”
أو لربما كانت واشنطن ترى الأشياء من خلال العدسة الخطأ؟ إذ من المؤكد أن يكون محتملاً أيضاً أن فريق ترامب أعطى المرشحين لشغل الحقائب الوزارية الإذن بقول ما يريدون حتى ينالوا موافقة مجلس الشيوخ على تعيينهم، سواء كان ما يقولونه حقاً أو باطلاً. بالنسبة لترامب، التوافق والحق من سمات الخاسرين، وهو يرى أن من الأسهل أن يكذب المرء إذا كان ذلك سيعود عليه بما يصبو إليه من نتائج. وبناء عليه، لم يكن تيلرسون بحاجة لأن يتورط في جدل طويل حول سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه روسيا. كل ما توجب عليه قوله هو أنه ورئيسه ترامب لم يناقشا هذه المسألة على الإطلاق، بغض النظر كم يبدو مثل هذا الكلام غير وارد وغير معقول. المهم أنه قام بمهمته على أكمل وجه.
يشكل ذلك لغزاً بالنسبة للنقاد. في كثير من الأحيان يتعاملون مع ترامب كما لو كان سياسياً طبيعياً، تقيده الأعراف المعتمدة، بما في ذلك الحرج من أن يضبط وهو يمارس الكذب. إلا أن ترامب ليس سياسياً طبيعياً، فهو لا يستحي ولا يشعر بأي حرج. بينما تحمر وجوه معظم السياسيين إذا ما كشف عن انعدام التوافق والانسجام بين ما يقولون وما يفعلون، ناهيك عن أن يثبت انعدام نزاهتهم، نجد أن ترامب غير قابل للإحراج. حتى نيكسون حاول جاهداً بارتباك وتلبك شق طريقه نحو جملة واحدة يمكن أن يفهم منها أنه كان على حق. أما ترامب، الذي يشيد به أنصاره ويعظمون شأنه كما لو كان الامبراطور الإله، فلا يتورع عن مهاجمة كل غلام تسول له نفسه أن يقول إنه رآه بلا ملابس – وذلك قبل أن ينتقل إلى نعت ذلك الطفل بأنه “كومة فاشلة من القمامة”.
لا توجد سابقة يمكن للإعلاميين وصناع السياسة أن يسترشدوا بها، لأنه لم يشهد تاريخ الولايات المتحدة لا من قريب ولا من بعيد رئيساً مثل ترامب. ولذلك سيكون من الخطأ الجسيم الالتزام بما ورد في كتاب القواعد والأصول الذي بات الآن رماداً هبت عليه الريح فما أبقت، وفي الحالة البريطانية بالذات يمثل التمسك بذلك الدليل خطيئة كبرى.
ما لبثت لندن منذ عام 1945 تحرص على البقاء أقرب ما يمكن من واشنطن. وهذا الأمر هو الذي ينص على ضرورة الالتزام به ذلك الدليل الذي يتسلمه كل دبلوماسي بريطاني وكل نزيل جديد في المبنى رقم 10 (مقر رئيس الوزراء). وتأكيداً على ذلك تلتزم تيريزا ماي باتباع ما فيه من إرشادات –ولذلك ابتعثت قائد الأركان بنفسه، بدلاً من السفير البريطاني في واشنطن، ليقابل ترامب ويتوسل إليه بأن يحدد موعداً مبكراً لاجتماع يعقد بين الزعيمين، وسط كل ذلك الحديث المألوف والمتسول وغير المتبادل عن “العلاقات الخاصة”.
بالتأكيد، هذا ما يمكن أن تتوقعه من رئيسة وزراء بريطانيا لو كان الرئيس الأمريكي الذي على وشك استلام مهامه في العشرين من يناير إنسان طبيعي. إلا أن ماي لم تستوعب بعد أن ترامب حالة شاذة، ولذلك لا ينبغي أن تطبق القواعد والأصول المعتادة بشكل تلقائي. (يذكر أن أنجيلا ميركيل أكثر حذراً واحترازاً.)
بدلاً من ذلك، تكرر ماي نفس الخطأ القاتل الذي ارتكبه طوني بلير في عام 2001، حين اعتقد بأنه يتوجب عليه أن يكون قريباً من جورج دبليو بوش كما كان قريباً من بيل كلينتون، ولم يقدر أن الرجلين كانا في غاية الاختلاف، وأن بوش كان محاطاً بمجموعة من الأيديولوجيين المهووسين الذين كانوا قد عقدوا العزم منذ اللحظة الأولى على شن حرب على العراق. ها هي ماي تتصرف بنفس الشكل ودون تمييز. وفي خضم بحثها المحموم بعد التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي عن أصدقاء وشركاء تجاريين ذهبت تعد نفسها لإبداء مشاعر الدفء والمودة والتقارب تجاه رجل يبدو بوش مقارنة به كما لو كان أبراهام لينكولن. ولعلها تكتشف فيما بعد أنها بذلك ارتكبت أكبر خطأ في حياتها وأكثرها تكلفة.
لكن بإمكانك رؤية لماذا يحدث ذلك. إنها هي وطاقمها لا يعرفون طريقة أخرى للعمل، كما أنهم وكثيرون غيرهم مازالوا يمنون أنفسهم بأن ترامب على وشك تحويل نفسه إلى سياسي بإمكانهم أن يعرفوه وأن يفهموه.
ولكن لم يفعل ولن يفعل. عليهم، كما علينا أيضاً، أن نتوقف عن إيهام أنفسنا، وعلينا أن نبحث عن أفضل السبل للتعامل مع ترامب كما هو وليس كما نتمنى.